نُقِلتُ بسرعة إلى المشفى يوم أُصِبتُ بِنزيف حاد، وبعد أن عالجوني أُخِذتُ إلى غرفة أتقاسمُها مع سيّدة أخرى. للحقيقة، كانت حالتُها مُخالفة تمامًا لحالتي، لكنّ المشفى كان مليئًا بالمرضى ولَم يتبقَّ سوى ذلك السرير. مكَثَ زوجي معي لبضع ساعات ثمّ عادَ إلى البيت للاهتمام بِولدَينا. تبادلتُ كلمات قليلة مع لُبنى جارتي المسكينة ثمّ غرِقتُ في النوم.
إستيقظتُ وسط الليل على صرخة أطلقَتها لُبنى، فأزَحتُ الستار الذي يفصلُ بيننا لأرى ما أصابَها، فرأيتُها صافنةً في السقف تُتمتِمُ جمَلاً مع شخص غير موجود. ركّزتُ قدر المُستطاع على ما كانت تقولُه، واستنتجتُ أنّها تُكلّمُ ولدًا فهمتُ أنّه ابنها. كان مِن الواضح أنّها مُشتاقة إليه كأيّ أمّ في وضعها، فحاولتُ تهدئتها قدر المُستطاع. كان سنّها يُناهز سنّي، وشعرتُ بعاطفة شديدة تجاهها وحالتها. بعد دقائق، عادَت لُبنى إلى النوم وأنا كذلك.
في اليوم التالي، سألتُ جارتي إنْ هي قضَت ليلة هادئة بعد الذي حصَلَ لها، إلا أنّها لَم تتذكّر شيئًا بل نظرَت إليّ باستغراب. وصَلَ زوجي مع بعض أغراض كنتُ قد طلبتُها منه، ومِن ثمّ لحِقَت به أمّي التي بقيَت معي حتى الظهر.
لَم يزُر لُبنى أحدٌ فاستغربتُ الأمر. فأين هي عائلتها وزوجها وولدَها؟ كان بِودّي سؤالها عن الموضوع إلا أنّني فضّلتُ عدَم التدخّل في حياتها الشخصيّة. لكنّ أمّي سألَت المريضة:
ـ أين ذووكِ يا ابنتي؟
ـ أنا وحيدة في الدنيا يا خالتي. فلقد ماتَ والدايَ وانا ابنتهما الوحيدة.
ـ ألَم تتزوّجي؟
ـ لا يا خالتي.
إستغربتُ كثيرًا أن تقول لُبنى ذلك بعد أن سمعتُها ليلاً تتكلّم مع ابنها الغائب، لكن عدتُ وحسبتُ أنّها لا تُريدُ إخبار غرباء عن حياتها الخاصّة. ثمّ تتالى الأطبّاء لفحصي وفحص جارتي وعدنا لوحدنا. عمّ سكوت طويل، ولأنّني كنتُ في حالة أفضل وبحاجة إلى الدردشة قليلاً، صرتُ أحكي لِلُبنى عن نفسي وعن عائلتي، إلا أنّها لَم تُبادلني بالمِثل بل اكتفَت بالاستماع إليّ بِصمت. باقي النهار كان عاديًّا تخلّلَته زيارات مِن ذويّ.
للحقيقة، كنتُ أنتظرُ بفارغ الصبر هبوط الليل على أمَل أن يحصل ما حصَلَ في الليلة السابقة، ليس بداعي الفضول بل لأنّ تلك المرأة كانت بالنسبة لي بغاية الغموض، ولأنّني كنتُ آسفُ عليها كَونها وحيدة ومريضة. ولَم أنتظِر سدىً، فبعد أن عمَّ السكون المشفى، بدأَت لُبنى بالتكلّم لوحدها، أو بالأحرى مع أحد لَم يكن أبدًا ظاهرًا. لكن هذه المرّة، كانت تُحدِّثُ رجلاً ما وتبكي في آن واحد. تأرجحتُ بين تركها تحكي وبين مواساتها، واكتفَيتُ بإزاحة الستار بيننا والتدخّل إن تأزَّمَ الوضع. فقد تكون جارتي بحاجة للتعبير عمّا في داخلها بعد قضاء نهار بكامله صامتة ووحيدة. لكنّ صراخها تعالى ودخلَت فجأة مُمرّضة حقنَتها بمادّة ما ثمّ رحلَت بعد أن أمرَتني بالنوم. أردتُ أن أسألها عن لُبنى إلا أنّها أشارَت لي بالسكوت. شعرتُ وكأنّني فتاة صغيرة في مدرسة داخليّة والمُمرّضة هي مُديرة المهجَع.
