أطلعَتني مايا خلال محادثاتنا على ظروف حياتها، فكان زوجها رجُلاً جافًّا وأنانيًّا لا يُعير أهمّيّة سوى لجمع المال. أمّا أولادها، فكانوا يشبهون أباهم لكنّها كانت تُحبّهم كثيرًا. سألتُها إن كانت آنذاك على علم بأنّ والدها يودّ تزويجها مِن غيري وهي أجابَت بالنفي، فكان الأمر أيضًا مفاجِئًا بالنسبة لها. بكينا سويًّا عبر الهاتف بعد أن اتّفقنا أنّ الرسائل الخطّيّة لَم تعُد كافية. في تلك الفترة، شعرتُ بسعادة لا تُقاس فعادَ إليّ الأمل والحبّ. بالطبع لَم أتوقّع مِن حبيبتي أن تترك زوجها مِن أجلي، فكيف لها أن تفعل ذلك وهي أمّ لأولاد ثلاثة؟ لكنّني تجرّأتُ على مُجاراتها حين هي طلبَت منّي أن أرسل لها دعوى إلى الولايات المُتحّدة، فمايا كانت مُشتاقة لي لدرجة أنّها أحبَّت أن تزوروني شخصيًّا مُضيفة: "قد تكون هذه فرصتي الوحيدة لرؤيتكَ يا حبيبي... أعيشُ في أوروبا وأنتَ في أمريكا وكلّ شيء يفصلُ بيننا. لستُ خائفة بل مُتحمّسة للغاية".
أخذتُ لِمايا غرفة في فندق قريب مِن منزلي كي لا تعلَم والدتي بأمر مجيء حبيبتي، فتذكّروا أنّها لَم تُحبّها حين كنّا مخطوبَين وكرهَتها يوم تركَتني. ولَم يكن مِن الوارد أبدًا أن تُبارك هذه الزيارة.
قضَينا أيّامًا جميلة لِدرجة لا توصَف، فعشنا وكأنّنا زوج وزوجة وأخذتُها إلى أجمل الأماكن وجلبتُ لها الهدايا والذهب. كنتُ صرتُ قادرًا على التقديم لها ما تطلبه نفسها وافتخرتُ بنفسي. بكينا يوم هي غادرَت إلى بيتها وعائلتنا مُعتبرَين أنّنا لن نرى بعضنا مرّة أخرى. لَم أكن أعلَم حينها أنّ مايا تنوي ترك زوجها مِن أجلي. هي لَم تفصَح لي عن نيّتها هذه، على الأقل ليس قبل أن تعلَم ما موقفي مِن استقبال أولادها في بيتي وحياتي. مِن جهتي، لَم يخطر ببالي أن يأتي يوم وأحظى بعائلة جاهزة ومؤلّفة مِن أفراد عديدين. لكنّ حبّي لِمايا بامكانه حملي على تقبّل وقبول أمور كثيرة.
لكنّ مايا بقيَت مُصرّة على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، الأمر الذي زادَني فخرًا وحبًّا. فكانت تلك المرأة الرائعة تُريدُني بكلّ جوارحها وتودّ اعادة الأمور إلى مكانها الصحيح، أيّ منذ ما كنّا موعودَين لبعضنا قبل خيانة أبيها لحبّنا. أبوها الذي، بأعجوبة، باركَ طلاق ابنته مِن صهره وزواجها منّي! فلقد تفاجأتُ به يتّصل بي هاتفيًّا ليوصيني بابنته وأحفاده. مِن جهتها، وقفَت أمّي بوجه سعادتي، الأمر الذي لَم يُفاجئني على الأطلاق، وراهنتُ على أنّ الوقت سيُغيّر رأيها بمايا وزواجنا. وهي طلبَت مِن خالي أن يقنعني بالعدول عن تلك الزيجة إلا أنّه لَم ينجَح بذلك.
