كنتُ قد خرجتُ لتوّي مِن أزمة عاطفيّة حادّة، ووصَفَ لي الطبيب النفسيّ الراحة التَّامة. لِذا رحتُ أستجمُ في أحد فنادق الساحل على أمَل أن أنسى ما فعلَه بي جاسم. صحيح أنّني فتاة قويّة، لكنّ نقطة ضعفي كانت عاطفتي... وذلك الوغد الذي أحبَبتُه مِن كلّ قلبي.
دخلتُ الفندق مع حقائبي العديدة وأمَلي الكبير بأن أعود شافية تمامًا، وأعطوني غرفة جميلة مُطلّة على البحر. لاحظتُ قلّة عدد النزلاء، ربمّا لأنّ موسم الصيف كان في آخره، إلا أنّ الأمر أراحَني، فلَم أكن لأتحمّل أصوات الأولاد وهم يلعبون في المسبح.
كان الكلّ لطيفًا معي، وكأنّهم شعروا بحزني الذي كان واضحًا للعيان. يا لَيتهم عرَفوني عندما كانت ضحكتي عالية ورفقتي مُمتعة!
في اليوم الذي عقَبَ وصولي، وبينما كنتُ مساءً على ترّاس المطعم، جلسَ إلى الطاولة المجاورة رجل وحيد. أدَرتُ وجهي كي لا يظنّ أنّني أراقبُه بسبب الندبة الموجودة على ذقنه. كان شكله مُخيفًا وتصوّرتُه أحد أفراد عصابة أشرار. ضحكتُ لسخافة الأمر ومِن ثمّ حزنتُ لتفكيري بهذه الطريقة، فقد يكون ذلك الشخص مِن خيرة الناس وندبته نتيجة حادث قد يحصلُ لأيّ كان.
عدتُ إلى غرفتي وغرقتُ في النوم. حلِمتُ بصاحب الندبة وهو يُلاحقُني في أروقة الفندق. إستفقتُ مذعورة وشراشفي مبلولة بعرَقي. إتّصَلتُ على الفور بطبيبي النفسيّ الذي طمأنّني وطلَبَ منّي عدَم تحويل خوفي مِن جاسم إلى أناس آخرين. فإذا كان خطيبي السّابق شخصًا مؤذيًّا، فهذا لا يعني أنّ الجميع كذلك. شكرتُ الطبيب واعتذرتُ لإزعاجه في وقت مُبكر، وعدتُ إلى النوم مُصمّمة على نسيان كلّ ما فعلَه بي جاسم.
بعد ساعات قليلة، إنطلقتُ أسبحُ في البحر وشعرتُ براحة لا تُقاس، تمامًا مثل عندما كنتُ بطلة جامعتي في السباحة. فكما ذكرتُ سابقًا، لَم أكن يومًا تلك المخلوقة الضعيفة والخائفة التي خلقَها خطيبي.
عدتُ إلى الإستلقاء على منشفتي على الشاطىء، وكَم كانت مُفاجأتي كبيرة عندما رأيتُ صاحب الندبة ليس بعيدًا عنّي جالسًا على كرسيّ يُحدّقُ في البحر. إرتعَش بدَني، إلا أنّني تذكّرتُ سريعًا ما قالَه لي طبيبي. فلماذا لا يكون هذا الرّجل بجواري على الشاطئ، وهو نزيلٌ تمامًا مثلي؟ لكنّني أبقَيتُ عينًا عليه، فقد يكون أحد رجال جاسم الذي أرسله لِتَلقيني درسًا بعد ما جرى بيننا.
مساء اليوم نفسه، وجدتُ صاحب الندبة في رواق غرفتي واقفًا قبالة باب وكأنّه ينتظرُ أحدًا... أو يدّعي أنّه يفعل. عندها، إنتابَني غضبٌ شديد للغاية، فكان مِن الواضح أنّني لا أتخيّل أشياءً، بل أنّ الرجل يُلاحقني أينما ذهبتُ. لِذا توجّهتُ نحوه وصرختُ به:
ـ ما بكَ؟ ماذا تريدُ منّي؟ تكلّم! لستُ خائفة منكَ!
ـ أنا فقط أبحثُ عن بطاقة غرفتي، أريدُ الدخول إليها.