لَم أنَم طوال الليل مِن كثرة قلَقي وكنتُ في الصباح تعِبة، الأمر الذي لَم يغِب عن أمّي، فأخبرتُها عن لُبنى وعن حالتها التي تحصلُ لها ليلًا. عندها راحَت والدتي إلى غرفة المُمرّضات لِتطلبَ منهنّ نقلي إلى غرفة أخرى، إذ كان عليّ أن أرتاح. لكن، مرّة أخرى كانت جميع الغرَف مأخوذة فعادَت خائبة. للحقيقة لَم أكن مُنزعجة مِن لُبنى بل حزينة مِن أجلها. كان مِن المؤكّد أنّ لها سرًّا كبيرًا له علاقة بِولَد ورجل، على الأرجح زوجها وابنها. لكن لماذا قالَت لنا إنّها عزباء؟ رحلَت والدتي ومِن ثمّ دخَلَ طبيب الغرفة للاطمئنان على جارتي، فسألتُه بصوت خافِت عنها بعد أن أطلعتُه عمّا حدَثَ ليلاً. قال لي:
ـ نحن أسفون كثيرًا لِعدَم إيجاد غرفة لكِ في القسم المُناسِب، وعلى الإزعاج الذي تُسبّبه لكِ هذه المريضة.
ـ لستُ مُنزعجة منها بل قلِقة عليها. هل ستتحسّن حالتها؟
ـ إنّنا نعالجها.
ـ لكن ما بها؟
ـ لا أستطيع البوح لكِ عن حالتها يا سيّدتي، فهذه معلومات خاصّة.
ـ أتفهّم الأمر.
مرّة أخرى أتى الأقارب والأصدقاء لزيارتي، وكان مِن المُقرَّر أن أعودَ إلى بيتي في اليوم التالي. لِذا طلبتُ مِن لُبنى الأذن بأخذ رقم هاتفها للاطمئنان عليها بعد خروجي وخروجها. فرحتُ كثيرًا حين أعطَتني رقم هاتف بيتها، فوعدتُها بالاتصال بها بعد فترة قصيرة. لَم يحصل شيء في الليلة ذاتها بسبب الحقنة التي تلقَّتها لُبنى مِن جديد قَبل النوم. في اليوم التالي، ودّعتُ جارتي ورحتُ بسرعة إلى البيت لأُقبِّل ابنَيّ وأُعانقُهما بعد أن اشتقتُ لهما كثيرًا.
بعد أيّام قليلة، إتّصلتُ بالغرفة التي كنتُ فيها في المشفى لأكلّم لُبنى، إلا أنّ امرأة أخرى أجابَت وقالَت لي إنّ المريضة خرجَت. فاتّصلتُ بالرقم الذي بِحوزتي وتفاجأتُ حين علِمتُ أنّه رقم مصحّة عقليّة. سالتُ عن لُبنى وأكّدوا لي أنّها مريضة لدَيهم فطلبتُ الأذن بزيارتها. أعطوني جدوَل مواعيد الزيارات وانتظرتُ بفارغ الصبر أن يأتي اليوم التالي لأفهَم مِمّا تشكو لُبنى حقًّا. فبالرّغم مِن تصرّفاتها الغريبة، لَم أشكّ بأنّها تُعاني مِن مرض نفسيّ يُلزِمُها البقاء في مصحّة. كان مِن الواضح أنّها أُصيبَت بوعكة صحيّة استدعَت نقلها إلى مشفى عاديّ، لكنّ حالتها النفسيّة لَم تكن طبعًا خطيرة وإلا لَما وضعوني وإيّاها في الغرفة نفسها.
أسِفتُ للغاية عندما لَم تتعرَّف إليّ لُبنى حين جلستُ بالقرب منها في حديقة المصحّة، إلا أنّني كلّمتُها عن أموري وتحسُّن حالتي. إكتفَت المرأة بالابتسام بِرفق وهزّ رأسها طوال حديثي. بعد حوالي النصف ساعة أدركتُ أنّ مِن الأفضل لي أن أرحَل، فما نَفع وجودي؟ وقفتُ حين وصلَت مُمرّضة لتسألَني إن كانت المُقابلة قد انتهَت فحان موعد رجوع لُبنى إلى غرفتها. وأمام حيرتي وحزني، قالَت لي المُمرّضة:
ـ إنّها هكذا... المسكينة... فرِحتُ لها أنّ أحدًا جاءَ أخيرًا لرؤيتها، فلَم يأتِ أيّ مِن عائلتها لزيارتها منذ قدومها إلى هنا.
