الأمر الذي ورّطَني بالمشاكل التي واجهتُها أثناء دراستي الجامعيّة، سببها ذكائي الفائق. فمنذ صغري، وأنا أجدُ سهولة بكلّ شيء وكأنّني أعرفُ أجوبة وحلول أيّ مسألة في أيّ مادّة كانت. بالطبع فَرِحَ أهلي بابنتهما المميّزة وبتُ فخر العائلة بأسرها. صحيح أنّني شعرتُ وكأنّني مخلوقة غريبة عجيبة يتمّ عرضها أمام الناس، إلا أنّني تفهّمتُ الأمر بكلّ رحابة صدر.
أثناء متابعة دراستي، قرّرَت المديرة أن ترقّيني صفَّين لأنّني كنتُ أملّ خلال الحصَص، وهكذا وصلتُ الجامعة في سنّ مبكّر جدًّا.
علاقتي بزملائي كانت دقيقة، لأنّهم لم يعرفوا كيف بتعاملون مع إنسانة مثلي، لذا بقيتُ وحيدة أركّز على نَيل إجازتي في الفيزياء بتميّز، كما اعتَدتُ أن أفعل. في بداية سنتي الثالثة، دخَلَ صفّنا أستاذ أذهَلَ بوسامته وأناقته جميع الطالبات، بمن فيهنّ أنا. لكنّني لم أبدِ إعجابي علنًا كما فعلَت الباقيات واكتفَيتُ بالنظر إليه وهو يشرح لنا الدّرس. تكرَّرَ المشهد نفسه كلّما رأيتُ الدكتور مجد، ووصَلَ الأمر بي إلى رؤيته بأحلامي ليلاً. أمّا هو، فلاحَظَ طبعًا مدى ذكائي مِن طريقة تدخّلي بالشرح وطَرح أسئلتي، وتأكَّدَ مِن تفوّقي عند أوّل امتحان خضَعتُ له بمادّته. عندها جاءَ مجد إليّ قائلاً:
ـ أنتِ مُذهلة يا عليا... مِن جوانب عدّة.
إحمرّ وجهي وإنربَطَ لساني وركضتُ خارج الصفّ بسرعة فائقة. ومنذ ذلك اليوم، بدأ أستاذي يخصّصني بانتباه واهتمام واضحَين وأنا صِرتُ مفتونة به لا بل وقعتُ في غرامه.
بعد حوالي الشهر، طلبَني مجد إلى مكتبه وقال لي إنّه يودّ دعوتي إلى العشاء، لأنّه يشعر بالحاجة إلى التواجد معي، الأمر الذي يستحيل فعله خلال الدّوام الجامعيّ. وحين قبلتُ دعوته، أسَرَع بتذكيري بعدَم إخبار أحد بالأمر، لأنّ قوانين الجامعة تمنع على أيّ أستاذ إقامة علاقة مع تلميذاته. وعدتُه بأنّني سأبقي الأمر لي. على كلّ حال لم تكن لدَيّ صديقات مقرّبات لأتناول معهنّ مواضيع خاصّة.
لم أُخبر حتى أهلي باهتمام أستاذي بي، لأنّني كنتُ متأكّدة مِن أنّهم سيُعارضون خروجي معه بسبب فارق السنّ. صحيح أنّني أصبحتُ راشدة، لكنّ رجلاً في الخامسة والثلاثين مِن عمره لم يكن العريس الذي أرادوه لي، بل تمنّوا لي شابًّا في مستهلّ عمره يُشاطرني أحلامي وأفكاري.
قضَيتُ ومجد وقتًا ممتعًا في ذلك المطعم اللطيف والبعيد كلّ البعد عن المدينة. إختياره لذلك المكان كان، حسب قوله، بسبب أجوائه الرومنسيّة، لأنّه أرادَ أن أشعر بعاطفته الكبيرة تجاهي. كنتُ بأوج فرحتي، فقد كان اعتراف مجد لي بمثابة انتصار على كلّ الذين اعتبروني غريبة الأطوار، وتنبّأوا لي بحياة جافّة بعيدة عن الحبّ والزواج.
بعد ذلك العشاء، صِرنا نتواعد باستمرار ودائمًا في أماكن بعيدة، ولكن ضمن إطار الأخلاق. فلَم يُحاول مجد حتى معانقتي أو تقبيلي، وفسَّرَ لي الأمر بأنّه احترام فائق لي. لم يكن أستاذي يقضي وقتًا معي، بل يُريد إعطاء علاقتنا صفة شرعيّة حالما أتخرّج، أي بعد سنة ونصف.
