عندما تتدخَّل العواطِف

للمرّة الألف، أعطَيتُ سعيد المبلَغ الذي طلَبَه منّي، لأنّه كان يعرِف كيف يُقنِعني بقبول طلَباته. على كلّ الأحوال، هو كان عاطِلًا عن العمَل بعد أن طُرِدَ بسبب عدَم قدرته على القيام بعمَله، بعد أن وقَعَ ضحيّة حادِث سَير حين ضربَته سيّارة مُسرِعة وهو يقطَع الطريق. حدَثَ ذلك قَبل أن أتعرَّف عليه بفترة قصيرة، وأوّل مرّة رأيتُه فيها كان يعرجُ بقوّة. وكان ذلك السّبب في تعارفنا، إذ أنّه طلَبَ منّي أن أُساعِده في جَرّ عربته في السوبر ماركت. أخبرَني بما حدَثَ له، فشعَرتُ بالأسى تجاهه، لأنّه كان يبدو بالفعل وكأنّه بحاجة إلى أحَد. أظنّ أنّ شعوري بالأمومة تحرَكَّ لدَيّ، خاصّة أنّني كنتُ أكبرُ سعيد بسنوات عدّة، وحركاته الولدانيّة وهو يروي لي ظروف الحادثة، ذكرَّتني بالأولاد الصغار، أولاد لَم أنعَم بهم لأنّني وزوجي المرحوم لَم نُنجِب.

رأيتُه مرّة أخرى صدفةً في المكان نفسه. إبتسَمنا لبعضنا وساعدتُه بعربَته مِن دون أن يطلُبَ منّي أن أفعَل، وكأنّ الأمر تحصيل حاصِل. ولدى خروجنا مِن السوبر ماركت، هو دعاني لشرب فنجان قهوة في المكان الذي أختارُه. ركِبَ سعيد سيّارتي وقُدتُ به إلى مقهى قريب حيث تبادَلنا الأحاديث عن أنفسنا. أخبرتُه أنّني أرملة، وهو قال لي إنّه يتيم الوالِدَين ولا حول ولا قوّة له، بعد أن صارَ عاجِزًا عن إيجاد عمَل. فالحقيقة أنّه لَم يتلقَّ التعليم اللازم للجلوس وراء مكتب في شركة ما، بل كان فقط مؤهّلًا للعمل في المجالات التي تستلزِم قوة جسديّة، بفضل بنيَته الضخمة. تبادَلنا أرقام الهاتف وبدأنا نتكلّم يوميًّا. للحقيقة، لَم أكن أعلَم آنذاك إلى أين ستأخذني هذه القصّة، فبعد موت زوجي لَم أتخيَّل أنّني قادِرة على حبّ أيّ أحَد سواه. فالمرحوم كان إنسانًا مُحِبًّا ورقيقًا، وقد فعَلَ جهده ليُنسيني أمر عقره وحرماني الأولاد. أغرقَني بالهدايا وكلّ ما تطلبُه نفسي، وترَكَ لي بعد مماته مبلغًا يكفيني حتّى آخِر أيّامي.

ولأنّني كنتُ أملكُ الكثير، لَم أتأخَّر عن مُساعدة سعيد الذي كان في حالة مُزرية. في الواقع، وجدتُ الأمر بديهيًّا، على الأقلّ إلى حين لم يجِد عمَلًا يُمكِّنه مِن الصرف على نفسه. في المُقابل، كان سعيد يُعطيني الاهتمام الذي كنتُ بحاجة إليه، ويُسمِعُني الكلام الجميل الذي اشتقتُ له.

وعلى مرَّ الأيّام والأسابيع، بتُّ مفتونة بذلك "المارِد اللطيف" ورفقته المُسليّة. كانت علاقتنا مُحترمة، إذ أنّ لا شيء حدَثَ بيننا ولو حتى قُبلة، لكنّ قلبي كان يهواه بطريقة جنونيّة. أعطَيتُ سعيد كلّ ما طلَبَه منّي، فكما ذكَرتُ، كان لدَيّ ما يكفي مِن المال ولا أحَد ليُشارِكني به، وانتظرتُ أن يشفى ولو بعض الشيء مِن تداعيات حادثه ليجِدَ عمَلًا ويستقلّ عنّي قليلًا، فهو كان ينزعجُ كلّما أعطَيتُه مالًا أو هدايا.

علِمَت أخيرًا عائلة زوجي بوجود سعيد في حياتي، فقد رآني أحَدهم معه وأخبَرَ الباقين، وهم لاموني كثيرًا وكأنّ عليّ البقاء وحيدة لأنّ ابنهم وأخاهم وابن عمّهم ماتَ. لو كنتُ رجُلًا وماتَت زوجتي، لركَضوا لتزويجي بأسرع وقت! وحدها إبنة أخ زوجي كانت تُدافِع عنّي، ربّما بسبب سنّها، فأبناء جيلها يتقبّلون تلك الأمور أكثر مِن غيرهم. وصارَت سعاد حليفتي في معركتي لإيجاد السعادة.