ـ لدَيها عائلة؟
ـ أجل... لكنّهم قطعوا صلتهم بها بعد... بعد الحادثة. وكذلك زوجها.
ـ هي مُتزوّجة؟
ـ أقصدُ طليقها، فهو بالطبع تركَها.
ـ أيّة حادثة تتكلّمين عنها؟
ـ لا أعلَم إن كان يجدرٌ بي أن أتكلّم.
ـ أنتِ قلتِ إنّني الإنسانة الوحيدة التي تزورها، أي أنّ لا أحد سوايَ يهتمّ لأمرها. أصحيح ذلك؟
ـ أجل.
ـ لِذا أرجو منكِ اطلاعي على الذي حصَلَ لها.
ـ حسنًا، دعيني أوصلها إلى غرفتها أوّلاً. سآخذ استراحة الظهيرة باكرًا. وافيني أمام مدخل المؤسّسة، في القسم المُخصّص للمُدخّنين.
إنتظرتُ المُمرّضة في المكان المذكور إلى أن وافتني. وحين جلسنا قالَت لي:
ـ لُبنى إنسانة طيّبة وهادئة والكلّ يُحبّها هنا. إلا أنّ وضعها النفسيّ لطالما كان هشًّا، لكن ما مِن أحد مِن مُحيطها شكّ بذلك بل اعتبروها صبيّة عاقلة ومُنغلِقة. تزوّجَت لُبنى مِن رجل قاسٍ وجاف، الأمر الذي زادَ مِن ارتباكها النفسيّ إلا أنّها تحسنَّت بعد ولادة ابنها. أظنّ أنّ ذلك الولَد كان فرحتها الوحيدة، على الأقل لفترة مِن الزمَن. لكن سرعان ما عادَ إليها اكتئابها المرضيّ، فهي فقدَت رغبتها بالعَيش كلّيًّا وكلّ ما باتَت تُفكّرُ به كان الموت.
ـ مسكينة.
ـ أجل... لَم يُساعدها زوجها على اجتياز كآبتها بل اعتبَرَ ذلك علامة ضعف، الأمر الذي لَم يكن لِيَستوعبه. وهو صارَ يقسو عليها ويُجرِّح بها حتى بلغَت حدّ اللارجوع.
ـ يا إلهي، ما الذي حصَلَ؟!؟
ـ قرّرَت المسكينة وضع حدّ لحياتها، لكن كيف لها أن تترك ابنها مِن دون أم؟
ـ تعنين أنّها...
ـ تناولَت لُبنى أقراصًا لا تُحصى مِن المُنوّم، وقَبل أن يبدأ مفعول الأقراص، أقدمَت على إغراق ابنها البالغ السنتَين مِن العمر في مغطس الحمّام.
ـ يا إلهي!!!
ـ لكنّها لَم تمُت بل وجدَها زوجها فاقدة الوعي، فاتصَلَ بالإسعاف غير مُدركٍ ما فعلَته بابنه. أنا مُتأكّدة مِن أنّه كان ليتركها تموت لو شكّ بأنّ الصغير ماتَ قتلاً وليس غرقًا. وعندما استفاقَت لُبنى أخيرًا واستوعبَت أنّها لا تزال على قيد الحياة على خلاف ابنها، فقدَت كليًّا عقلها وأُدخِلَت إلى هنا. قطعَت عائلتها صلتها بها بسبب غضبهم منها والعار الذي أصابَهم. وزوجها أسرَعَ بتطليقها طبعًا.
أصِبتُ بالإحباط لدى سماعي الحقيقة عن لُبنى، فكَوني أمًّا تفهّمتُ مدى صوبة استيعابها لِقتل ابنها. لو انتبَهَ أحدٌ لوضعها النفسيّ وعولِجَت، لَعاشت لُبنى سعيدة طوال حياتها. ولو كان لها زوج مُتفّهم، لَساندَها وحافظَ على زوجته وابنه. هل الأمر عائد إلى الجهل أم اللامُبالاة؟ بالرغم مِن مرور سنوات طويلة على معرفتي بِلُبنى، لا أزال أزورُها بانتظام. هي تسألُني في كلّ مرّة مَن أكون وأُجيبُها الجواب نفسه: "أنا أختكِ". عندها تبتسمُ لي ونجلسُ سويًّا بِصمت وفرَح.
حاورتها بولا جهشان