لِذا لم أرَ مانعًا لموافاته في شقّته، إذ لَم يكن هناك ما أخشاه. على كلّ الأحوال، كلّ ما كنّا نفعلُه كان التكلّم عن الدّرس والنقاش بمواضيع علميّة بحت. حتى أنّ مجد أعطاني ما أسماه ضاحكًا "فرضًا" أقومُ به بوقتي الزائد، وهو تفسير معادلة وتطبيقاتها عمليًّا. وأنا وجدتُ الأمر مسليًّا، خاصّة أنّه أضافَ:
ـ سنرى مَن منّا يصل إلى الحل قبل الآخر! وأنا متأكّد مِن أنّني سأفوز بالرهان!
ـ سنرى ذلك... لا تنسى أنّني صبيّة متفوّقة!
وكي أثبتَ لمجد أنّني إنسانة تهوى التحدّيات، بدأتُ أفكّر ليلاً نهارًا بتلك المعادلة، وأحاول تفسيرها وتطبيقها بشتّى الطرق. أعترفُ أنّ المهمّة لم تكن سهلة، فالكثير مِن قبلي حاولوا الوصول إلى نتيجة، إلا أنّني كنتُ أتمتّع بعقل ومنطق نادرَي الوجود.
وقبل انتهاء السنة، كان لدَيّ الحلّ وقدّمتُه بفخر لمجد أثناء إحدى زياراتي له. نظَرَ إلى التفسير الذي قرأه بدقائق قليلة، ثمّ عانقَني بقوّة قائلاِ:
ـ كنتُ متأكّدًا مِن ذلك! إختياري لكِ كان بمكانه! أنا فخور بكِ، يا حبيبتي.
شعرتُ في تلك اللحظة أنّني أمتلكُ الدنيا بأسرها، خاصّة أنّ مجد كان قد عانقَني لأوّل مرّة، واستطعتُ أن أشعر بدفء حنانه.
الفرصة الصيفيّة كانت مملّة، لأنّ حبيبي سافَرَ إلى أوروبا عند أمّه التي كانت مسنّة ولا تتمتعُ بصحّة جيّدة. الشيء الوحيد الذي كان يُعزّيني، هو أنّنا كنّا سنتزوّج بعد سنة، ونعيش مدى الحياة سويًّا ونسافر إلى أمّه يدًا بِيَد.
سنتي الأخيرة في الجامعة تكلّلَت طبعًا بنجاح مُطلق واعتراف عام بتفوّقي. عاطفيًّا كنتُ أيضًا محظوظة، إلا أنّ مجد صارَ مشغولاً بصحّة أمّه في الخارج، بعد أن فضَّل أن تبقى حيث هي لتحظى بطبابة متطوّرة وآمنة. تخرّجتُ بدرجة إمتياز وبدأتُ أتحضّر، ولو نفسيًّا لزفافي. فالجدير بالذكّر أنّني لم أُخبر أهلي باقتراب زواجي، إذ كان بعد على مجد أن يأتي إلى بيتنا والتكلّم مع ذويّ. إلا أنّه أجَّلَ الأمر إلى حين تتحسّن والدته بعض الشيء كي "يتفرّغ لي ولحبّي".
بدأتُ العمل بمؤسّسة تُعنى بالأبحاث العلميّة، ولدَيها فروع في كلّ أنحاء العالم، وصرتُ أجني مبالغ كبيرة بسبب إسهامي في هذا الحقل المميّز. سافَرَ مجد مجدّدًا، لكنّه، هذه المرّة، لم يعُد بل أرسَلَ لي أنّه وجَدَ وظيفة مرموقة في إحدى أعظم الجامعات الاوروبيّة وأكَّدَ لي أنّه سيبعثُ لي بالأوراق اللازمة للّحاق به.
أسفتُ كثيرًا، فلَم أكن مستعدّة لترك بلدي وعائلتي، وأدَع دولة غريبة تستفيد مِن جهودي، لكنّني كنتُ أحبّ مجد كثيرًا فقرّرتُ التفكير بالموضوع مليًّا. لكنّني لم أستطع إعطاءَه جوابي لأنّني، وبكل بساطة، لم أعُد قادرة على الإتصال به أو التواصل معه بعد أن أقفَلَ خطّه واختفى كليًّا عن السّمع. لم أكن أعلَم عنوانه، بل فقط إسم الجامعة التي بدأ التعليم فيها. وبعد أن سألتُ نفسي مئة سؤال عن سبب اختفاء مجد، قرّرتُ التصرّف: طلبتُ مِن مدير المؤسّسة التي أعمل فيها أن يُرسلني إلى اوروبا للقاء بعض العلماء هناك. وعندما سألَني عن السّبب، أجبتُه: "ثِق بي، فهذا لخَير عملنا... إلى جانب ذلك، لقد قرأتُ في بعض المقالات الصّادرة عنّا، ومنها أنّ المؤسّسة تتبادل خبراتها وخبرائها مع باقي الدول مِن خلال بعثات دوريّة". قَبِلَ مديري طلَبي، وسافَرتُ إلى حيث هو مجد. وأوّل شيء فعلتُه هو قصد تلك الجامعة، على أمل معرفة مكان حبيبي والتكلّم معه.