وصلَت مايا إلى الولايات المُتحّدة مع أولادها وحقائبهم واستقرّوا في شقّة جميلة استأجرتُها لهم إلى حين نتزوّج ونعيش سويًّا في مكان تختاره زوجتي الحبيبة. نويتُ ترك البيت الذي أعيشُ فيه لأمّي لِذا كتبتُه باسمها لتشعر بالأمان. لَم يُعجِب مايا أبدًا أن تكون أمّي صاحبة بيتها في حين هي في شقّة مُستأجرة، لِذا طمأنتُها بأنّها ستحظى هي الأخرى بعقار باسمها. ألَم أكن أجني ما يلزم لذلك؟
أدخلتُ أولاد مايا مدارس فرنسيّة باهظة الثمن، وبدأتُ ومايا بالتخطيط للفرَح الذي أردتُه كاملاً خاصّة أنّني نوَيتُ جلب أهلها على حسابي ليروا كيف أنّني لَم أعُد بحاجة إلى أحد لاقامة زفافي. للحقيقة، كلّ ما كان يهمّني آنذاك هو الانتقام مِن أب مايا الذي حطّمَ قلبي.
وفي تلك الفترة بالذات، تلقّيتُ اتّصالاً... مِن زوج مايا السابق. وبعد أن قدَّمَ نفسه لي، هو قال:
ـ هنيئًا لكَ... مرّة أخرى تأخذ مايا منّي.
ـ مرّة أخرى؟ أنا لا أعرفُكَ مِن قَبل.
ـ لَم أقُل أنّكَ تعرفُني... أقول إنّكَ انتصرتَ اخيرًا بعد مُحاولتَين.
ـ كنّا مخطوبَين حين أنتَ أخذتَها منّي!
ـ لا بل أنتَ خطبتَها حين هي كانت معي!
ـ أعترفُ أنّني لا أفهم ماذا تقول!
ـ هل لدَيكَ مانع أن نتكلّم عبر الفيديو؟
ـ أبدًا، تفضّل.
عندما ظهَرَ الرجُل على شاشتي استغربتُ كمّيّة الحزن على وجهه فحزنتُ بدوري وقرّرتُ الاستماع إلى ما أرادَ قوله. وهذا ما قاله:
ـ أحببتُ مايا مذ رأيتُها أثناء زيارة لي إلى البلد لكنّني على ما يبدو لَم أكن ثرّيًّا كفاية لها... عدتُ إلى عملي هنا وهي قالَت لي إنّها خُطبَت لشاب غنّي... أنتَ.
ـ أنا ثريّ؟
ـ وبعثَت لي صوَركما سويًّا وأكّدَ لي أبوها أنّكَ بالفعل الصهر الذي يُريدُه. لِذا عمِلتُ ليلاً نهارًا لأجني المزيد والمزيد قبل أن يفوت الأوان وتتزوّجا وتفلُت مايا مِن بين يدَيَّ. وبعد حوالي السنة دعوتُها إلى فرنسا لترى بيتي وانجازاتي.
ـ فرنسا؟ في أيّ شهر كان ذلك!
ـ في شهر تموز.
ـ م م م... حين قالَت لي إنّها ذاهبة لحضور زفاف قريبتها.
ـ لستُ أدري. قضَينا وقتًا جميلاً إلا أنّها لَم تجدني ثريّ كفاية بل طلبَت منّي المزيد مِن العمَل على تقدّمي. وهذا ما فعلتُ. أعترفُ أنّني قمتُ ببعض الأعمال غير القانونيّة لتسريع الموضوع ومِن ثمّ جئتُ إلى البلد مُحمّلاً بالهدايا والذهب. كنتما لا تزالان مخطوبَين.
ـ مهلاً... في أي شهر كان ذلك؟
ـ قبل نهاية السنة نفسها.
ـ يا إلهي... أيّ عندما مرضَت مايا ومُنعتُ مِن رؤيتها!