يا للصّدَف! لا أُصدّقكَ!
لكنّ الرجل عثَرَ على البطاقة وفتَحَ الباب، ونظَرَ إليّ بشيء مِن الخوف والإحراج.
إلا نّني لَم أسكت بل تابعتُ:
ـ حسنًا، إنّها حقًّا غرفتكَ، وإن يكن! لماذا اختَرتَ غرفة مجاورة لغرفتي؟
ـ أنا لَم أختَرها، بل هم حجزوها لي. إسمعي آنستي، أنا إنسان مُسالم لا أريدُ المشاكل ولا أبحثُ عنها... فما لدَيَّ يكفيني. أتركيني بسلام أرجوكِ، فلَم أفعل لكِ شيئًا!
ـ ألَم يُرسلكَ جاسم لأذيّتي؟
ـ لا جاسم ولا غيره! لقد فقدتُ زوجتي مِن فترة قصيرة، وجئتُ إلى هذا المكان بالذات لأنّنا قضَينا، منذ سنوات عديدة، شهر عسلنا فيه.
ـ قصّة مؤثّرة للغاية! هل تظنّني بلهاء؟!؟
عندها أخرَجَ الرجل مِن محفظته صورة تُظهره وهو شاب مع صبيّة جميلة في الفندق نفسه. إحمّرَ وجهي وامتلأت عينايَ بالدموع، وبدأتُ أقدّمُ اعتذاري الحار لذلك المسكين الذي نظَرَ إليّ بِحزن عميق.
أسرَعتُ بدخول غرفتي، والتفكير بحالتي النفسيّة التي حملَتني على اتهام إنسان بريء.
لَم أنَم جيّدًا بل حلِمتُ بصاحب الندبة واقفًا أمام البحر كأنّه ينوي الإنتحار. حاولتُ إنقاذه لكنّه مشى في المياه واختفى وسط الأمواج. إستفَقتُ مذعورة وأسرعتُ، كالمرّة السّابقة، بالإتصال بطبيبي الذي أسمَعَني الكلام نفسه. عندها سألتُ نفسي إن كانت جلساتي عند المُعالج النفسيّ حقًّا نافعة.
دخلتُ أستحمّ، وفور خروجي مِن الحمّام سمعتُ طرْقًا خفيفًا على الباب. عندما فتحتُ، رأيتُ صاحب الندبة واقفًا أمامي حاملاً وردة في يده. قال لي:
- مشيتُ صباحًا في الحديقة، وجلَبتُ لكِ هذه الوردة على أمل أن تُعطيكِ السّلام الداخليّ وتُريح بأريجها نفسكِ المُضطربة.
ـ أشكرُكَ ولكن...
ـ لا تخافي، لا أتودّدُ إليكِ فأنتِ بسنّ إبنتي، والمرأة الوحيدة التي سكَنَت وستسكنُ قلبي هي زوجتي الحبيبة.
ـ رحمها الله. إسمَع، إسبقني إلى المطعم، سنشربُ سويًّا فنجانًا مِن القهوة. لا بدّ لي أن أعتذر منكَ بطريقة مُناسبة.
أخذتُ الوردة منه، وأقفلتُ الباب برفق وحضّرتُ نفسي.
وصلتُ المطعم، وجلستُ إلى الطاولة قرب الرجل وسألتُه:
ـ ما قصّة الندبة؟
ـ آه... الندبة! أعرفُ أنّها تُعطيني مظهرًا قاسيًا، ولقد عَرَضَ الأطبّاء عليّ إخفاءها، إلا أنّني رفضتُ ذلك لأنّها تذكّرُني بيوم موت زوجتي، موعد لا أريدُ أن أنساه أبدًا.
ـ ماذا حصل؟
ـ كنتُ أقود السيّارة وهي إلى جانبي. كنّا سعيدَين كما كنّا بالعادة، فلَم يحدث أن تشاجرنا يومًا. وقد قضَينا حياتنا بهناء وسعادة بالرغم مِن عدَم إنجابنا. وفي ذلك اليوم المشؤوم إصطدمَت بنا شاحنة. هي ماتَت وأنا بقيتُ على قيد الحياة... للأسف. لكنّني أعلمُ أنّها بانتظاري.