أخبَرتُ سعيد عن سعاد وهو قال ضاحكًا: "سعيد... سعاد... إنّها نسخَتي الأنثويّة!"، ولأنّني لَم أسمَع بتلك العبارة مِن قَبل، فسَّرَ لي بأنّه يتكلّم عن الاسمَين وليس أكثر. على كلّ الأحوال هو لَم يكن يعرفُها، بل سمِعَ عنها فقط منّي. شعرتُ ببعض الغيرة غير المُبرَّرة، لأنّني كنتُ أخاف أن أفقِد سعيد بسبب فارِق العمر بيننا. لكن كنتُ أعود وأتذكّر كلّ القصص الغراميّة التي نجحَت بالرغم مِن فارِق السنّ، فيَطمَئنُّ بالي على الفور.

تحسّنَت أخيرًا حالة سعيد، وبدأ يُفتِّش عن عمَل ولو بسيط، إلى حين يستعيد عافيَته تمامًا. وحالَما قبَضَ راتبه الأوّل، عرَضَ عليّ أن يُعيدَ لي بعض المال لكنّني لَم أقبَل، فذلك الراتِب كان بالكاد يُغطّي مصاريفه اليوميّة. وأمام رفضي، هو ركَعَ أمامي وأمسَكَ بِيَدي قائلًا:

ـ أنتِ امرأة رائعة بالفعل... أين كنتِ طوال حياتي؟ حبيبتي، هل تقبليني زوجًا لكِ؟

 

ـ أجل، يا سعيد، أجل!

 

أطلَقتُ جوابي مِن دون أن أُفكِّر، فكنتُ جاهِزة لتلك اللحظة منذ فترة، وأتخيَّل نفسي مع سعيد وأنا مُرتدية فستان عرس جميل. وبعد أن زالَت فرحة تلك اللحظة، إنتابَني الهمّ: كيف ستكون ردّة فعل عائلتي وعائلة المرحوم زوجي؟ هل كانوا سيُعكِّرون صفوَ فرَحتي؟ إستشَرتُ سعاد بهذا الشأن، فوحدها تعرفُ كيف بإمكاني تمرير زواجي بأقلّ ضرَر مُمكن، وهي قالَت لي:

ـ لا تقولي لأحَد شيئًا... على الأقلّ في هذه الفترة. تحرَّكي في الظلّ إلى حين تصبحي وسعيد حاضِرَين، عندها تضَعين الجميع أمام الأمر الواقع.

 

ـ ماذا تعنين بِ "تحرَّكي بالظلّ"؟

 

ـ أعني حضِّرا أوراقكما وجدِّدا البيت حيث ستسكنان، خطِّطا للفرَح... هكذا أمور. سأُساعدُكِ إن شئتِ!

 

ـ أجل، أنا بحاجة إلى مُساعدتكِ.

 

شعَرتُ بالحماس عندما صارَت سعاد حليفتي المُقرّبة، وأعمَل بالسرّ وكأنّني فتاة صغيرة. رحنا إلى المحلّات لنختار الأثاث الجديد لشقّة سعيد، فهو أصرَّ أن نعيش هناك ليشعر بأنّه ربّ البيت، حتّى لو كانت شقّته بالإيجار. إشترَيتُ أيضًا فستان فرَح اختارَته لي سُعاد وكذلك ملابس أنيقة لخطيبي، وساعة فخمة ليلبِسها يوم الفرَح. مرَّت الأشهر وبتُّ جاهزة تقريبًا، فجَلستُ مع سعاد لتقييم ما أتمَمناه، وتحديد موعد زفّ الخبَر للعائلتَين. بدأتُ الكلام:

ـ أشكرُكِ كثيرًا يا سعاد، فلولاكِ لاقترَفتُ خطأً كبيرًا بإخبار العائلتَين بزواجي قَبل أن أكون جاهِزة.

 

ـ لا شكر على واجب، صدّقيني. أريدُكِ أن تكوني سعيدة.

 

ـ سترَين بعَينكِ كَم أنّ سعيد هو إنسان رائع حين تتعرّفين عليه، فحتّى الآن لَم يتسنَّ لنا الجلوس معًا نحن الثلاثة، فعمَل سعيد الجديد يتطلَّب منه التواجد فيه لساعات طويلة.

 

ـ أنا مُتحمِسّة جدًّا للتعرّف على الذي سرَقَ قلبكِ مِن بعد عمّي، رحمه الله. سعيد... هاهاها! سعيد... سعاد... إنّه نسخَتي الذكوريّة!" أعني بالاسم طبعًا! فيا للصدفة أن يكون اسما أقرَب الناس لكِ مُتشابهَين!

