عشتُ في الطريق بعد موت زوجي

مرّة أخرى رماني النادل خارج ذلك المطعم حيث ذهبتُ لأتسوّل. قليلة كانت المطاعم التي كانت تسمح لي بالدخول، فأصبحتُ معتادة على الطرد والإهانات. واعتدتُ أيضًا العيش في الشوارع طوال النهار وقسم كبير مِن الليل، لأعود إلى تلك الغرفة الرّطبة والمظلمة التي كانت تأويني. هذه كانت حياتي في ذلك الوقت، ولكنّني عرفتُ قبلها أيّامًا جميلة بعيدة كلّ البعد عن العوز والفقر.

كان لدَيّ زوج، ولم أتصوّر يومًا أنّني سأنتهي على الطرقات، وأمدّ يدي إلى الناس لآكل وأشرب. كم أنّ الحياة غريبة... تشبه دولابًا ضخمًا يدور تارة لِصالحكَ وتارة أخرى ضدّك.

ومات زوجي في ذات ليلة بدون انذار. توقّف قلبه عن الخفقان، ووجدتُ نفسي وحيدة في سنّ الخامسة والخمسين. وحيدة لأنّ والدَيّ كانا قد سبقا زوجي إلى دنيا الحق، وأخي الوحيد كان مع عائلته في أفريقيا. أمّا بالنسبة إلى لأولاد فلم يرزقنا الله أطفالاً رغم محاولاتنا العديدة.

وبدأتُ أفتّش عن عمل، ولكن مَن يُريد تشغيل امرأة بسنّي في حين أنّ الشباب أنفسهم لا يجدون عملاً. ولأنّني رفضتُ الإستسلام، بدأت أنظّف منازل الناس، ولكن أوجاع مفاصلي كانت تمنعني مِن القيام بعملي كما يجب فطُرِدتُ مِن المكان الوحيد الذي قبِلَ بي. ثمّ وجدتُ عائلة ثريّة تبحث عن طبّاخة، ولكن سرعان ما لحِقَ داء المفاصل يدَيّ ولم أعد أستطيع إمساك أيّ شيء بإحكام. عندها أيضًا أنهوا تعاملهم معي.

وعِشتُ مِن إحسان بعض الجيران الذين كانوا يعطوني فضلاتهم التي كانت تشكّل وليمة فخمة بالنسبة إليّ. أمّا للحصول على دوائي، فكنتُ أقصد تلك المؤسّسات التي تسمّي نفسها "خيريّة" لأقف ساعات في صفّ طويل أنتظر دوري. وعندما كنتُ أشتكي مِن طول الإنتظار، كانوا يصرخون في وجهي ويُوبّخوني قائلين: "تشتكين بكلّ وقاحة؟ إحمدي ربّكِ أنّنا موجودون!".

وفي ذات يوم، نظرتُ إلى كلّ هؤلاء البؤساء الواقفين مِن حولي متأمّلين أن يحصلوا على علاجهم، وأدركتُ أنّني وصلتُ إلى القعر وأنّني لن أتحمّل الزيد مِن الذّل. وخرجتُ ركضةً مِن المؤسّسة. وبعد حوالي الساعة مِن المشي وبعد أن تعبَت رجلاي، جلستُ على حافة الطريق وبدأتُ أبكي على حالتي وألوم الكون بأسره على ما وصلتُ إليه. عندها، جاءَت سيّدة ووقفَت أمامي وفتحَت حقيبة يدها وأعطَتني مالاً. عندها رأيتُ الرّفق في عيَنَيها وشعرتُ بالدفء، وظننتُ أنّ كلّ الناس ستعطيني ما يكفيني كي لا أموت جوعًا. ولكن سرعان ما أدركتُ أنّ الناس لا يُحبّون الفقراء لأنّهم لا يُريدون رؤية ما قد يحصل لهم يومًا. ومعظمهم كانوا يُقفلون شبابيك سيّارتهم بِوجهي عندما أصل إليهم، ويُديرون نظرهم وكأنّهم بذلك يمحونني مِن عالمهم. بينما البعض الآخر كان يصرخ فيّ أن أذهب وأجد عملاً بدل أن أعيش مِن مالهم وكأنّني لم أفكّر أو أحاول ذلك! كان العالم بأسره يُفضّل أن أموت وأن أخلي الشارع مِن بؤسي.

 

وكان هناك المتسوّلون الآخرون الذين كانوا "يستملكون" أقسامًا محدّدة مِن الشارع ولا يسمحون لأيّ دخيل أن يتواجد في "أرضهم"، وإن حَدث ذلك كما حصل لي مرارًا كانوا يشتمونَني ويضربونني ويهدّدونني بقتلي. عندها كان عليّ التفتيش عن أماكن أخرى بعيدة عن الناس وحيث لا يوجد أحد لِمساعدتي. الأصعب كان خلال فصل الشتاء وخاصة في الليل. كنتُ أرتدي كلّ ثيابي وأحاول عدم التحرّك للحفاظ على قوّتي وأصلّي أن أستفيق في اليوم التالي وألا أموت مِن البرد.

 


ومرَّت هكذا سنتان طويلتان أسأل نفسي اليوم كيف أستطعتُ اجتيازهما وكيف تحمّلتُ الإهانات والجوع والضياع.

