لولا حاجتي الماسّة إلى المال، لَما فكَّرتُ بإعطاء دروس خصوصيّة لأنّني أعلم كم أنّ الأمر متعب. ولكنّني كنتُ قد اشترَيتُ سيّارة جديدة وكانت الأقساط المتوجّبة عليّ كبيرة. الحقيقة أنّنا لم نكن أناسًا أغنياء بل العكس، وشرائي لتلك السيّارة كان إصرارًا منّي على كسر حلقة الفقر التي خنقَتني منذ صغري.
كنتُ مدرّسة رياضيّات في مؤسّسة صغيرة، وبالكاد كان راتبي يكفيني، لِذا قبلتُ بسرعة مساعدة مازن، أحد تلامذتنا.
عندما دخَلتُ بيت تلميذي الجديد، تفاجأتُ بالأثاث الفخم، ولم أفهم لماذا أدخَلَ أهل مازن ولدهم إلى مدرسة متواضعة كمدرستنا، ولكنّني تفاجأتُ أكثر بالأم التي لم تكن تناسب الديكور.
كانت السيّدة ماجدة، أم مازن، إمرأة في متوسّط العمر وأكثر مِن عاديّة، إلى درجة أنّني خلتُها تخدم في ذلك البيت الجميل. أمّا الأب فكان هو الآخر لا يتمتّع بصفات الرّجل الثريّ لا جسديًّا ولا مِن جهّة تصرّفاته.
ولكنّ الأغرب مِن كلّ ذلك أنّ مازن كان شبه متفوّق بالرياضيّات ولم يكن أبدًا بحاجة إليّ، وعندما أطلَعتُ أمّه على عدم فهمي لاستدعائها لي قالت:
ـ أعلم أنّ إبني فالح بدروسه ولكنّني أخشى أن يتراجع يومًا... أريده أن يكون الأفضل كي يحظى بمستقبل لامع.
واقتنَعتُ بذلك التفسير، وبدأتُ التدريس بجديّة، وأعترف أنّني كنتُ مرتاحة جدًّا مع تلميذ يعرف مسبقًا ما سأعلّمه.
وكلّما قصَدتُ بيت أولئك الناس، كنتُ ألاحظ وجود أشياء جديدة، مِن أثاث أو إلكترونيّات، مع أنّ الوالدَين تفاوضا مطوّلاً معي على المال الذي كنتُ سأتقاضاه، الأمر الذي أثارَ غضبي، ولكنّني سكتُّ لأنّني، وكما ذكَرتُ سابقًا، كنتُ بحاجة إلى ذلك العمل الإضافيّ.
وذات يوم، جاءَت أمّ مازن إلى غرفة الطعام حيث كنتُ أدرّس ابنها، حاملة بزّة جميلة وقالَت له:
ـ لقد وصَلَت البزّة، حبيبي... هيّا اذهب وارتدِها لنراها عليكَ، هذا لو سمحَتْ لكَ الآنسة بذلك.
وقبل أن أجيب، قامَ الولد مِن مكانه وأخَذَ الملابس مِن يد أمّه ودَخَل غرفته ليعود منها بحلّته الأنيقة. عندها قالَت لي المرأة:
ـ ننتظر ضيوفًا مميّزين... وعلينا أن نبدو بأفضل حالتنا.
تمتَمتُ لها: "طبعًا" وانتظَرتُ أن يخلع مازن بزّته لنواصل الدرس.
وبعد يومَين، وصَلتُ بيت مازن كالعادة لأجد المكان مضيئًا والمائدة مليئة بأفضل ما يوجد مِن مأكولات. للحظة خلتُ أنّني جئتُ في اليوم غير المناسب، ولكنّ الأب قال لي ضاحكًا:
ـ أعلم بما تفكّرين... لا، لم تخطئي بالموعد، فاليوم هو المقرّر لِدَرس مازن ولكنّنا ننتظر ضيوفًا.
ـ حسنًا... سأعود في يوم آخر إذًا.
ـ لا! بل ستبقَين معنا!
ـ لا لزوم لذلك... قد تودّون الجلوس مع ضيوفكم لوحدكم.
ـ أبدًا... يا صوفيا! تعالي! الآنسة تريد الرّحيل!
ركَضَت الأم التي لم يكن اسمها صوفيا بل ماجدة، وللحقيقة لم أصدّق عَينَيَّ عندما رأيتُها: كانت متبرّجة وشعرها مصفَّفًا وترتدي ثيابًا أنيقة وباهظة الثمَن وفي يدَيها الحلى المذهّبة. هي الأخرى لم تقبل أن أغادر، وأجبرَتني على الجلوس في الصالون بينما ذهَبَ زوجها ليُحضّر نفسه.
