شعرتُ بوحدة كبيرة بعد انتقالي إلى مسكننا الجديد. الفرق كان شاسعًا بين بيتنا القديم وذلك المكان الموحِش. فلقد اعتَدتُ على جيراني والبقّال والحركة التي تملأ الحَيّ. للحقيقة، منذ يوميَ الأوّل، قرّرتُ التعرّف إلى جيراني الجدد في المبنى وفي باقي الشارع، إلا أنّ الأمر لَم يكن سهلاً. فهؤلاء الناس كانوا شديديّ الإنشغال، ولَم يكن لدَيهم الوقت للإجتماعيّات، على عكسي. فأنا لا أعمَل، لأنّني ربّة بيت أهتمُّ بعائلتي الجميلة. وحين كان يذهب زوجي إلى وظيفته وأولادنا إلى مدارسهم، كنتُ أبدأ بترتيب المكان وتحضير وجبة الطعام. بعد ذلك، إعتَدتُ الجلوس على الشرفة الجميلة المُطلّة على حديقة عامّة وأبنية سكنيّة ضخمة.
وذات يوم، وأنا جالسة على تلك الشرفة أشربُ قهوتي، رأيتُ امرأة قُبالتي واقفة على شرفتها تتكلّمُ على الهاتف. هي نظَرَت إليّ باستغراب، ربمّا لأنّها ظنَّت أنّ شقّتنا غير مسكونة، وأنا أشرتُ لها بيَدي وابتسَمتُ لها، إلا أنّها أسرعَت بالدخول إلى بيتها. أسِفتُ لذلك، فهي كانت بسنّي تقريبًا، وأملتُ أن تردّ لي التحيّة ونصبح بعد فترة صديقَتين.
لَم أستسلم وصِرتُ أجلسُ على الشرفة يوميًّا في الوقت نفسه، آملةً أن أرى جارتي مِن جديد وألا تكون عبر الهاتف. لكنّ ذلك لَم يحدث وبقيتُ وحيدة.
مرَّت الأيّام، وحَدَثَ أن ألتقَيتُ جارتي المجهولة صدفة في سوبر ماركت المنطقة. كنتُ متأكّدة مِن أنّها نفسها، لِذا ركضتُ إليها وبسمة عريضة على وجهي قائلة:
ـ مرحبًا! أنا جارتكِ في الحَيّ! أنا التي أشرت لكِ ذات يوم وأنتِ تتكلّمين على الهاتف.
ـ أنتِ حتمًا مُخطئة، فلَم أرَكِ يومًا.
ـ بلى، بلى، وحين رأيتِني، دخَلتِ بسرعة إلى شقّتكِ.
ـ أقولُ لكِ إنّكِ مُخطئة! ما بالكِ لا تفهمين؟!؟ دعيني وشأني! يا لكِ مِن مُتطفّلة!؟
تركَتني تلك المرأة واقفة قرب قسم الخضروات ورحَلَت بسرعة. حزنتُ كثيرًا ممّا قالَته لي، وسألتُ نفسي إن كانت وحدَتي قد حوّلَتني حقًّا إلى إنسانة مُتطفّلة. بعد حوالي النصف ساعة، رأيتُ جارتي مُجدّدًا عند الصندوق برفقة رجل، ومِن ثمّ خرجا سويًّا.
أخبرتُ زوجي بالذي جرى، وهو نصحَني بألا أصرُّ عليها بل أن أتركها وشأنها:
ـ قد يكون زوجها رجلاً صعب وحاد الطباع، فلا تُقحمي نفسكِ بالمشاكل.
ـ معكَ حقّ... أقسمُ أنّها هي نفسها التي...
ـ أعرفُ أنّكِ شديدة المُلاحظة وأنّكِ حتمًا على حقّ، لكنّ المرأة لا تُريدُ صداقتكِ.
