يوم قرَّرت أمّي تنفيذ خطّتها، كان قد بلَغَ حقدها لأبي درجة لا توصَف. ولو كنتُ في سنّ يسمح لي باستيعاب ما كان يحصل، لتدخَّلتُ طبعًا. ولكنّني كنتُ لا أزال في السابعة مِن عمري، وكان همّي الأكبر آنذاك تحصيل علامات جيّدة في المدرسة لأنال رضى والدَيَّ والمكافآت التي تأتي مع ذلك.
لطالما اعتقدتُ، كسائر الأولاد، أنّ أبي وأمّي غارقان في سعادة لا توصف. صحيح أنّهما كانا يتشاجران مِن وقت إلى آخر، ولكن كان ذلك بسبب أمور تافهة وسرعان ما كانت تهدأ الأحوال بينهما.
لم يكن أبي ملاكًا، لا بل العكس. وعلِمتُ لاحقًا أنّه كان زير نساء يعرف كيف يُخفي علاقاته، خاصّة أنّه يُقيمها مع موظّفاته ويلتقي بهنّ في فنادق مشبوهة وخلال دوام العمل، أي أنّه كان يعود إلى البيت بالوقت المتوقَّع ليلعب دور الزوج المحب والأب المثاليّ.
ولأنّ ما مِن شيء يبقى مخفيًّا، علِمَت أمّي بما كان يفعله زوجها، الأمر الذي خلَقَ في قلبها حقدًا عميقًا بعدما ضحَّت بكل شيء مِن أجله. فالحقيقة أنّ أمّي تخلَّت عن منصبها في شركة معروفة لتبني عائلة، وساعَدت أبي في انشاء شركته وذلك مِن المال الذي ادّخرَته عبر السنوات.
لم تواجه والدتي أبي بالذي اكتشفَته، لأنّها استنتجَت أنّ رجلاً يخون زوجته منذ اليوم الأوّل ومع أيّة امرأة صادفَها لن تردعه توبيخات أو دموع أو حتى تهديدات. ومنذ تلك اللحظة بدأت تفكّر بطريقة للانتقام.
كيف كانت علاقتي بأبوَيَّ؟ جيّدة جدًّا ولكن، كمعظم الفتيات، كنتُ متعلّقة أكثر بأبي. إلا أنّ الاحداث التي تلَت حملَتني على كره أمّي التي كانت، بنظري، تتحامل على زوجها الملاك.
كانت لأمّي صديقة اسمها نادرة وكانت جميلة جدًّا وعزباء، فهي لم تتزوّج بسبب جمالها وذكائها لأنّ الرجال خافوا منها ومِن المشاكل التي قد يصادفونها جرّاء ذلك، وهي احتارَت في كيفيّة التعامل معهم لأنّها لم تقبل أن تمثّل دور الزوجة الخاضعة، خاصّة أنّها كانت ذكيّة جدًّا ولها مركز مهمّ في إحدى المؤسّسات. كان أبي مفتونًا بنادرة ولكنّه لم يجرؤ يومًا على التقرّب منها، ليس لأنّها صديقة زوجته، بل لأنّه خافَ أن يُفضَح أمره. وبالطبع لاحظَت والدتي إعجابه بنادرة واستفادَت مِن الموضوع... وبكثرة.
بعدما أطلَعَت أمّي صديقتها على العذاب التي كانت تعيشه مع أبي وقدَّمَت لها البراهين، إتّفقَت المرأتان على جعله يدفع، حرفيًّا، ثمَن خياناته. كنتُ جالسة معهما أسمعهما تتحدَّثان عن الأمر ولكن بطريقة مُبهمة كي لا أفهم الحديث، وأتذكّر نادرة تقول: "أتركي الأمر لي... أعرف صنفه جيّدًا... لطالما كان جمالي لعنة عليّ."
