كم كنت بعيدة عن عالم الانحراف والعقد النفسية وكم كنت أجهل أبعاده ونتائجه! كان المفترس كل هذا الوقت يسكن قبالتي ولم ألاحظ وجوده إلى أن اقترف غلطته الأولى.
فعندما كنت جالسة على سريري ذات ليلة، انتابني شعور غريب. شعرت بهذا الرجل يراقبني مراراً لكنني لم أكترث له. نظرت من النافذة لكنني لم أرى سوى سواد كاحل. خطر لي أن أطفىء نور غرفتي وأن أنظر مجدداً حينها رأيته، أو بالأحرى رأيت رجلاً يقف قرب نافذته يراقبني بصمت. كان مسمراً في مكانه، كان فقط ينظر إليّ وهذا ما أخافني. فهمت حينها أنها ليست المرة الأولى التي يقف فيها أمام النافذة فهو كان يراقبني منذ وقت بعيد وأنا لم ألحظ شيء.
تراجعت من أمام النافذة نحو الخلف وأنا أصرخ من خوفي. قصدت غرفة الجلوس ومكثت هناك لفترة أفكر كمّ مرة نمت فيها بقميص النوم أمام النافذة، وكم مرّة وضعت طلاء الأظافر على أصابع قدميّ وكم مرة نمت ونور الغرفة مضاء؟ كم مرة وقف وسرق هذه اللحظات منّي دون موافقتي؟ لم أكن أدري أن الشقة التي تقع قبالتي مسكونة، فلم أر يوماً أيّ ضوء أو حركة. لذا لم أكترث لتصرفاتي داخل غرفتي. أسدلت الستائر واعدة نفسي بألا أفتحها مجدداً. مرّت فترة على الحادثة وكنت قد تعوّدت ألا أرى ضوء النهار في غرفتي، حين حصل أمر غريب. ذات ليلة، كنت عائدة من زيارة صديقة لي، رأيت ظل في موقف السيارات أسفل المبنى. لم أر أحداً بالتحديد لكنني كنت متأكدة أنني رأيت أحداً ما. ترجلت من سيارتي وقلبي غير مطمئن، لم أقل شيئاً لأحد لأنني لم أتأكد من الأمر.
لكن بعد بضعة أيام، حصل الشيء نفسه وحينها رأيت الرجل المختبىء خلف عمود من أعمدة الموقف وتعرّفت إليه أو بالأحرى إلى ظلّه الذي كنت أعرفه جيداً، ظل "رجل النافذة"، كما كنت قد أسميته. خفت كثيراً حينها وتوجهت بسرعة إلى مدخل المبنى وأقفلت الباب بإحكام. أخبرت أهلي بالأمر، فغضب أخي البكر لأنني لم أخبره بأن شخصاً ما كان يراقب نافذة غرفتي. فقرر أن يذهب للتكلّم معه ويقنعه بالعدول عن مراقبتي. غاب بضع دقائق وعاد:
- "ليس هناك من أحد في الشقة المقابلة. تكلّمت مع الناطور وقال لي أن هذا البيت مهجور منذ سنين طويلة، لا أحد يستطيع الدخول إليه أو الخروج منه. ربما تتخيّلين أشياء لا أساس لها يا أختي العزيزة."
ضحك الكل لدى سماعهم هذا فصرخت بهم:
- "أنا متأكدة مما رأيت! إنه يراقبني من هذه الشقة وبات ينتظرني في الموقف لأنني أسدلت الستائر. صدّقوني!"
- "أختي الصغيرة تريد لفت الانتباه...لطالما كنت كذلك."
دخلت غرفتي مستاءة جداً. لم أكن أحلم، هناك فعلاً شخص ما في ذاك البيت المهجور. قررت أخذ الحيطة والحذر، لست أدري إلى أيّ مدى سيصل انحراف هذا الرجل. لا أعود ليلاً إلى البيت إلا ومعي صديقة، وأبقيت ستائر غرفتي مغلقة طوال الوقت. بتّ أنا التي تراقبه وليس العكس.
مرت فترة طويلة وأن أتّبع تلك الخطة حتى أنني نسيت الأمر إلى أن جاء يوم وقلت لصديقاتي أن الرجل لا بدّ من أنه استسلم ونسيَني. لكنني كنت مخطئة، لأن إنساناً مريضاً كهذا لا يسأم أبداً، بل على العكس فإن هوسه سيكبر يوماً بعد يوم حتى يصل إلى حدّ الجنون.
في أحد الأيام وأنا أركن سيارتي في المرآب، شعرت بوجوده لكنني لم أره. سارعت للوصول إلى مدخل المبنى فإذا به يمسك بي من الخلف ويضع يده على فمي كي يمنعني من الصراخ. أخذني إلى آخر المرآب بعيداً عن الضوء ودفعني نحو الحائط بقوّة حتى كاد يُغمى عليّ. صرخ بي من وراء قناعه:
- أكنت تظنّين أنه بإمكانك أن تتفادينني هكذا؟ أنا أعيش من أجلك وحرمتني من رؤيتك كل هذا الوقت. أنتِ لي وحدي. لن ترين أحداً سواي بعد الآن. ستصبحين زوجتي وستحملين أطفالي شئتِ أم أبيتِ.
لم أفهم مدى جنونه حتى ذلك الحين. وبينما كان يتكلم رأيت أمام عينيّ المستقبل الذي وعدني به. مستحيل أن يحصل هذا الأمر لي! هل هذه هي نهايتي؟
وفجأة سقط الرجل أرضاً ورأيت أخي واقفاً خلفه وبيده عصاً كبيرة وعلى وجهه علامات الغضب الشديد:
- "خذ أيها المريض! سأعلّمك درساً لن تنساه أبداً." وضربه ثانية.
- "لا تقتله يا أخي! دع الشرطة تهتم به."
وركضت نحو أخي فضمّني إلى صدره.
- "أتصدّقني الآن؟ لم أكن أحلم."
-"أعلم يا أختي، وعلمت منذ البداية لكنني لم أرد أن أزيد من خوفك. قررت مراقبتك عن بعد، لم تكوني يوماً لوحدك. كان عليّ أن أمسك به للتخلص منه نهائياً وأن أثثبت أنه هو."
- "من هو؟"
خلع القناع عن وجه الرجل وإذا بي أتفاجأ بناطور المبنى المجاور.
- "أكنت تعلم بأمره؟"
- "كانت لديّ شكوك لأن الشقة المقابلة مقفلة وهو الوحيد الذي يمكنه الوصول إليها وإلى مرآبنا، لكنني لم أكن متأكد ولم أرد أن أظلم أحد. ها قد وصلت الشرطة.
وأخذوا الرجل معهم وثبُتت التهمة عليه وسُجن لوقت طويل."
بقيت لمدة طويلة أخاف الخروج ليلاً، لم أستطع نسيان القلق الذي خلّفه هذا المريض في قلبي. بتّ ألتفت حولي كلما عدت في الليل ولدى سماع أي صوت غريب، كما أبقيت ستائر غرفتي مقفلة إلى أن استعدت شجاعتي ويقيني بأنه لن يؤذيني أحد بعد اليوم.
حاورتها بولا جهشان