بعد أيّام على حادثة السوبر ماركت، في حين كنتُ جالسة كعادتي على الشرفة، خرجَت جارتي هي الأخرى وأومأت لي. إستغربتُ الأمر، إلا أنّني فرحتُ لذلك وردَدتُ لها التحيّة. وقفنا صامتَتين لبرهة ومِن ثمّ اختفَت المرأة في الداخل. كان ذلك يكفيني لأنّه كان يعني أنّني لَم أخطئ وما هو أهمّ، لَم أُزعجُها كما قالَت لي.
صِرنا نتلاقى يوميًّا على الشرفة، ونومىء لبعضنا ونضحكُ لهذا المشهد غير الإعتياديّ. لَم نتبادل الكلام، فالمسافة بيننا لا تسمحُ بأن نفعل مِن دون صراخ. إلا أنّنا اكتفَينا بذلك، وأعترفُ أنّ مُجرّد رؤيتها ومعرفتها تستلطفُني كان يُفرحُ قلبي. خَفَّت وحدَتي وصارَ لي صديقة... عن بُعد.
للحقيقة لَم أخبر أحدًا عن الذي يجري خوفًا مِن السخرية، فكنتُ أعرفُ أنّ الوضع مُضحكٌ، لكنّه كان يعني الكثير لي. إضافة إلى ذلك، كان للأمر طعم لذيذ، ربمّا لأنّه كان سرّيًّا، وكنتُ متأكّدة مِن أنّ صديقتي، أيًّا كان اسمها، كانت تشعرُ بالمثل. على كلّ الأحوال، كانت جارتي تخرجُ دائمًا إلى الشرفة بغياب زوجي وأولادي، فلَم يرَها أحدٌ ولو مرّة واحدة، وكان ذلك أفضل بكثير. وذات مرّة، خَرَجَت جارتي إلى شرفتها حاملةً جوّالها، فسألتُها بالإيماء إن كانت تتكلّمُ مع زوجها، مُشيرةً إلى خاتم الزواج الذي في إصبعي، وهي ردَّت بالنفي واضعة يدَها على قلبها. فهمتُ منها أنّها تكلّمُ أحدًا عزيزًا عليها، ربمّا أحد أقربائها... أو عشيقها. ومع أنّ تلك الفكرة الأخيرة كانت غير أخلاقيّة، إلا أنّها أعجبَتني. فالغموض الذي كان يلفُّ صديقتي البعيدة القريبة كان مُثيرًا ويفتحُ مجالاً واسعًا للخيال. كنتُ أعلم أنّ الحقيقة قد تكون عاديّة جدًّا، إلا أنّني أخذتُ أتصوّر قصصًا عديدة ومُشعّبة عن تلك المرأة.
الغريب في الأمر أنّني لَم أشعر بالحاجة للجلوس مع جارتي والتكلّم معها عن قرب، أو حتى معرفة إسمها، وأظنُّ أنّها أيضًا اكتفَت بوجودي في الجهة المُقابلة مِن الشارع.
مرَّت الأشهر على هذا النحو، ولاحَظَ الجميع عليّ التغيّر الذي ولّدَته صداقتي الجديدة. فقد صِرتُ أكثر فرحًا وعُدتُ أضحكُ كالسابق. حتى علاقتي الزوجيّة تحسّنَت بسبب جارتي.
وفي تلك الفترة بالذات، جاءَت أختي الكبيرة وعائلتها للعَيش بالقرب منّا. لن أقدر على وصف فرحتي، فكنتُ جدّ مُقرّبة منها وكان بُعدها الجغرافيّ عنّي قد أثَّرَ كثيرًا عليّ. وفي أوّل زيارة لها لبيتنا، أخبرتُها عن صديقتي السرّيّة وجعلتُها تكتمُ السرّ. ضحِكَت سلوى لظرافة الأمر، وقالَت لي إنّني أذكّرُها بفترة طفولتنا عندما كنتُ أحوكُ القصص وأضخّمُها بسبب مُخيّلتي الواسعة. حاولتُ أن أشرَحَ لها سبب إصراري على إبقاء جارتي في الظلّ، إلا أنّها لم تفهَم دوافعي. جلَسنا على الشرفة وانتظَرنا خروج صديقتي. خفتُ أن تتوارى جارتي عن الأنظار كما تفعلُ دائمًا عندما لا أكون وحدي، لكنّها أطلَّت برأسها وأشرتُ لها بأنّ لا مانع أن تظهَر. كنتُ مُتحمّسة جدًّا لمُشاركة شخص بتلك العلاقة الممّيزة، وما مِن أحد كان يستحقُّ ذلك أكثر مِن أختي. صرَختُ لها:
ـ ها هي! أنظري! إنها صديقتي بالمُراسلة.
