مَن منّا لَم يسمَع مقولة: "الخَير يجذبُ الخَير والشرّ يجذبُ الشرّ؟." لكنّ ذلك ليس بالضرورة صحيحًا، وقد سألتُ نفسي مرارًا إن كان مِن الجيّد أن يكون الإنسان صالحًا وطيّبًا لِدرجة تقبّله ما يفعَلَ به الأرذال والماكرون؟ ألا يجدرُ به أن يُدافع عن نفسه ومصالحه أو حتى كرامته؟ إليكم قصّة عمّتي وأبنائها والأحداث التي ساعدَتني على إيجاد أجوبة على تساؤلاتي وإعادة السلام إلى قلبي.
قضَيتُ وقتًا طويلاً مِن عمري عند نوال عمّتي بسبب سفرات أبي العديدة التي كان يقومُ بها لتحصيل لقمة العَيش، وبسبب فقداني لأمّي التي ماتَت بعد صراع مع المرَض. هناك اكتشَفتُ طيبة نوال وحبّها للناس والكائنات بأسرها. مِن أين جاءَت بتلك الخصال في حين لَم يكن يملكها أبي أو زوجها؟ لستُ أدري. فقلبها كان يتّسِع للجميع وبسمتها الدائمة أنارَت بيتها وأيّامها. لا تخالوا أنّ فرَحها هذا نابعٌ مِن حياة مُريحة، فزوج عمّتي كان موظّفًا بسيطًا وهما وجدا صعوبات كثيرة لتعليم أبنائهما الثلاثة. لذا كان والدي يُعطيني مالاً كلّما رحتُ إلى بيت نوال للمكوث عندها بضعة أشهر في السنة، وذلك كي لا تتكبّد ثقل الصرف على شخص إضافيّ.
كنتُ في العاشرة مِن عمري حين تركَ زوج نوال البيت في أحد الأيّام ولَم يعُد. للحقيقة هو هرَبَ مع عشيقته تاركًا عائلته مِن دون وخزة ضمير... أو مال. أنا مُتأكّدة مِن أنّ نوال بكَت لكن فقط حين كانت بمفردها، فلَم أرَها حزينة بل ادّعَت أمامي وأمام أولادها أنّ كلّ شيء على ما يُرام وبقيَت تُردّدُ لنا: "ليُسامحه الله... أرجو فقط أن يكون سعيدًا حيث هو." ماذا؟؟؟ تدعو لِزوجها الخائن بالسعادة؟ هل أنّ عمّتي غبيّة أم أنّها تكذبُ علينا؟
فعلَت نوال جهدها لإكمال دراسة أبنائها، وذلك بالعمَل ليلاً نهارًا، وسرعان ما كبروا وصاروا قادرين على العمَل بِدورهم، فعمَّت الراحة البيت أخيرًا.
لكن أثناء تلك السنوات، لَم أشعرُ بأيّ غضَب مِن قِبَل أولاد خالتي تجاه أبيهم أو حتى مُجرّد عتاب. هل يُعقَل أن تكون نوال قد مرَّرَت طيبتها المُفرطة لهم؟ إستغربتُ كثيرًا، فبنظري على الإنسان أن يغضب ويأسف ويستنكر ويأخذ قرارات وتدابير صارمة بحقّ مَن آذاه. إلا أنّ مِن الواضح أنّ عمّتي وعائلتها لَم يُشاطروني الرأي.
حين بلغتُ الثامنة عشرة اعترَفَ لي أبي أنّ له زوجة في الغربة... وأولاد! ثمّ خيّرَني بين العَيش معه أو البقاء عند عمّتي، وبالطبع رفضتُ الانضمام إلى عائلة والدي السرّيّة. حقدتُ عليه لسنوات بالرّغم مِن محاولات نوال العديدة لتهدئتي، مُفسّرةً لي أنّ للرجال أن يحظوا بزوجة فهم لا يُحسنون العَيش لوحدهم.
سئمتُ مِن خضوع عمّتي لأيّ ظرف يعترضُ حياتها ومِن قبول أبنائها لمشيئة القدَر. إن كانوا هم يريدون أن يدوسَ الناس عليهم فهنيئًا لهم، لكنّني سأُحاسِبُ كلّ مَن يؤذيني أو يأخذُ منّي حقّي. لِذا قطعتُ صلَتي بأبي كلّيًّا بالرغم مِن مُحاولاته العديدة لِمُصالحتي، ورحتُ أجدُ عملاً لأُساهمَ بمصروف البيت الذي يستضيفُني.
لكنّ كرهي لوالدي وعائلته ترسَّخ فيّ وتحوّلَ إلى غضب وخوف مِن أيّ رجُل. فبنظري، كانوا جميعًا مثل أبي وزوج عمّتي، وإن كانوا مُختلفين عن ذلك، يكونون كأولاد نوال، أيّ رجال ضعفاء وأغبياء. لِذا صرتُ إنسانة مليئة بِمرارة ظهرَت للعيان وكأنّها قوّة شخصيّة وعَزم. صادَفتُ في عمَلي شبّانًا أرادوا التقرّب منّي، إلا أنّني أزَحتُهم جانبًا تحت عذر الحفاظ على استقلاليّتي أو لأنّني أُريدُ الاختيار بشكل أفضَل.