لم اتفاجأ كثيرًا عندما سألتُ عن مجد في الجامعة وقيل لي إنّه في إحدى الصفوف يُعطي محاضرته، فشيء في داخلي كان يعلم أنّ اختفاءَه هو عنّي بالذات، وذلك لأنّني لم أكن مُقتنعة تمامًا بقراره المفاجئ بالعَيش في أوروبا بعد رحلاته المتعدّدة إلى أمّه.
عندما دخلتُ القاعة ورآني مجد، توقّف عن الشرح ونظَرَ إليّ وكأنّه رأى شبحًا أمامه. جلستُ على أحد المقاعد وسط الطلّاب، وأخذتُ أستمع إليه وهو يُحاول إكمال درسه. لَم أشح بنظري عنه طوال الوقت، الأمر الذي أربَكه إلى أقصى درجة.
وحين انتهَت الحصّة وخَرَجَ جميع الطلّاب، إقترَبتُ منه وسألتُه:
- لماذا؟
لم يُجبني مجد بل فرَّ كالجبان. لحقتُ به وتبعتُه مِن دون أن يدري إلى مبنى كبير دخلَه بسرعة. قرَعتُ باب الناطور وسألتُه عن "الدكتور مجد" فقال لي إنّه يعيش في الطابق الرابع مع زوجته وطفله. سالَت دموعي على خدَّيَّ وعدتُ إلى الفندق.
لكنّني لم أكن قد أشفَيتُ غليلي بعد، لِذا عدتُ في اليوم التالي إلى الجامعة وحضرتُ مجدّدًا حصّة مجد. وعندما أدركَ هذا الأخير أنّني لن أدعَه وشأنه مِن دون أن يُبرّر لي ما فعلَه بي، قبِلَ أخيرًا أن يُفسّر لي ما أردتُ معرفته. وهذا ما قاله:
ـ لم أتصوّر أنّ تأتي إلى هنا، يا عليا. إستخفَّيتُ بذكائكِ مع أنّه السّبب لتقرّبي منكِ. ستعلمين الحقيقة عاجلاً أم آجلاً فالخبر سيُنشر في إحدى المجلات العلميّة قريبًا. لقد استغلَّيتُكِ لتحلّي تلك المعادلة العلميّة التي شغلَتني لسنين. وحدكِ كنتِ قادرة على ذلك، والسّبيل للوصول إلى مُبتغايَ كان الإيحاء لكِ بأنّني أحبّكِ. لقد غشَشتُكِ ولستُ فخورًا بنفسي. لكنّني لستُ نادمًا أيضًا، لأنّني استطعتُ التعليم في هذه الجامعة العظيمة والتزوّج مِن التي أحبُّها فعلاً. قد أكون نذلاً، إلا انّني وصلتُ إلى هدفي. فالغاية تبرّر الوسيلة. آسف.
وقبل أن يُغادر القاعة صرختُ فيه:
ـ سأفضحُكَ!
ـ كيف؟ ليس لدَيكِ أيّ دليل. عودي إلى البلد... بعد فترة ستعتادين على فراقي.
كان على حقّ، لم يكن لدَيّ شيء يُثبتُ ملكيّتي لحلّ المعادلة. لكن قبل ركوبي الطائرة بساعات قليلة، طلبتُ مقابلة رئيس الجامعة وقلتُ له إنّ مجد ليس مَن حلّ المعادلة بل أنا. لم أطلب منه شيئًا، بل اقترَحتُ عليه إختبار مجد في مسائل كنتُ قد كتبتُها له على ورقة. ورحلتُ.
بعد حوالي الثلاثة أشهر، وصلَتني رسالة على هاتفي مِن رقم أوروبّي تقول: "لقد فعلتِها، يا حقودة! تمّ طردي، هل أنتِ سعيدة الآن؟"
إبتسمتُ إبتسامة عريضة وأجبتُ: "نعم... فلقد استخفَّيتَ بذكاء إنسانة إستغلَّيتَها بسبب ذكائها... إعلم أنّه تصرّف غير ذكيّ، يا "دكتور".
حاورتها بولا جهشان