ـ أين هي؟ لا أراها.
ـ هناك! قبالتنا! إنّها توميء لكِ! ما بالكِ لا ترَينها؟ هل أُصبتِ بالعمى؟
ـ لا يوجد أحد على تلك الشرفة يا أختي. ما هذه الدعابة السخيفة؟
ـ يا لَيتني لَم أُطلعكِ على سرّي، فها أنتِ تسخرين منّي! كيف لكِ ألا ترَي إمرأة واقفة أمامنا وتلوّحُ لنا بيدها منذ دقائق طويلة؟
نظرَت إليّ أختي بامعان وقالَت:
ـ يا إلهي... أنتِ لا تمزحين... إنّكِ ترَين حقًّا شخصًا غير موجود! يا حبيبتي... هل أنتِ وحيدة إلى هذه الدرجة؟
غضبتُ للغاية مِن كلام سلوى الذي كان يعني أنّني فقدتُ صوابي، في حين كنتُ أُعَدُّ مِن أعقل النساء، إلا أنّني فضّلتُ عدَم الدخول في سجال عقيم.
إكتفَيتُ بالدخول معها إلى البيت وتحضير قالب مِن الحلوى لأنسى ما جرى. وفي اليوم التالي، إنتظرتُ خروج صديقتي إلى الشرفة، إلا أنّها بقيَت مُختفية. لا بدّ أنّ وجود سلوى وعدَم ردّها التحيّة لها قد أزعجاها.
أمِلتُ أن تُسامحَني صديقتي وتعود إليّ. لكنّ ذلك لَم يحصل، بل اختفَت جارتي كليًّا. خفتُ كثيرًا عليها وجاءَت ببالي ألف فكرة سيّئة: هل مرضَت أم وقعَت، أم أنّ زوجها آذاها بعدما اكتشفَ أمر حبيبها السرّيّ؟ وبعد مرور أسبوع بالكامل على هذا النحو، قرَّرَت أن أقصد المبنى المُقابل وقرع بابها.
عند المدخل، أوقفَني الناطور سائلاً أين أنا ذاهبة
فقلتُ له:
ـ عند صديقتي في الدور الرابع.
ـ لا يوجد أحدٌ هناك. الطابق مهجور مِن سنوات.
ـ هذا لا يعقل. إنّها صديقتي وأراها كلّ يوم على شرفتها!
ـ يا سيّدتي، أقولُ لكِ إنّ ما مِن أحد سكن تلك الشقّة منذ سنوات.
ـ أنتَ كاذب! مَن أمرَكَ بالكذب هكذا؟ زوجها؟ إن لم تدَعني أمرُّ سأضطرُّ لِطلَب الشرطة وسيأخذونكَ إلى القسم!
ـ حاضر، حاضر. إصعدي وانظري بنفسكِ.
نظرتُ إلى الرجل بِغضب شديد، وصعدتُ السلالم بدلاً مِن المصعد لكثرة انشغال بالي على جارتي. عندما وصلتُ الطابق الرابع، بدأتُ أرنُّ جرس الباب ثمّ بدأتُ أُخبِطُ عليه بكلّ قوايَ. فصديقتي كانت حتمًا بخطر أو فاقدة الوعي. لكن ما مِن أحد أجابَ، بل صعدَت الجارة التي تسكن في الطابق الثالث:
ـ ما هذا الضجيج؟!؟
ـ بسرعة يا سيّدتي، فهناك مَن بحاجة إلى مُساعدة في الداخل!
