لطالما أذكرُها مُنهمِكة بتزويج الناس. فأمّي كانت تجدُ لذّة شديدة في العمليّة مِن بدئها حتى إتمام الزيجة، لتعودَ وتبحثُ مِن جديد عن قلبَين تربطُهما ببعضهما.
للحقيقة، كنتُ أحبُّ أن أتسمَّع إلى زوّارنا الجالسين في صالوننا وأنا مُختبئة وراء الحائط، وكيف أنّ والدتي كانت تُرتّبُ الأمور بسلاسة عظيمة، نتيجة خبرة سنوات طويلة. وفي مُعظم الأحيان، كان العريسان يعيشان بإلفة تامّة ويُنجبان الأولاد ويعودان إلينا شاكرَين... إلا في حالة واحدة أدخلَتنا في مأساة كبيرة وغيّرَت مجرى حياتنا كلّنا. واليوم أتمنّى لو لَم تكن أمّي وسيطة زواج يومًا.
دخَلَ وسيم يومًا بيتنا وعرَضَ على والدتي مواصفات العروس التي يبحثُ عنها، وما أن خرَجَ حتى سمعتُها تقولُ لي:
ـ أُخرجي مِن خلف حائط يا فتاة! هل تظنّين أنّني لَم أرَكِ؟ تعالي واجلسي معي. أظنُّ أنّ لدَيّ العروس المُناسبة لوسيم. أنتِ تعرفينها جيّدًا، فهي ابنة البقّال. أجل، مِرفت.
ـ لكن يا أمّي... مِرفت هي... أقصد... أعني أنّها صبيّة ذات سمعة سيّئة.
ـ تفاهات! الفتاة فقط مسرورة بجمالها ومُلاحقة الشبّان لها! الناس يُحبّون كثرة الكلام فقط للتسلية.
ـ ووسيم شابّ هادئ ومُهذّب. لا أراهما مُناسبين لبعضهما.
ـ وهل صِرتِ وسيطة زواج أنتِ الأخرى؟ لا تزالين في الخامسة عشرة مِن عمركِ، ما أدراكِ بالناس وطباعهم؟
ـ صِرتُ أعرفُ الكثير بفضلكِ يا أمّي. على كلّ الأحوال، أنتِ نادَيتِني.
ـ أجل، لكن ليس لِسماع رأيكِ بل لكثرة فرحتي بإيجاد العروس بسرعة.
ـ أعودُ وأُكرّرُ لكِ: يلزمُ لوسيم صبيّة أخرى وليس مِرفت أبدًا.
ـ عودي إلى غرفتكِ! لا، بل قومي بدلاً مِن ذلك بتنظيف المطبخ، هيّا أيّتها الفيلسوفة!
بعد يومَين، جاءَت إلينا مِرفت وأمّها وكلّمَتهما والداتي عن وسيم وانتهَت الجلسة بالموافقة. فكان لا بدّ لمِرفَت أن تجدَ عريسًا لتُسكِت ألسُن الناس عنها وعن مواعيدها الليليّة مع الشبّان. كنتُ قلقة على وسيم الذي كان بالفعل وسيمًا، وأعترفُ أنّني كنتُ مُعجبة به بالرغم مِن فارق العمر بيننا. ولو كنتُ أكبر سنًّا لتزوّجتُه أنا. كنتُ أحبُّ فيه هدوءه ومعرفته الواسعة بمواضيع مُختلفة، إذ أنّه كان يقرأ في كتبه طوال الوقت، أي عندما كان يعودُ مِن عمله ويجلسُ في ساحة القرية لساعات طويلة حاملاً الكتب والمجلات. أمّا مِرفت، فكان كلّ همّها مظهرها ولبسها ومَن تُعجِبُ ومن نظَرَ أو لَم ينظُر إليها.
تمَّت الزيجة بعد أشهر قليلة، وذهَبَ الثنائيّ إلى شهر العسل قبل أن يسكنا في بيت وسيم الفارغ منذ موت والدَيه. وكان للعريس أخ واحد مُسافر بعيدًا فقط.
تابعَت أمّي تزويجها للناس بينما بدأَت الأحداث تتطوّر في بيت وسيم وعروسه. فبعد أسابيع قليلة على زواجهما، عادَت مِرفت إلى عادتها القديمة، أي التعاطي مع مُعجبيها الذين لَم يتقبّلوا إفلات هكذا إنسانة سهلة مِن بين يدَيهم. فصارَت تخرجُ يوميًّا خلال النهار ومِن ثمّ مساءً بحجّة مُلاقاتها صديقاتها. إلا أنّ الأمور لا تبقى مخفيّة مطوّلاً، فبدأَت الأخبار تصلُ إلى وسيم الذي طلَبَ مِن زوجته التقليل مِن خروجها مِن البيت تفاديًا لِما أسماها "إشاعات"، فالمسكين لَم يُصدِّق أنّ عروسًا قد تتجرّأ على خيانة عريسها هكذا.