جلَستُ مهمومة إلى أن وافاني الأب والإبن بعد أن ارتديا كلّ منهما ثيابًا جميلة. وقبل أن أفهم ما الذي يحصل، سمعنا جرس الباب وقام الجميع لاستقبال المدعوّين.
دخَلَ رجل مع زوجته وألقيا التحيّة عليَّ بلطف، وعرّفَت عنّي الأم قائلة: "مدرّسة ابننا الخاصّة" وذلك بلهجة رسميّة وكأنّها تقول: "مديرة المدرسة". إرتسمَت بسمة على وجهي، وردَدتُ التحيّة ولكن كان كلّ ما أريده أن أرحل بعيدًا، فلم يغب عنّي أنّ شيئًا غريبًا كان يحصل.
ثمّ خَرَجَت مِن المطبخ عاملة أجنبيّة ترتدي زيًّا، وسألَت ربّة البيت إن كانت تريد شيئًا منها فأجَابتها هذه الأخيرة: "لا يا كامالا، عودي إلى عملكِ". ونظَرَت إلى ضيوفها بِفخر. أقسم أنّني لم أرَ يومًا تلك العاملة، وأنا متأكّدة مِن أنّ هؤلاء الناس لم يكونوا يملكون المال الكافي لدفع راتبها. ولكثرة انزعاجي مِن الذي كان على الأرجح مسرحيّة كبيرة، وقَفتُ واستعدَّيتُ للرحيل.
وركَضَ مازن وهَمَسَ لي: "أرجوكِ آنستي لا ترحلي... لا تتركيني معهم، فأنا أكره ما يفعله والدايَ".
جلَستُ صامتة بانتظار باقي التمثيليّة.
وتتالَت الأطباق الفاخرة والمشروب الغالي الثمَن، ومِن ثمّ بدأ أب مازن بالكلام عن الأعمال. أيّ أعمال؟ فالرّجل كان بالكاد يجني ما يكفي لإطعام عائلته!
وفهِمتُ مِن الحديث أنّه يعرض على زائرَيه الاستثمار في مشروع يدرّ المال الوفير، مضيفًا: "أنظرا حولكما... هذه هي نتيجة التعامل بالأسهم... وبوقت قصير... إسألا المدرّسة... عندما بدأَت بتعليم ابننا لم يكن لدَينا شيء... أليس كذلك؟".
ونظَرَ إليّ لأجيب، فهمَستُ:" نعم" وسكَتُّ.
وتابع الأب، ودخَلَ في تفاصيل كثيرة لم أفهم نصفها وبأرقام معقّدة لم يفهمها لا الرجل ولا زوجته. ولكن قبل انتهاء الزيارة، كانت الصّفقة قد أُبرِمَت.
شَرِبَ الجميع نخب "التعامل الجديد والمستمرّ" ورحَلَ الضيفان. أمّا أنا فبقيتُ جالسة مكاني لا أعرف ما عليّ فعله. عندها قالَت لي صوفيا/ ماجدة:
ـ نشكركِ على تعاونكِ، حبيبتي... ستحصلين على عمولتكِ مِن الصفقة.
ـ لا أريد شيئًا منكم أو مِن أحد! ما الذي جرى؟ وما دخلي أنا؟
ـ ما دخلكِ؟ هل أنتِ جادّة؟ لقد ساعدتِنا ومِن واجبنا إكرامكِ.
ـ أنا لم أفعل شيئًا بل أنتم أجبَرتموني على البقاء... ما الذي يجري؟ أريد أن أعلم!
ـ حبيبتي... أنتِ مدرّسة رياضيّات أي أنّكِ تستعملين المنطق... يا كمال! هل أخبر المدرّسة أم لا؟
أجابَها الأب بعدما ظهَرَ بثياب النوم: "أخبريها، فهي الآن شريكتنا". نظَرتُ إلى الأم مستفسرة:
ـ شريكة بماذا؟
ـ بِلعبتنا... حين نحصل على مال هذَين المغفّلَين وندفع ثمن مشترياتنا، ستأخذين نصيبكِ، ولكن في المرّة القادمة عليكِ أن تكوني أكثر إقناعًا. أعلم أنّ كلّ ذلك جديد عليكِ ولم تكوني جاهزة، ولكنّنا سندرّبكِ.
