تجمّدتُ في أرضي عندما سمعتُ صوتهنّ، فكيف لي أن أنساه حتى لو كان ذلك مِن حوالي العشرين سنة؟ فالذي عانَيتُه بسبب تلك الفتيات كان قد أثَّرَ بي إلى أقصى درجة، ولم أتصوّر أنّني سأصادفهنّ مجدّدًا.
كنتُ أعمل كمحامٍ في مكتب محاماة كبير، وكنتُ سأصبح شريكًا بعد أن رأى الأستاذ ماهر كيف أُبرعُ بمهنتي، وعَرَض علي أخذ مكان الأستاذ سمير الذي أمسى عجوزًا ومصابًا ببداية داء ألزهايمر. بالطبع قبِلتُ العرض، فتلك كانت فرصة لن تحصل لي مجدّدًا، وركضتُ أزفّ الخبر لخطيبتي.
ووسط تحضيراتي لدخول عالم جديد في المحاماة والقفص الذهبيّ بآن واحد، دخلَتِ المكتب مَن تعوّدتُ أن أسمّيهنّ: "أسوأ الكوابيس". تعرّفتُ فورًا إلى أصواتهنّ وأشكالهنّ بالرّغم مِن مرور الوقت، وتمنَّيتُ لو بقيتُ في المكتب ولم أخرج منه لتبادل الملفّات مع أحد المحامين. تمنّيتُ أيضًا ألا تتذكّرنَني، لكنّ إحداهنّ صرخَت: "أليس ذلك جلال؟!؟". وركضنَ إليّ لتقبيلي وكأنّني أعزّ صديق لهنّ.
الحقيقة كانت مُغايرة تمامًا. ففي سنين الدراسة، كنتُ محطّ سخريّتهنّ المستمرّة بسبب خجلي الزائد والبثور المنتشرة على وجهي. كنتُ الشاب القبيح والذي لا يردّ على التهجّمات، أي الفريسة المثاليّة للذين واللواتي لا احترام لهم للغَير. عانَيتُ كثيرًا مِن ذلك الوضع، فالتنمّر مُعدٍ، وباتَ باقي التلامذة يُشاركون بإهانتي بشكل يوميّ. ولولا شخصيّتي المثابرة، لكنتُ تركتُ المدرسة وقصدتُ غيرها. إلا أنّني بقيتُ أتحمّل ما يجري إلى أن حان الوقت للإلتحاق بالجامعة. هناك استطَعتُ أخيرًا أن أرتاح وأتابع حياتي بهناء. لكن ما مرَرتُ به أثَّرَ بي كثيرًا، فلَم أعد أجرؤ على مكالمة الفتيات، وركّزتُ على علمي لأنّني لم أكن أملك خيارًا آخر. وجاءَت النتيجة لصالحي، فصِرتُ مِن الأوائل، الأمر الذي عزّز ثقتي بنفسي على مرّ السنوات، وبدأتُ أشعرُ بأنّني لستُ نكرة، خاصّة أنّ البثور بدأَت تختفي مِن وجهي. بعد فترة، نسيتُ عذابي وأصبحَت لي حياة عاطفيّة شأن باقي الشبّان.
بعد أن انتهَت تلكم الفتيات مِن تقبيلي ومحاصرتي وسؤالي مئة سؤال عن أحوالي والمسار التي اتّخذَته حياتي، سألتُهم بدوري عن سبب قدومهنّ إلى المكتب. قالَت احدهنّ وإسمها نسرين:
ـ لقد أسأتُ اختيار زوجي وأريد الطلاق. هل لكَ أن تمثّلني؟
إستعدَّيتُ طبعًا لرفض طلبها، حين قدِمَ الأستاذ ماهر الذي سمِعَ الحديث قائلاً:
- بالطبع سيُمثّلكِ يا آنسة، كيف حال أبيكِ؟ هو صديق قديم لي... أعرفُكِ مِنذ صغركِ، قد لا تتذكّريني.