وفي ذات يوم عندما كنتُ واقفة على الطريق أنتظر حسنات العالم، شعرتُ بدوار شديد وأُغمِيَ عليّ. وعندما استفقتُ، وجدتُ نفسي بالمشفى. ولأوّل مرّة خلال سنَتَين، كان هناك مَن يهتمّ بي ويرعاني فأمتلأ قلبي بالدفء مرّة أخرى. ووصلَ الأمر بي أن أتمنّى ألاّ أخرج أبدًا وأبقى هناك طوال حياتي. وأجروا لي تحاليل عديدة لِمعرفة سبب إغمائي، وتبّين لهم أنّني أعاني مِن سوء تغذية وأكتئاب حاد. وأعطوني أيضًا علاجًا لداء المفاصل يُخفّف مِن آلامي ويسهّل حركتي. وأخبرتُ الممرّضات عمّا جرى لي وكيف وصلت إلى التسوّل. ولاقَيتُ مِن قَبلهنّ دعمًا نفسيًّا كبيرًا وحتى ماديًا، وبهذا أقصد أنهنّ جلبن لي الملابس والطعام كي آخذها معي. وفي اليوم المحدّد لِخروجي دخل الطبيب غرفتي وقال لي:

 

ـ إلى أين ستذهبين الآن؟

 

ـ سأعود إلى الشارع.

 

ـ أليس لدَيكِ مَن تقصدينه؟. أهل... أصدقاء؟

 

ـ لا، يا دكتور... كان لدَيّ زوج ومات... والناس لا تحبّ الفقراء.

 

ـ هذا ليس صحيحاً، يا سيّدتي... البعض قد لا يُحبّهم ولكن هناك البعض الآخر.

 

ـ صدّقني... لم أرَ هؤلاء الذين تخبرني عنهم... أين يختبئون؟

 

ـ ربما في المستشفيات!

 

وضحكَ الطبيب وأضاف:

 

ـ الخير والخيرّون موجودون، وهذا بالذات سبب مجيئي إلى غرفتكِ الآن... إسمعي... لدَيّ منزل كبير في الجبل أقصده خلال فرصة نهاية الأسبوع... وأنا بحاجة إلى مَن...

 

ـ فهمتُ قصدكَ يا دكتور، ولكنّني لم أعد قادرة على القيام بمعظم الأعمال بسبب داء مفاصل وأنت أخبَر بذلك منّي.

 

ـ ... وأنا بحاجة إلى مَن يدير الموظّفين هناك: الطبّاخة والمسؤولة عن التنظيفات والحدائقي والسّائق... وهذا العمل لا يتطلّب أيّ مجهود جسديّ.

 

إمتلأت عيناي بالدموع لِشدّة تأثّري. ومِن ثم سألتُه:

 

ـ ولماذا تفعل ذلك مع إمرأة لا تعرفها؟

 

ـ لأنّني أعرف العوز، يا سيّدتي... في ما مضى لم أكن أملك شيئًا... ولِدتُ وكبرتُ في عائلة فقيرة ومرَرتُ بأيّام صعبة جدًّا... وكان مقدّرًا لي أن أبقى فقيرًا طوال حياتي، لولا تلك السيّدة التي ساعدَتني على إكمال دراستي وجَعَلت منّي طبيبًا... وهي الأخرى لم تكن تعرفني... وعندما تخرجّتُ، قطعتُ وعدًا على نفسي أن أساعد بدوري مَن هو محتاج... أعطيتُ مالاً لِبعض الناس ولكنّني لم أغيّر حياة أحد... وعندما أخبرَتني الممّرضات عنكِ أدركتُ أنّكِ فرصتي لردّ الجميل... ماذا قلتِ؟

 

ـ شكرًا دكتور...

 

ـ وإضافة إلى البيت والمأكل، ستحظين بِراتب شهري يُؤمِّن لكِ الإستقلاليّة... سأطلب مِن السائق أن يقودكِ إلى منزل الجبل وسأراكِ هناك بعد بضعة أيّام... حتى ذلك الحين أريدكِ أن ترتاحي وتنتظري قدومي أنا وعائلتي وعندها سأعطيكِ التعليمات كلّها.

 

حاولتُ التقاط يده لأقبّلها ولكنّه لم يسمح لي بذلك:

 

ـ لستِ مدينة لي بشيء... بالعكس... عليّ أنا أن أشكركِ لأنّكِ سمحتِ لي أن أساعدكِ.

 

وأنتقلتُ إلى المنزل الجميل، حيث أرَتني موظّفةٌ غرفتي التي أعجَبَتني كثيرًا. وبعد أن أرتحتُ قليلاً، ذهبتُ أتمشي في الحديقة وأنظر حولي بِفرح. ورفعتُ عينَيّ إلى السماء وشكرتُ الله على هذا الكمّ مِن السعادة.

لقد مضى على عملي عند الدكتور أكثر مِن عشر سنوات لم أشعر خلالها يومًا بأنّني غريبة أو حتى موظّفة لدى تلك العائلة الجميلة.

أمّا ما أودّ مِن خلال هذه القصّة فأخبار العالم بأسره أنّ الحياة تخبّئ لنا مفاجآت سارة حتى ولو بعد عذاب شاق ومعاناة. وعندما تضيق بنا الدنيا، كلّ ما علينا فعله هو أن نترك الأمر لله وندعه يتصرّف.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button