 

سكتُّ لدى سماعي ما قالَته... لأنّه تمامًا ما قالَه سعيد عن اسمها. صدفة؟ لا أظنّ ذلك، فالكلمات كانت بالفعل نفسها!

نسيتُ أن أقول للقارئ أنّني، بالرغم مِن كلّ الذي قرأتَه حتّى الآن، إنسانة ذكيّة، على الأقل في المجالات غير المُتعلِّقة بالعواطف، على ما يبدو. فسألتُ سعاد بسرعة كَي لا يتسنّى لها التفكير:

ـ منذ متى تعرفين سعيد؟!؟ أجيبي!

 

ـ أنا؟ أنا لا... أنا لا أعرِفه!

 

ـ منذ متى؟!؟ لا تدّعي الغباء وإلّا صفعتُكِ بقوّة! أجيبي!!!

 

نظرَت إليّ سعاد بخوف شديد لكثرة جدّيتي، ولأنّها أدركَت أنّني اكتشفتُ اللعبة فقالَت وصوتها يرتجِف:

ـ إنّها فكرته، أقسمُ لكِ! هو يعلَم كَم أحبُّكِ وأنظرُ إليكِ بإعجاب. فعندما قلتُ له في إحدى المرّات إنّ لدَيكِ الكثير مِن المال بعد أن ورِثتِ عمّي، عرَضَ عليّ تلك الخطّة. فهو لا يعمَل ولا يُريدُ أن يجِدَ عمَلًا، الأمر الذي حالَ دون زواجنا، فقالَ لي إنّ الطريقة الوحيدة لأنّ نتزوّج كانت أن يجمَعَ المال منكِ لفترة مِن الزمَن، ثمّ أن يطلبَ يدَكِ وأساعِده على تأسيس بيتنا المُستقبليّ. أنا التي اطلعتُه على مكان شرائكِ حاجياتكِ وكلّ ما كان عليه معرفته لجذبكِ، وهو أدّعى أنّه وقَعَ ضحيّة حادِث سَير ليُثير اهتمامكِ وشفقتكِ، ويُبرِّر عدَم وجود عمَل له، الأمر الذي لَم يكن صحيحًا طبعًا.

 

ـ متى كنتما ستُنهيان الخطّة؟

 

ـ قَبل موعد الزفاف بقليل... كان سعيد سيفتعِل مشكلًا معكِ لأتفَه سبَب ويفسَخ خطوبته بكِ.

 

ـ أيّتها الماكِرة... والغبيّة! ألا ترَين أنّه ضحِكَ عليكِ أيضًا؟!؟ لو كان بالفعل يُحبّكِ ويُريدُ الزواج منكِ، لركَضَ لإيجاد عمَل. إنّه يستغلُّكِ!

 

ـ هذا ليس صحيحًا! تقولين ذلك لأنّكِ غاضِبة وتغارين منّي!

 

ـ غاضِبة كلمة صغيرة بالنسبة لِما أشعرُ به حيالكِ! أغار منكِ؟؟؟؟ هنيئًا لكِ به! هيّا، أخرجي مِن بيتي! هيّا.

 

لحسن حظّي أنّ فواتير الأثاث الذي اشترَيتُه كانت بإسمي، فاتّصلتُ بسعيد طالِبة منه إرجاعها لي وإلّا اشتكَيتُ عليه وأرسلتُ له الشرطة. هو قَبِلَ بسرعة لأنّ سعاد أخبرَته أنّني اكتشفتُ الحقيقة، ولأنّه على ما يبدو، يُخفي أمورًا أخرى لا يُريدُ أن تعرِفها الشرطة عنه. أجبَرتُه على ردّ الهدايا التي اشترَيتُها له أيضًا، ورِحتُ أردُّ وأبيعُ كلّ شيء وأقبض ثمنه، أو على الأقلّ ثمن معظمه.

لَم أكن مُخطئة بما قلتُه لسعاد، فبعد حين هي اتّصلَت بي باكيةً لتقول لي إنّ حبيبتها طرَدَها مِن حياته، تحت عذر أنّها أفشلَت الخطّة، وها هو مع امرأة أخرى. للحقيقة لَم آسَف لها على الاطلاق، فهي نالَت عقابها على الذي فعلَته بي، مِن أجل إنسان فاشِل وماكِر مهارَته الوحيدة أنّه يعرِف كيف يتلاعَب بعقول النساء. على كلّ الأحوال، بعد بحث أ جرَتُه، وجدتُ "ضحيّته" الجديدة وحذَرتُها منه وترَكتُ لها حرّيّة القرار، فعندما تتدخَّل العواطِف، غالِبًا ما نفقدُ قدرتنا على التفكير بالمنطِق.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button