ـ في الداخل؟ لا يوجد أحد في الداخل، فالطابق مهجور.
ـ ما بالكِ أنتِ الأخرى؟ إنّها مؤامرة! صديقتي تعيشُ هنا وأراها واقفة على شرفتها كلّ يوم! أتقولين إنّني مجنونة وأتصوّرُ أشياءً؟
ـ أجل! كفّي عن إصدار الضجيج فلَن يفتَحَ لكِ أيّ كان، صدّقيني.
رحلَت المرأة وأنا جلستُ على إحدى درجات السلالم أفكّرُ بالذي يحصل. عندها تذكّرتُ كيف أنّ أختي لَم ترَ جارتي، وليس لدَيها أيّ دافع للكذب عليّ. وكان هناك أيضًا كلام الناطور وجارة الطابق الثالث... هل يُعقَل أن أكون قد تخيّلتُ وجود تلك المرأة، وأنّها لم تكن سوى سراب؟
عدتُ إلى البيت واتّصلتُ بأختي على الفور طالبةً منها المجيء بسرعة. وصلَت المسكينة بغضون دقائق ظانّةً أنّني متوعّكة أو وقعتُ ضحيّة حادث ما. جعلتُها تُقسمُ لي بأنّها لَم ترَ صديقتي، وعندما فعلَت، رويتُ لها ما حصل عندما رحتُ أطمئنّ علي جارتي. سكتَت أختي مطوّلًا ثمّ قالَت:
ـ ليست تلك المرّة الأولى التي يحصلُ لكِ ذلك.
ـ ماذا تقصدين؟!؟
ـ كنتِ صغيرة للغاية، قرابة الثالثة مِن عمركِ، وشعرتِ بالملل الشديد. ففارق السنّ بيني وبينكِ لَم يسمحَ لكِ بمرافقتي أينما أذهب، ولم يكن لي طول البال الكافي للّعب معكِ. لِذا اخترَعتِ لنفسكِ صديقة وهميّة. إستشارَ والدانا طبيبًا نفسيًّا قال لهما إنّ الأمر ليس خطيرًا، وإنّ عددًا كبيرًا مِن الأولاد يمرّون بحالتكِ. ونصحَهم الأخصّائيّ بتجاهل الأمر الذي سيزولُ لوحده، الأمر الذي حصَلَ فعلاً.
ـ لا أذكرُ أيًّا مِن هذا.
ـ وحين جئتُ لزيارتكِ هنا وأشَرتِ لي إلى امرأة غير موجودة، علِمتُ أنّها أيضًا صديقة وهميّة. لذا خابَرتُ طبيبًا نفسيًّا نعرفُه، فقال إنّ وحدتكِ أعادَت لكِ الحاجة لِمَن يكون معكِ في أوقاتكِ الموحشة.
ـ لكنّها اختفَت!
ـ لأنّني جئتُ أعيشُ بالقرب منكِ، فعقلكِ الباطنيّ لَم يعد بحاجة إلى شخص خياليّ.
ـ قولي لي بصراحة، هل انا مريضة عقليّة؟!؟
ـ قال الطبيب إنّ أمر الصديق الخياليّ قلّما يحدثُ للراشدين، لكنّكِ مرَرتِ بالحالة نفسها في صغركِ، ممّا يعني أنّ الأمر ليس خطيرًا. يا أختي، أنا هنا الآن ولن أترككِ، لن أكرّر الخطأ نفسه الذي اقترفتُه رغمًا عنّي عندما كنتُ صغيرة.
تعانَقنا مطوّلاً وبكينا بحرارة واطمأنّ قلبي حقًّا.
لَم يعرف أحدٌ بأمر صديقتي الوهميّة، وتابعتُ حياتي وكأنّ شيئًا لَم يكن. لكن مِن وقت لآخر، أجلسُ على الشرفة وأُحدّقُ في الشقّة المُقابلة بانتظار ظهور جارتي الوهميّة، وأبتسمُ داخليًّا لأنّني بكلّ بساطة، أشتاقُ إليها فعلاً!
حاورتها بولا جهشان