وتعالَت الصّرخات الحماسيّة مجدّدًا، وأسفتُ على الذي يحصل لي. فكيف لي أن أمثّل مَن قَلَبَ حياتي إلى جحيم؟ ضميري المهنيّ لم يكن يسمح لي بالتراخي بعملي، فحاولتُ التهرّب متحجّجًا بقضايا عالقة عليّ معالجتها. لكنّ مُحاولاتي باءَت بالفشل، وأدخلتُ نسرين إلى مكتبي للإستماع إليها، ورحَلَت الباقيات أخيرًا. وهذا ما دارَ بيننا مِن حديث:
ـ زوجي رجل ثريّ وله نفوذ كبير في البلد. عشنا سويًّا سعداء لفترة قصيرة قبل أن يُهملني بسبب عشيقاته. وعندما كنتُ أوبّخه، كان يشتمُني وحتى صارَ يُعنّفُني بشكل وحشيّ. طلبتُ منه أن يُطلّقني، إلا أنّه رفَضَ كي لا يُصبح محط كلام وسخرية الناس.
ـ سخرية... كلمة تعرفين معناها جيّدًا، يا نسرين.
إحمّر وجه موكّلتي، وتغيّرَت ملامحها وقالَت:
ـ كنّا صغارًا... مراهقين... خلتُكَ نسيتَ الأمر.
ـ كيف لي أن أنسى ما فعلتِه وصديقاتكِ بي؟ أعذريني لكنّني لا أستطيع التعاطف معكِ لِما حصل لكِ، فمِن الأفضل أن تجدي محاميًا غيري.
ـ لا... سترى أنّني لستُ إمرأة سيّئة، وأنّني كبرتُ ونضجتُ وأنا جدّ آسفة على كلّ الذي فعلتُه بكَ. أعطِني فرصة أخرى... أرجوكَ.
وأمام إصرارها وإصرار الأستاذ ماهر، أخذتُ كلّ تفاصيل حياة نسرين الزوجيّة، لفتح قضيّة شأنها حمل زوجها على القبول بالطلاق ودفع نفقة، ولِما لا تعويضًا على ما مرَّت به معه وبسببه. كان لدَيّ الإثبات على التعنيف، أي صوَر الكدمات، وأمِلتُ أن أضغط بها على الزوج لقبول شروطنا.
لكنّ الرجل أنكَرَ كلّ شيء ورفَضَ شروطنا، مدّعيًا أنّه لم يمدّ يده على نسرين يومًا ولم يُسئ معاملتها، وأنّ الصوَر التي بحوزتنا غير نافعة لأنّها ليست مصدّقة مِن طبيب شرعيّ. وكان على حقّ. مِن ثمّ رفَضَ التكلّم معي وحوّلني إلى محاميه.
إستاءَت نسرين كثيرًا للمجرى التي أخذَتها الأمور، لكنّني طمأنتُها بأنّني سأجد الدلائل اللازمة.
قصدتُ المبنى الذي يسكنُ فيه الثنائيّ، وبدأتُ أسأل الجيران عن نوعية علاقتهما، بمَن فيهم الناطور، فأكّدوا لي أنّهم لم يسمعوهما يتشاجران يومًا، ولم يُلاحظوا على نسرين علامات تعنيف أو إساءة، جسديّة كانت أم نفسيّة، لا بل حسدوها على حياتها الجميلة.
إتّضَحَ لي أنّ موكّلتي تكذب عليّ، وأنّ زوجها، إن كان يُهملُها، فمِن المؤكّد أنّه لم يكن يُهينُها أو يضربُها. كانت نسرين تريد ببساطة ملء جيوبها بمال زوجها وبدء حياة جديدة لا تتضمّن وجوده.