مرَّت السنوات على هذا النحو، وتزوَّجَ أبناء عمّتي الواحد تلوَ الآخر وبنوا عائلة خاصّة بهم. بقيتُ لوحدي مع نوال، وهي الإنسانة التي تعوّدتُ أن أنظر لها بازدراء لكثرة طيبتها وتقبّلها لِظروف الحياة. سبب آخَر حمَلني على أن أنقُمَ عليها، وهو أنّها كانت تعلَم منذ البدء بأمر زواج أبي في الغربة وإنجابه لأطفاله. فاعتبرتُ أنّها خانَتني بسكوتها وأنّها خطّطَت معه لإيذائي. لَم أعُد أثِق بأحد وشعرتُ بالوحدة القاتلة. كرهتُ حتى والدتي المسكينة لأنّها مرضَت وماتَت، فاتحةً بذلك المجال أمام زوجها للتخلّي عنّي. إعتبرَتُ نفسي ضحيّة لا حوَل ولا قوّة لها، فرفضتُ طبعًا أن أقَعَ مُجدّدًا فريسة أيّ أحد.
بعد سنوات، إتّصَلَ بي أبي مِن الخارج ليُخبرَني أنّه مريض وأنّ أيّامه معدودة، طالبًا رؤيتي. ما كان شعوري حيال ذلك؟ للحقيقة أحسَستُ أنّ الحياة عادلة وأنّ مِن المنطقيّ أن يرحَل والدي مِن هذه الدنيا بعد الذي فعلَه. هل كنتُ أنوي رؤيته؟ بالطبع لا، فليذهَب إلى الجحيم! للحقيقة، فكرة حزن عائلته على رحيله أفرحَتني إلى أقصى درجة، خاصّة في ما يخصّ أولاده، فهم كانوا سيذوقون طَعم فقدان الأب. ماتَ والدي بعد أشهر قليلة، وبعد فشَل مُحاولات عمّتي لِحَملي على مُسامحة أخيها.
نقمَتي للرجال امتدَّت إلى الناس كلّهم، ولَم أعُد أُطيقُ رؤية أحد سعيدًا، ليس بداعي الغيرة، بل اعتبرتُ كلّ إنسان سعيد أنّه بالفعل غبيّ لأنّه لَم يفهَم حقيقة الحياة البشعة أو لأنّه كاذب يدّعي الفرَح. فكيف لأحد أن يجد الدنيا جميلة؟!؟ لِذا ابتعدتُ طوعًا عن عمّتي وأولادها وعائلاتهم، بِترك البيت أوّلاً ومِن ثمّ بِقطع صلتي بهم. كنتُ قد صرتُ أعتبرُهم ماكرين لادّعائهم أنّهم سعداء وسئمتُ مِن تمثيلهم. إستأجرتُ غرفة على سطح مبنى وأسّستُ لِحياة أفضل.
لَم تتركني نوال، بل بقيَت تزورُني أسبوعيًّا وتجلبُ لي بعض المأكولات التي أُحبُّها. لَم أجرؤ على عدَم استقبالها، فهي فعلَت مِن أجلي الكثير طوال طفولتي ولاحقًا.
وحصَلَ أن أُصِبتُ بوعكة صحيّة خفيفة وبالطبع ركضَت نوال لتهتمّ بي. قلتُ لها وهي جالسة قرب سريري:
ـ أُراهنُ أنّكِ كنت فعلتِ الشيء نفسه مع زوجكِ السابق لو علِمتِ أنّه مريض.
ـ بالطبع يا حبيبتي! شرط أن يكون قد طلَبَ ذلك.
ـ عمّتي... لا تُسيئي فهمي لكن أليس ذلك غباءً؟ فالرّجُل هجرَكِ وتركَكِ مع ثلاثة أولاد ليسرحَ ويمرَح مع امرأة أخرى. لو كنتُ مكانكِ لدعَوتُ له بموتِ بطيء ورهيب!
ـ وما النَفع؟ فلو كرهتُه أو حتى لو هو ماتَ، فما كنتُ سأجني مِن ذلك؟
ـ أليس لدَيكِ كرامة أو عزّة نفس؟
ـ هذه كلمات كبيرة ليس لها معنىً... فما نَفع الكرامة وعزّة النفس إذا فقدتُ طيبتي وضميري وفرَحي الداخليّ؟
ـ ألَم تغضبي حين تركَكِ زوجكِ؟ ألَم تحزني؟!؟
ـ لَم أغضَب لكنّني حزنتُ للغاية، ليس فقط لأنّني أحبَبتُه بل مِن أجل أبنائي الذين سيكبرون مِن دونه. ومِن أجلهم وأجلكِ، أخفَيتُ حزني وألَمي وبقيتُ أُقلِّل مِن وطأة الأمر كي لا أزرعَ الحقد والخذلان في قلوبكم. نجحتُ مع أولادي، لكنّني فشلتُ معكِ، للأسف.
ـ فشلتِ معي؟ أنسيت ما فعلَه بي أبي؟!؟
ـ رحمه الله.