في تلك الفترة بالذات زارَنا وسيم شاكيًا، فطمأنَته والدتي بأنّ مِرفت لَم تتأقلَم بعد على الحياة الزوجيّة، وعادَت وأكّدَت له أنّها إنسانة خلوقة وسيّدة منزل رائعة. إقتنَعَ منها وسيم وغادَرَ وقلبه مليء بالأمل والاطمئنان. كدتُ أخرجُ مِن مَخبئي لأصرخَ له بأنّ عليه تركها ونسيانها، إلا أنّني تراجعتُ عن ذلك، فما دخلي أنا؟ وسنّي لَم يكن يسمحُ لي بالتدخّل في أمور البالغين لقلّة خبرتي في الحياة، حسب قول والدتي.
تفاقمَت الأوضاع بعد أقلّ مِن سنة، حين طفَحَ كيل وسيم مِن زوجته التي لَم تصطلِح بل زادَت وقاحة. فهي لَم تُحِبّ زوجها أو حتى تُقدِّره بل اعتبرَته فقط وسيلة لِمتابعة حياة الانحلال تحت غطاء التستّر ولقب الزوجة. وصارَ المسكين محطّ سخرية ليس فقط عشّاق مِرفَت بل البلدة بأسرها. ربمّا لو أنجبَت تلك المرأة طفلاً لحدَثَ تغييرٌ ما، إلا أنّها، وحسب تقديري، أرادَت أن تبقى حرّة تمامًا في حال وجدَت أفضل مِن زوجها. وهذا ما حصَلَ بالفعل، فذات صباح، إستَيقظَ وسيم على بيت خالٍ تمامًا مِن وجود زوجته التي رحلَت مع أحدٍ ما آخذةً معها ملابسها وحُليها وكلّ ما كان له قيمة في البيت.
علِمتُ على الفور أنّ الذي كان يدقُّ بابنا ذات مساء بهذه الطريقة العنيفة كان بغاية الغضب، إلا أنّني لَم أتصوّر أبدًا أنّه وسيم العاقل والهادئ. وحين فتَحَ له أبي، أزاحَه العريس جانبًا بقوّة صارخًا: "أين تلك الكاذبة؟ أين زوجتكَ؟". حاوَلَ والدي الاستفهام منه وتهدئته، لكن مِن دون جدوى.
أطلَّت أمّي لدى سماعها الصراخ وتفاجأَت بوسيم الذي ركَضَ إليها كالمجنون، وأمسكَها بعنقها فجأة وهزّها بقوّة قائلاً: "قلتِ لي إنّها فتاة بريئة ومُحترمة! أيّتها الأفعى! سأقتُلكِ!".
وحين وقَعَ وسيم أرضًا، سادَ السكوت واستطعتُ رؤية المشهد بوضوح: كان أبي لا يزال يحملُ بيَده وعاء الزهور الضخم الذي استعملَه ليوقفَ وسيم ويمنعُه مِن قتل أمّي. أمّا بالنسبة للشاب، فسبِحَ بلحظة بدمائه، وكان مِن الواضح أنّه مات. بعد ذلك، تسارعَت الأحداث، إذ أنّ أبي أدخَلَ زوجته إلى الغرفة وأسرَعَ بالاتّصال بالشرطة قائلاً: "لقد قتلتُ شابًا كان سيخنقُ زوجتي". وصَلَ رجال الأمن بعد دقائق وبدأَت التحقيقات. حينها فقط انتبهوا جميعًا إلى وجودي. أدلَيتُ بإفادتي وأخذوا والدي معهم ورحلوا. رحتُ أواسي والدتي وهي بقيَت تضربُ بنفسها وتصرخُ:" أنا السبب! "، إلى أن تعِبَت ونامَت. بقيتُ صاحية حتى الفجر أفكّرُ بالذي حصَلَ، وكيف أنّ شابًّا ماتَ ورجلاً سيدخلُ السجن بسبب زواج لَم يكن مِن المفروض أن يحصل. فكّرتُ أيضًا بوسيم، أي كيف أنّه تحوّلَ إلى مُجرم مِن دون إنذار مُسبق، فهو كان حقًّا ينوي خنق أمّي. هل كان يُمثّلُ علينا جميعًا دور الإنسان العاقل والمُثقّف أم أنّ ما فعلَته به مِرفت وكلام الناس حوّله إلى شخص عدائيّ إلى أقصى درجة؟