وبدأَت مرحلة الإغراء. أقامَت والدتي حفل عشاء ضمَّ بضع أصدقاء... ونادرة طبعًا. أمّا أنا وأخوَتي، فجلَسنا مع الحضور ساعة واحدة وطُلِبَ منّا الذهاب إلى غرفنا كما كانت تجري الأمور عندما كان أبوانا يستقبلان ضيوفًا. لصغر سنّي، لم ألاحظ شيئًا ولكنّني رأيتُ بوضوح كيف كانت أمّي سعيدة في تلك الأمسية، وأقسم أنّني سمعتُها ترندح وهي تحضّر المائدة. قدِمَت نادرة وهي بكامل أناقتها، مرتدية فستانًا أحمرًا أدهَشَ الحضور.
وحين قصدتُ الغرفة، كان والدي جالسًا إلى جانب صديقة أمّي يروي لها قصصًا سمعتُها مرارًا عن إنجازاته المهنيّة، ناسيًا طبعًا ذكر دور أمّي في نجاحه.
وصارَت نادرة تأتي لقضاء أمسياتها عندنا بدل مِن زيارتنا في فترة الصباح أو بعد الظهر، ولم يعد والدي يُغادر لملاقاة "أصدقاءه"، ولكنّها اختفَت بعد فترة وكذلك هو. وعُدنا نجلس مع والدتنا لوحدنا نشاهد التلفاز حتى يحين وقت النوم. إلا أنّ أمّي لم تعد حزينة وصعبة المزاج بل بغاية اللطف والسعادة.
علِمتُ بالذي يجري بعد أشهر قليلة، حين جاءَت نادرة في فترة الصباح وأعطَت والدتي علبة صغيرة فيها عقد جميل، قائلة:
ـ هذه إحدى هداياه... وأثمنها... سرعان ما سأجلب لكِ المال، فقد قلتُ له إنّني أواجه ضيقة ماليّة ووعَدني بأن يُساعدني وبأسرع وقت.
ـ هل لمسكِ؟
ـ أبدًا! بالعكس، فهو معتاد على نيل مراده، وامتناعي يُثيره بشدّة... ألَم أقل لكِ إنّني أعرف كيف أتعامل مع صنفه؟
ـ ممتاز... خذي كلّ ما لدَيه... على كلّ حال تلك المبالغ لم تكن يومًا مخصّصة لي بل لعشيقاته... وعندما تشعرين أنّ الوقت قد حان، إقنعيه بتطليقي وإعطائي كلّ ما سأطلبه مقابل موافقتي.
لم أكن أعلم عمَّن تتكلّمان إلى أن لفظَت أمّي كلمة "تطليقي" ممّا كان يعني أنّها وصديقتها تقصدان أبي. عندها تدخّلتُ وقلتُ عاليًّا:
ـ سأخبر أبي بالذي يجري!
قفزَت والدتي مِن مكانها وأمسكَتني مِن كتفيَّ وهزَّتني بقوّة:
ـ وسأقطع لسانكِ أيّتها الفضوليّة! لن أسمح لفتاة صغيرة بإفشال خطّتي، أسمعتِ؟ عندما تكبرين ستفهمين أنّ ما أفعله هو لمصلحتنا جميعًا... أبوكِ إنسان أنانيّ ومعدوم الأخلاق، وسيأتي يوم ويتركنا مِن دون شيء ليرحل مع إحدى عشيقاته... كيف تريدين أن أتدبّر أموركم إن حصل ذلك؟ أتقبلين أن أرسلكم إلى مدرسة أخرى، وننتقل إلى بيت صغير في الريف وأن تلبسي ثيابًا عاديّة؟
ـ لا... ولكن...
ـ أبقِ فمكِ مغلقًا إذًا!
لا أدري لماذا ولكنّني صدّقتُ أمّي، ربّما لأنّني مِن دون أن أدري كنتُ قد لاحظتُ حزن والدتي وحبّ أبي للنساء وطبعًا غياباته المتكرّرة. ومنذ ذلك اليوم، بات مسموحًا لي أن أجلس مع المرأتَين ومتابعة الأحداث. كنتُ قد أصبحتُ شريكتهما.