ـ لا! لا يجدرُ بالله أن يرحمه فهو لَم يرحَمني!
ـ بل هو ضحّى بنفسه مِن أجلكِ بالسفَر بعيدًا وبدء العمَل مِن جديد في بلد غريب. وكونه تزوّجَ وأنجَب لَم يمنَعه مِن حبّكِ، فقلب الإنسان واسع ويتّسِع للبشرية بأكملها.
ـ لقد أخفى الأمر عنّي.
ـ كي لا يؤذيكِ يا حبيبتي، فكنتِ يافعة ولا تفهمين الحياة بعد. هو لَم يترككِ بل أنتِ تركتِه حين رفضتِ الانضمام إليه حيث هو.
ـ كنتِ تُفضّلين أن أعيشَ مع عائلته؟ هو خانَ أمّي بالزواج مُجدّدًا.
ـ الحياة هي للأحياء يا حبيبتي ولا مكان للأموات فيها. لا يجدرُ بأحد أن يُدمّر نفسه مِن أجل ميّت، بل الحفاظ على ذكراه في قلبه والصلاة مِن أجله.
ـ أنا لا أُصلّي لأبي.
ـ لن تعرفي الراحة إذًا. غضبكِ وكرهكِ صارا عدوّيكِ ويؤذيانكِ أكثر بكثير مِن أبيكِ، فهو قد ماتَ ورحَلَ عن هذه الدنيا بينما لا تزالين تعيسة. الغفران يُزيلُ الأوجاع ويُريحُ النفس. أليس ذلك ما توصي به جميع الأديان؟ هل هي صدفة برأيكِ؟ أزيحي هذا الثقل عن قلبكِ المسكين، وأفسحي المجال لتدخل بعض السعادة إليه. فأنتِ تحاربين أشباحًا وتلك المعركة خاسرة مُسبقًا.
ـ تتكلّمين بالمثاليّات يا عمّتي، فالواقع...
ـ نحن نصنَع الواقع، كلّ ما يلزَم هو الإرادة. القرار قراركِ، فإمّا أن تعيشي كلّ حياتكِ وحيدة وتعيسة وغاضبة، أو أن تمسَحي عنكِ تلك الأذيّة وتنظري إلى الحياة الجميلة التي تنتظرُكِ. لا أحد غيركِ يستطيع مُساعدتكِ والخيار هو خياركِ. لكن لا تنسي أنّ الطيبة ليست غباءً بل العكس. فوحده الإنسان الواعي والذكيّ والقويّ يعلمُ كيف يتخطّى مصاعب الحياة بإيجابيّة وتفاؤل. فلا نَفع مِن التحسّر والنقمة، صدّقيني.
كلام نوال أثّرَ بي كثيرًا، فخلال استماعي إليها أدركتُ داخليًّا أنّها على حقّ. وفي الليلة نفسها رأيتُ حلمًا مُزعجًا لأقصى درجة، حيث كان أبي يبكي ويسألُني لماذا لَم أذهب لرؤيته قَبل أن يموت. إستيقظتُ لأجِد وسادتي مُبلّلة بدموعي وفهمتُ فظاعة ما فعلتُه. فأيّ كمّيّة مِن الكره تمنَع ابنة مِن رؤية أبيها المُحتضَر؟!؟ وبلحظة اختفَت نقمتي ضدّ الذي أعطاني الحياة، وتحسَّرتُ لعدَم قدرة الإنسان على الرجوع في الزمَن لإصلاح الأمور.
في اليوم التالي أخذتُ أمتعتي وعدتُ إلى بيت عمّتي. وحين هي فتَحت لي الباب ورأت دموعي، عانقَتني بقوّة عالمةً تمام العِلم أنّني فهمتُ أخيرًا أبعاد أفعالي.
بعد حوالي السنة، وبعد اتّصالات قمتُ بها مع عائلة أبي، رحتُ أزورُهم. كنتُ قلِقة للغاية وأنا في الطائرة، لكنّ مخاوفي تبخّرَت حين رأيتُ زوجة أبي وأولادها بانتظاري في المطار. عانقوني جميعًا بِفرَح وحماس. يا إلهي... مِن الواضح أنّني كنتُ مِن بين كلّ عائلتي الوحيدة الغاضبة والحاقدة! فلو زرتُ أبي ولو مرّة بعد اطلاعي على زواجه، لوفّرتُ على نفسي سنوات مِن العذاب! ولو فكّرتُ جيّدًا بالأمر، لفهمتُ أنّ كان لي أمًّا بشخص عمّتي وأخوة ثلاث. فلَم أكن يومًا متروكة أو وحيدة بل كان لي أسرة مُحِبّة وصالحة.
كَم يكون الإنسان أحيانًا أعمىً بسبب عدَم تقبّله للأحداث أو فهمها وانشغاله بِمصائبه!
أنا اليوم زوجة وأمّ وأربّي أولادي تمامًا كما فعلَت عمّتي الحبيبة، رحمها الله. فليس هناك مِن طريقة أخرى للعَيش بسلام وهناء.
حاورتها بولا جهشان