لذلك أطلعتُها على وجوب التخلّي عن القضيّة ورفع أخرى هدفها الطلاق وحسب. عند سماع ذلك، بدأَت نسرين بالصراخ والشتم والتهديد، ورأيتُ فيها مجدّدًا الفتاة التي عذّبَتني مدى سنين. إثبات آخر على أنّ الإنسان نادرًا ما يتغيّر. لم تنسَ نسرين، قبل أن تخرج مِن مكتبي، أن تعِدني بأنّني سأدفع ثمَن عدم كفاءتي.
في اليوم التالي، طلَبني الأستاذ ماهر إلى مكتبه وقال لي بنبرة قاسية:
ـ لقد خَذَلتني يا جلال... خلتُكَ إنسانًا جِدّيًّا وشريفًا... أخبرَتني نسرين كيف استغلَّيتَ ضعفها وابتزَّيتَها... صحيح أنّها امرأة جميلة وجذّابة لكنّ تهديدها بتخريب قضّيتها إن لَم تقبَل بإقامة علاقة حميمة معكَ هو أمر غير مقبول! وثقتُ بكَ وأرَدتُ مِن كلّ قلبي أن تصبَحَ شريكي، يا للأسف!
ـ هذا الكلام غير صحيح! أقسمُ لكَ أنّني...
ـ وفّر حججَكَ، فأنا محامٍ أيضًا ولا تؤثّر فيّ مرافعاتكَ. ستترك المكتب في آخر الشهر.
صدمتي كانت هائلة. هل يُعقل أن تعود نسرين بعد عشرين سنة لتُكمِل تنكيد حياتي؟ ألن أفلِتَ منها أبدًا؟ إنتابَني غضب كبير وشعور باليأس لا مثيل له. أخبرتُ خطيبتي عمّا جرى لي، وشكرتُ ربّي أنّها كانت على علم بما مرَرتُ به في المدرسة بسبب نسرين، وإلا كنتُ سأخسرُها هي الأخرى.
تجنّبتُ الذهاب إلى المكتب كي لا أصادف الأستاذ ماهر وأيًّا مِن زملائي الذين كانوا قد أصبحوا على علم بقصّة موكّلتي القديمة، ولازمتُ البيت أفكّر بالذي حصَلَ لي وكيف تُساهمُ صدفة في تدمير مستقبلي.
صدفة؟ كنتُ قد تعلّمتُ خلال ممارسة مهنتي عدَم الإيمان بالصّدف، فهل أنّ نسرين قصدَت المجيء إليّ بالذات؟ خطَرَ ببالي التقصّي عن الأمر، فبدأتُ أسأل مِن حولي إن كانت نسرين أو إحدى صديقاتها قد حاولنَ معرفة مكان وجودي أم لا.
حصلتُ على الجواب مِن بائع السجائر الذي يملك كشكًا على مدخل العمارة، فكان هو الذي أكَّدَ لنسرين، بعد أن سألتُه عنّي بالإسم، أنّني أعمل في المبنى. وأخبرَني أيضًا أنّها بقيَت واقفة في الشارع فترة طويلة، أي حتى موعد إغلاق المكتب. لكنّ ذلك لم يكن كافيًا لإقناع صديق أبيها بأنّها كانت تخطّط لإيجادي، مُعتقدة أنّها ستقنعُني بأنّها زوجة معنَّفة، وذلك بسبب وطأتها عليّ مِن خلال تنمّرها لمدى سنوات. لكنّها لم تشكّ بأنّني كنتُ قد بنَيتُ نفسي مِن جديد ولَم أعد خائفًا منها. وحتى بعد أن تمّ طردي مِن المكتب، لَم أعد ذلك الفتى الضعيف، بل صرتُ محاميًا مصمّمًا على استعادة حقّه ومكانته المهنيّة والإجتماعيّة.
دَعم خطيبتي لي أعطاني المزيد مِن القوّة، وتأكّدتُ مِن أنّني أحسنتُ اختياري لزوجة المستقبل. لِذا، عندما خابرَتها نسرين لتقول لها إنّني رجل سافل حاوَل استغلال قضيّتها لأغراض شخصيّة، أقفلَت خطيبتي الخط بوجهها بعد أن قالَت لها إنّ خطّتها فشِلَت.