ـ يا إلهي... قصّة حزينة للغاية. لا تقل لي إنّكَ تنوي قتل نفسكَ!
ـ لن أخفي عنكِ أنّني فكّرتُ بذلك، لكنّني متأكّد مِن أنّ انتحاري سيُغضبُ الله وقد يُعاقبُني بعدَم جَمعي مجدّدًا مع حبيبتي. سأنتظرُ بِصبر يوم موتي.
كرجَت دموعي على خدَّيّ وبكينا سويًّا. وبعد دقائق، سألَني الرجل:
ـ وماذا عنكِ؟ لماذا كلّ هذا الخوف؟
ـ إنّه جاسم، خطيبي السّابق، رجل بلا ضمير... وأظنُّ، أو ظنَنتُ أنّه أرسلكَ لتُراقبني وتؤذيني.
ـ ولماذا يفعلُ ذلك؟
ـ لأنّني أعرفُ أشياءً عنه، أشياء خطيرة للغاية.
ـ إن كنتِ تبحثين عمَّن يُراقبكِ، فهناك ذلك النادل، فلقد رأيتُه مرارًا ينظرُ إليكِ بإمعان ورأيتُه في الرواق حيث غرفتكِ. إعتقدتُ طبعًا أنّه مُعجبٌ بكِ، لكن بعد أن أخبرتِني عن خطيبكِ السابق، أظنّ أنّه مَن يجدرُ بكِ الإحتراس منه.
إستدرتُ ونظرتُ إلى النادل الذي أدارَ فورًا نظره. عندها قلتُ لرفيقي:
ـ ماذا لو كنتُ أتصوّر أشياءً؟ فلقد اتّهَمتُكَ ظلمًا.
ـ صحيح ذلك، لكنّ النادل يُراقبُكِ فعلاً. أتركي الأمر لي. عودي إلى غرفتكِ في الحال ولا تُغادريها إلا عندما أطرقُ بابكِ.
للحقيقة خفتُ كثيرًا وركضتُ إلى المصعد. وقبل الصعود إليه، إستدَرتُ ورأيتُ صاحب الندبة يتكلّم مع النادل على حدة.
وبعد حوالي الساعة، طرَقَ صديقي بابي وقال لي حين فتحتُ له:
ـ صار النادل في مخفر الشرطة.
ـ كان حقًّا يُراقبُني؟
ـ أجل، فلقد استجوبتُه بعض الشيء ومِن ثمّ اتّصلتُ بِزملائي القدامى الذين جاؤوا ليأخذوه إلى القسم. أنا شرطيّ مُتقاعد.
ـ الحمدُ لله أنّني لستُ مجنونة! وأشكر لله انّني وقعتُ على إنسان مثلكَ!
وبعد التحقيق مع النادل، إتضَحَ أنّه كان قد حصَلَ على مال مِن جاسم الذي عندما علِمَ بمكان تواجدي، عيّنَه لمراقبتي وإعطائه كلّ المعلومات اللازمة عنّي ليتسنّى له أذيّتي. لكنّ جاسم سافَرَ فور معرفته بالذي حصل، بعد أن دقَّت الشرطة بابه ولَم تجده في منزله. خادمته إتصلت به فاستقلّ أوّل طائرة إلى بلد بعيد.
صحيح أنّ جاسم لا يزال طليقًا، إلا أنّني لستُ خائفة، لأنّ يوسف، أي صاحب الندبة، لن يسمَح لأيّ أحد أن يؤذيني. فلقد وجَدَ بي سببًا ليعيش وأنا وجدتُ به حاميًا وفيًّا.
كَم أنّ الله يُحسن صناعة ما نُسمّيها الصّدَف! فهو يرتّبُ لنا كلّ شيء، ويُرسلُ لنا مَن يُساعدُنا ومَن يُدافعُ عنّا.
لقد مرَّت على قصّتي أكثر مِن عشر سنوات، وجاسم لم يظهر خلالها إلى العلَن وأنا نسيتُه منذ فترة طويلة. لا أزالُ أرى يوسف باستمرار حين أزورُه في بيته. فلقد ساءَت حالته الصحّيّة لكنّه سعيد للغاية، ويُردّد لي دائمًا أنّ موعد لقائه بزوجته أصبح قريبًا.
حاورتها بولا جهشان