إنتهى التحقيق وبدأَت المُحاكمة، وزرتُ وأمّي أبي في السجن وأكّدَ لنا المحامي أنّ ما فعلَه والدي كان بداعي الدّفاع عن زوجته. صدَرَ الحكم وكان قاسيًا نسبة لِما توقّعناه، إذ أن والدي كان سيبقى وراء القضبان خمس سنوات كاملة وسنتَين مع وقف التنفيذ. إنهارَت أمّي كلّيًّا وخفتُ أن أفقدَها وأبقى لوحدي، فعمِلتُ جهدي لإعطائها بعض التفاؤل. فبالرغم مِن أنّ الذنب بتزويج وسيم ومِرفَت كان ذنبها، لكنّها لَم تكن لتتنبّأ برحيل العروس وجنون العريس. كنتُ قد نبّهتُها مرارًا كما ذكرتُ، لكن أيّ أمّ ستأخذُ برأي فتاة مُراهقة لا تعرفُ شيئًا عن الحياة؟
وهكذا صرتُ وأمّي مُقرّبَتين أكثر، وننتظرُ بفارغ الصبر مرور الخمس سنوات ليعود أبي إلينا. لكنّ حزن والدتي لَم يخفّ بل صارَ أقوى مِن قبل. وفي أحد الأيّام، سألتُها بصراحة عن سبب سوء حالتها، وكانت قد مرَّت سنة بكاملها على سجن أبي. قالَت لي بعد أن سكتَت مُطوّلاً:
ـ سأُخبرُكِ الحقيقة يا حبيبتي... عليّ قول الحقيقة فقد أموتَ لأيّ سبَب آخذةً معي ما يُثقِلُ ضميري.
ـ ما الأمر يا ماما؟ تكلّمي، أرجوكِ!
ـ أنا التي دبَّرَت...
ـ أجل، أعلمُ ذلك، أنتِ التي دبَّرتِ تلك الزيجة.
ـ لا... بل الزيجة الأخرى.
ـ أيّة زيجة أخرى؟
ـ هروب مِرفَت.
ـ ماذا؟!؟
ـ أجل... فلقد استوعبتُ أخيرًا أنّني، ولأوّل مرّة، أخطأتُ باختيار العروس المُناسبة فقرّرتُ كالحمقاء إصلاح خطئي، ودبّرتُ لمِرفَت رجلاً آخر لأُريحَ وسيم منها. هرّبتُها وأعطَيتُها لرجل يُشبهُها بانتظار أنّ يُطلّقها وسيم بسرعة وتتزوّج مِن الرجل الآخر.
ـ يا إلهي... هذا يعني...
ـ أجل، أنا التي تسبّبتُ بموت وسيم وسجن أبيكِ! كيف سأُسامحُ نفسي... كيف سيُسامحُني أبوكِ وأخ وسيم... وما هو أهم، كيف سيُسامحُني الله؟
ـ لقد نسيت أمرًا يا أمّي... أنا الأخرى ضحيّة، فأنا أعيشُ مِن دون أب بمنزل حيث أُريقَت الدماء ومع وسمة عار لن يمحوها الزمَن.
ـ لو سمعتُ منكِ آنذاك! يا إلهي... أُريدُ أن أموت!
ـ موتكِ لن يُغيّر شيئًا بل سيزيدُ مِن حزن أبي وحزني. عليكِ الصلاة وطلَب الغفران... هذا كلّ ما يُمكنُكِ فعله.
حتى بعد خروج أبي مِن السجن لَم تتحسَّن حالة والدتي، بل صارَت كالشبح الحزين داخل بيت فقَدَ بهجته إلى الأبد. لَم يفهَم أبي سبب اكتئاب زوجته ولَم أُطلِعه على الحقيقة، بل هذه أوّل مرّة أخبرُ أحدًا بالذي حصَلَ لنا حقًّا.
لقد مرَّت على موت وسيم سنوات عديدة لَم تكفِ لمحو شيء على الإطلاق. فقد تزوّجتُ وأنجبتُ وصارَ والدايَ كبارًا في السنّ، وأعلمُ أنّ الموت وحده بإمكانه إراحة قلب وضمير والدتي وربمّا تحرير والدي مِن العَيش مع إنسانة فقدَت رغبتها في كلّ شيء، حتى الحياة.
حاورتها بولا جهشان