وبينما كنتُ مشغولاً بإيجاد الدليل على براءتي، إتصَلَ بي أحد زملائي في المكتب ليقول لي إنّ الأستاذ ماهر لم يعد متأكّدًا مِن ذنبي، ومِن مصلحتي أن أذهب إليه للتكلّم معه بعدما هدأ. وهذا ما فعلتُه، وفور دخولي مكتبه قلتُ له:
ـ لدَيّ سؤال لكَ: هل علِمَت نسرين أنّني أعمَل هنا كمحامٍ؟ هل ذكرتَ إسمي أمامها؟
ـ لَم أفعل، فلَم أرَها منذ كانت طفلة. أبوها هو صديقي منذ سنوات طويلة.
ـ وهل علِمَ أبوها بي؟ حتى ولو بشكل غير مباشر؟
ـ لا... فلَم أكلّمه بشأنكَ يومًا. آه! مهلاً! لقد وصلَتني دعوة مِن مكتب والد نسرين لحضور ندوة ثقافيّة، وبما أنّني لم أكن قادرًا على الذهاب إليها، بعثتُ لهم قائمة المحاميّين الموجودين هنا ليختاروا أحدهم، وكان إسمكَ طبعًا في القائمة.
ـ وقد رأتها نسرين وتعرّفَت إلى اسمي، وبما أنّها لم تكن متأكّدة مِن أنّني الشخص نفسه، جاءَت تسأل عنّي صاحب الكشك وانتظرَت أمام المكتب حتى خرجتُ منه وتراني. والرّجل مستعدّ للشهادة بذلك. إسمَع يا أستاذ، تلك المرأة شرّيرة، ولقد أمضَت حياتها تفعل ما تشاء بالناس بمَن فيهم أنا. لكنّني لن أدَعها تتغلّب عليّ بعد الآن. مِن المؤكّد أنّها اختارَتني بالذات لاستلام قضيّتها، لأنّها كانت خاسِرة مِنذ البداية، واتّكلَت على خضوعي لها لفعل المستحيل لربحها، حتى لو تطلَّبَ الأمر اللجوء إلى أساليب غير قانونيّة. عتَبي عليكَ، يا أستاذ، هو أنَّكَ صدّقتَها مِن دون أي دليل، الأمر الذي يتنافى مع أسس مهنتنا التي ترتكز على الدّلائل، ونسيتَ بلحظة سيرتي الطيّبة ومهارتي بالعمل.
ـ لقد تسرّعتُ بالفعل، لكنّ نسرين إبنة صديقي ووجدتُ نفسي مُجبرًا على اتخاذ موقف حيالكَ.
ـ حتى لو ذلك كان سيظلم بريئًا؟ والذي كنتَ تريد تعيينه شريكًا لكَ؟
ـ أريدكَ أن تعود.
ـ وأريدكَ أن تبيّض صفحتي علنًا وإلا لن أرجع.
حصلتُ على اعتذار علَنيّ مِن الأستاذ ماهر، الذي لم ينسَ تعييني شريكًا في المكتب وإخبار أب نسرين بالذي فعلَته ابنته، ونصحَه بإقناعها بالإبتعاد عن المكتب وعنّي وإلا رفَعَ ضدّها قضيّة افتراء.
علِمنا أنّ زوج نسرين طلّقها أخيرًا، لكنّها لم تحصل على شيء، وعادَت إلى بيت أبيها الذي ضيّق الخناق عليها كثيرًا وعلى مصروفها.
أمّا أنا، فتزوّجتُ مِن حبيبتي وهي حامل الآن. وبعد أن يولد الجنين ويكبر، سأعلّمُه كيف يقف بوجه المتنمّرين ويبني لنفسه شخصيّة حديديّة، فالقوّة الحقيقيّة هي وليدة الإرادة والتصميم والثقة بالنفس التي يزرعها الأهل عند أولادهم.
حاورته بولا جهشان