أعطَت نادرة أمّي بعض الجواهر والمال الذي كان يصل إليها عبر أبي المتيّم، ولكن ما كانت تريده والدتي كان أن يُعيد لها زوجها حريّتها بعدما قضَت سنوات تمثّل دور الزوجة السعيدة.
وعَدَتها صديقتها بأن تسرّع الأمور، ولكنّها تخاف أن يطلب منها والدي عربونًا عن حبّها له وحافزًا لترك أمّي، أي أن تضطرّ لممارسة الجنس معه، الشيء الذي لم تكن طبعًا تريد فعله.
غابَت نادرة... ولم تعُد.
أعطَتها أمّي بعض الوقت، فقد تكون منشغلة بإقناع والدي بترك زوجته... ولكنّ الانتظار طال. لم تعد نادرة تجيب على اتصالات صديقتها لا بل أقفلَت خطّها. وبعد أيّام، إختفى أبي هو الآخر. ما كان يجري؟ لم يردّ والدي على اتصالات أمّي إلا بعد أكثر مِن أسبوع، أو بالأصح كانت نادرة هي التي أجابَت. صَرَخَت والدتي بها:
ـ نادرة؟!؟ لماذا تجيبين على هاتف زوجي؟ أين كنتِ؟ أين أنتِ؟ وأين هو؟
ـ آسفة حبيبتي ولكنّنا في شهر عسلنا ولم يكن باستطاعة أحدنا الإجابة... أظنّ أنّكِ تعلمين لماذا.
ـ يا إلهي! هل هي دعابة؟ قولي لي إنّها دعابة!
ـ أبدًا، لقد تزوّجنا شرعيًّا... لطالما كان زوجكِ يُعجبني ولم أجرؤ على معاشرته خوفًا منكِ... وعليكِ... ولكنّكِ أعطَيتِني إيّاه على طبق مِن فضّة. يا لغبائكِ! تعلمين أنّ ما مِن رجل يستطيع مقاومتي. في البدء تسلَّيتُ به ومعه قليلاً، ومِن ثمّ اكتشفتُ أنّه ثريّ لدرجة مغرية جدًّا، ورأيتُ بذلك طريقة لتأمين مستقبلي معه، ناهيكِ أنّه رجل مسلٍّ يعرف كيف يُعامل النساء... كيف استطَعتِ إبعادَه عنكِ؟
ـ أنتِ الغبيّة لأنّه سيفعل بكِ ما فعَلَه بي... هكذا رجال لا يبقون أوفياء لوقت طويل. أريد أن يُطلّقني... أريد أن أكلّمه!
ـ إنّه يستحمّ فقد كانت ليلتنا صاخبة... تعلمين ما أقصد... أمّا عن الطلاق، فذلك لن يحصل، وستبقين مرتبطة به إلى الأبد.
أقفلَت الخائنة الخط وبدأت أمّي بالبكاء. عشنا أيّامًا صعبة، فلم تعد نادرة تسمح لأبي أن يزورنا أو أن يصرف علينا، فباعَت أمّي مجوهراتها لنعيش. ساعدَنا جدّي قليلاً، واستطَعنا الحفاظ بعض الشيء على نمط حياتنا، خاصّة بعدما وجَدَت أمّي عملاً.
وبعد حوالي السنة، إتصَلَ والدي بأمّي طالبًا العودة بعد أن سئم مِن نادرة. ولكنّ الباب بقيَ موصدًا بوجهه إلى أن اقتنَعَ أخيرًا بتطليق والدتي مقابل الحق برؤية أولاده.
رأيتُه وإخوَتي بضع مرّات ومِن بعدها اختفى، على الأرجح ليُلاقي عشيقة جديدة. كان حبّه للنساء قد تغلّبَ وبقوّة على شعوره الأبويّ.
أمّا بالنسبة لنادرة فلم نسمع عنها مجدّدًا، إلى حين أرسلَت هذه الكلمات إلى هاتف والدتي: "كنتِ على حق... هل لكِ أن تسامحيني؟" لكنّ والدتي محَت رقمها، وتابَعنا حياتنا مِن دون أبي... والصّديقة الوفيّة!
حاورتها بولا جهشان