ـ لا أريد أن أشترك بما هو خطأ... مِن الواضح أنّكما تنصبان على الناس، وهذا حرام! سأقول للجميع ما الذي تفعلانه!
ـ كمال! المدرّسة ترفض الاشتراك معنا وتهدّد بفضحنا، ماذا أفعل؟
سكَتَ الرجل ثمّ قال لي بلهجة جدّيّة:
ـ إسمعي... لقد استثمَرنا الكثير بهذه اللعبة، ولن أخاطر بأن أفقد كلّ شيء بسبب فتاة سخيفة مثلكِ... لا خيار لكِ، فلو رفَضتِ الانضمام إلينا سأضطّر إلى أذيّتكِ، ليس جسديًّا فهذا ليس أسلوبي، ولكن بطريقة مختلفة... مازن، ماذا اتفقنا أن تفعل لو رفضَت مدرّستكَ التماشي معنا؟
نظَرَ الصبيّ إليّ بحزن عميق وأجابَ بصوت خافت:
ـ سأقول إنّها تعطيني أجوبة الامتحانات مسبقًا وإنّها تبيعها للتلامذة.
ـ وإن لم تنجح هذه الطريقة؟
ـ عندها سأقول إنّها... إنّها...
ـ تكلّم أيّها الناكر للجميل!
ـ إنّها تلمسني في أماكن حميمة... سامحيني يا أنستي! لا أريد أيّاً مِن كلّ ما يحصل! سامحيني!
وذهَبَ مازن إلى غرفته باكيًا، وأنا بقيتُ صامتة أفكّر بالذي يجري، غير مصدّقة ما سمعتُه. قامَت صوفا/ ماجدة مِن مكانها وجلسَت بالقرب منّي وهمسَت بأذني:
ـ أو يُمكنكِ نسيان الموضوع برمّته، ولكن إيّاكِ أن تتفوّهي بكلمة واحدة وإلا...
صَرَخَ بها زوجها:
ـ ماذا تفعلين؟ ليس هذا ما اتفقنا عليه!
ـ ألا ترى أنّها غير مستعدّة؟ قد تُفشِل خطّتنا وتفضحنا مِن غير قصد... مِن الأفضل أن نجد أخرى.
لِشدّة فرحَتي كدتُ أعانق المرأة وأشكرها على اعفائي مِن القيام بما طُلِبَ منّي. ركَضتُ إلى الباب واختفَيتُ إلى الأبد مِن حياة هذَين الفاسدَين.
وبعد أشهر قليلة وعندما انتهَت السنة الدراسيّة، قمتُ بتقديم استقالتي خوفًا مِن أن يُغيّر الأب رأيه ويؤذيني كما قال. أسَفي الوحيد كان على مازن الذي لم يعد قادرًا على النظر إليّ خلال الحصص مِن شدّة خجله منّي. تراجعَت علاماته بشكل مخيف، ولكنّني لم أكن قادرة على مساعدته. تعاقَدتُ مع مدرسة أخرى وتابَعتُ حياتي إلا أنّني لم أنسَ الذي حَصَلَ معي. والذي أثَّرَ بي كثيرًا هو أنّني لم أتمكّن مِن فَضح والدَي مازن اللذَين كانا قادرَين على الانتقام منّي، خاصّة أنّهما درّبا ابنهما على الكذب حتى لو كان ذلك بالرغم عنه.
بعد حوالي الثلاث سنوات، علِمتُ مِن زميلة لي كنتُ قد بقيتُ على اتصال بها أنّ الشرطة ألقَت القبض على النصّابَين وأنّ ابنهما ذهَبَ للعيش مع جدّته في مدينة بعيدة.
وذات يوم قصَدتُ تلك المدينة وبعد البحث وجَدتُ منزل الجدّة. فتحَت لي العجوز وعرّفتُها بنفسي وأعطَيتُها رسالة لمازن الذي كان في مدرسته تقول:
"لا نختار أهلنا ولكنّنا نختار مسار حياتنا... نتعلّم مِن أخطائنا ومِن أخطاء الغَير لبلوغ الأفضل... أنظر أمامكَ فالمستقبل ملككَ، كُن قدوة للآخرين ومثالاً للذين بحاجة إليكَ... أنتَ إنسان موهوب وطموح، وأنا واثقة مِن أنّني سأقول يومًا بفخر: هذا الرّجل الناجح والنزيه كان تلميذي".
حاورتها بولا جهشان