ـ لَم تكن مريضة على الأطلاق بل بأفضل حالاتها. وأكَّدَ لي أبوها أنّني فزتُ بها وأنّه سيُنهي علاقتكما.
ـ القذر! هو طردني فجأة وادّعَت مايا أنّها أُجبِرَت على الزواج منكَ! لكن لماذا تُطلّقكَ الآن! ألَم تعُد ثريًّا؟
ـ للحقيقة لقد قضَيتُ بعض الوقت في السجن. لستُ انسانًا سيّئًا لكنّ زوجتي، ولاحقًا أولادي، صاروا يطلبون المزيد والمزيد وانجرَفتُ بذلك الطريق السيّئ. فعلتُ ذلك مِن أجلهم. جمّدَت المحكمة كلّ أموالي المنقولة وغير المنقولة و...
ـ ورأَت مايا أخبار انجازاتي على صفحتي فاتّصلَت بي.
ـ تمامًا. حاولتُ اقناعها بأن تبقى والأولاد معي إلا أنّها رحَلت.
ـ إستعملوني كطعم لكَ... وسالتُ نفسي مرارًا لماذا تقبل بي عائلة كهذه... ويريدون الآن استغلالي مرّة أخرى لكن للصرف على ابنتهم وأحفادهم.
ـ إنّهم أولادي.
ـ هنيئًا لكَ بهم جميعًا! كانت والدتي على حقّ في ما يخصّ مايا.
أسفتُ على ذلك الانسان الذي عمِلَ بكدّ وخاطَرَ وسُجِنَ، وشعرتُ أنّني بألف خير نسبة لِما هو مرّ به. وأوّل شيء فعلتُه هو مواجهة مايا التي حاولَت الانكار بكلّ جوارحها. إلا أنّها عادَت واعترفَت أنّها لعبَت بي وكذلك أبوها ليضغطوا على العريس الآخر. لكنّها ادّعَت أنّها لا تحبّ سواي ولَم أُصدّقها بالطبع، فلَم أعُد ذلك الحبيب المُتيّم بل رجُلاً عاملاً ومُتّزنًا.
وضعتُ مايا وأولادها في أوّل طائرة إلى البلد وطلبتُ منها توصيل سلاماتي لأبيها والرسالة التالية: "اللعب بعواطف الناس ومصيرهم هو خطيئة كبيرة. وجزاؤكَ هو أن تبقى ابنتكَ وأحفادكَ أمامكَ طوال الوقت لتتذكّر أنّ الانسان يحصد ما يزرع". فمَن سيتزوّج مِن مايا الآن؟ فلَن يجدوا مُغفّلاً جديدًا بالسرعة المطلوبة... إلا إذا استطاعوا اقناع الزوج السابق باستعادة عائلته. لكنّني لن أسمَح بذلك أن يحصل! لِذا بقيتُ على تواصل مع الرجُل وسويًّا ألّفنا جبهة مُتماسكة بوجه مايا وأبيها الذان حاولا بالفعل استمالته مُستعملَين ورقة الأولاد. وهو أجابَهم بعدما لقّنتُه ما يقول: "إحتفظوا بالأولاد فهم يشبهونكما... وحين يكبرون قليلاً ويُدركون أنّهما تدرّبا على أيدي نصّابَين، سيعودون إليّ مِن تلقاء نفسهم".
كنّا قد انتصرنا! وسرعان ما وجَدَ ذلك الرجُل سيّدة مُحبّة وشريفة وأنا اقتنعتُ مِن خالي أن يُعرّفني على امرأة مِن اختياره.
اليوم أنا مُتزوّج ولدَيّ ولدان رائعان... أمّا مايا... فهي لا تزال عند أهلها تغلي مِن الغضب والغيرة كلّما رأَت صوَر سعادتي العائليّة ونجاحي المهنيّ على صفحتي التي تركتُها مفتوحة فقط مِن أجل ذلك!
حاورته بولا جهشان