أين ذهَبَ ضمير الناس؟ وكيف له أن يُباع مُقابل تدمير حياة إنسان ذنبه الوحيد أنّه يملكُ ما يريدُه آخرون؟ نخالُ غالبًا أنّ أفراد الجسم الطبيّ كلّهم ذوو أخلاق عالية، لأنّهم يُداوون المرضى ويُخففّون مِن أوجاعهم الجسديّة والنفسيّة. لكن هناك منهم مَن ينسى "قسَم أبقراط" بسرعة فائقة لحظة ما يشمُّ رائحة المال. وأنا كنتُ ضحيّة هكذا أطبّاء... وإليكم قصّتي.
أنا ابن أناس أثرياء ماتوا وتركوا لي الكثير مِن المال. لَم يُنجبوا سوايَ، ولذلك كنتُ الإبن المُدلَّل الذي يحصلُ على مراده بإشارة مِن إصبعه. لكنّني لَم أصبَحَ إنسانًا أنانيًّا ومُتشاوفًا، بل تميّزتُ بقلبي الكبير والنقيّ وعاشَت عائلات لا تُحصى بعيدًا عن العوز بفضلي.
أحاطَني الأقارب بعد موت والدَيّ، وأنا خلتُهم يُحبّوني بالفعل إلا أنّ اهتمامهم بي كان مِن داعي المصلحة. فهم أرادوا أن يترسّخ وجودهم بعقل الشاب الثريّ ليتذكّرُهم لاحقًا ويُفرّقُ عليهم ماله. لَم أتركهم بتاتًا يمدّون يدَهم لي أو للآخرين، بل كنتُ أخصُّهم بمبلغ شهريّ أمَّنَ لهم حياةً هنيئة. ظننتُ أنّ ذلك كان كافيًا، لكنّني لَم أحسِب حساب الطمَع والمكر الذي ملأ قلوبهم، خاصّة قلب الذي إسمه خليل.
لكن دعوني أشرحُ لكم مَن هو خليل لتفهموا دوافعه والدّوَر الذي لعِبَه لاحقًا.
خليل هو إبن عمّي، لكنّ أباه لَم يكن ثريًّا مثل أبي مع أنّه ورِثَ القدر نفسه مِن جدّي، إلا أنّه خسِرَ كلّ شيء لكثرة ولعَه بالنساء والمَيسَر. ماتَ الرجل إنتحارًا بعدما وجَدَ نفسه مديونًا لِدرجة أنّه صارَ غير قادر على ردّ ولو واحد بالمئة مِن ديونه. كان قد رهَن كلّ ما يملك، حتى البيت الذي تعيشُ فيه عائلته. وفضَّلَ الجبان الهروب مِن المسؤولية تاركًا مصائبه على زوجته وإبنه خليل وابنته سلوى.
كبُرَ خليل بفضل مُساعدة أبي له، وبدلاً مِن أن يكون مُمتنًّا لهكذا عمّ، نمَت في قلبه نقمة عليه... وعليّ. وهذا بالرغم مِن أنّه جاءَ وأهله للعيش معنا في البيت. أقسمُ بالله أنّني لَم أتشاوَف ولو مرّة عليه، بل فعلتُ جهدي لتجنيبه حتى طلَب ما يُريدُه باستباق حاجاته.
قضَيتُ طفولتي بتقاسم ألعابي معه، ولاحقًا باصطحابه معي ورفاقي أينما ذهبتُ. كنتُ أخفي عن الناس قصّة إفلاس أبيه لتجنيبه الحرَج، لكنّ كلّ ذلك لَم يَمحُ مِن قلبه غضبًا دفعتُ ثمنَه لاحقًا. أخته سلوى كانت مُختلفة عنه تمامًا فهي أحبَّتنا حقًّا. أمّا بالنسبة لزوجة عمّي، فهي كانت تستفيدُ قدر المُستطاع منّا راسمة على وجهها بسمة دائمة. هل كانت هي التي ملأت رأس إبنها بالكره؟ لن أعرفَ يومًا الجواب لأنّها ماتَت قبل والدَيّ.
بعد سنوات، تزوّجَت سلوى وبقيتُ على اتّصال معها، فكنتُ فعلاً أستمتعُ بالكلام معها. أما خليل، فسافَرَ لفترة قصيرة إلى بلد مُجاور وعادَ ومعه زوجة... وفارغ اليدَين. فالمشروع الذي أقامَه هناك لَم ينجح لأنّه، وبكّل بساطة، لَم يكن فالحًا بشيء. أظنُّ أنّه كان ليصبح إنسانًا ناجحًا لو أبعَدَ عن باله طمَعه وكرهه وركّزَ على قدراته. لكنّه كان يريدُ شيئًا واحدًا: الحصول على ما أملكُه.
لَم أتزوّج لأنّني لَم أجِد التي ستُسعدُني مع أنّني حاولتُ مرارًا، لِذا صببتُ إهتمامي على الشركة والمصنع وأعمالي الخَيريّة. إلى جانب ذلك، كانت زوجة خليل قد أنجبَت أولادًا صاروا سلوَتي، فهم سكنوا معي... طبعًا.
أظنُّ أنّ خليل سئِمَ مِن الإنتظار، فأفراد عائلتنا لا يعيشون مطوّلاً، وهو راهنَ على أنّني أكون قد ورثتُ داء السرطان مِن والدَيَّ، لكنّني بقيتُ بصحّة مُمتازة. فحين بلغتُ الخامسة والأربعين مِن عمري، وضَعَ إبن عمّي خطّة جهنّميّة للإستيلاء على كلّ ما لدَيَّ.
قصَدَ خليل الدكتور سمير، وهو طبيب نفسيّ يشغلُ منصب مدير مؤسّسة للأمراض النفسيّة، وتواطأَ معه على إدخالي تلك المؤسّسة بذريعة أنّني مجنون خطر! أجل، هذا ما فعلَه ونجَحَ به، فالأمر كان أسهَل ممّا تتصوّرون، إذ يكفي أن يُكتَب تقرير مِن قِبَل أخصّائيّ موثوق به ليُحكمَ على المرء بقضاء حياته بين أربعة جدران ووسط مَن فقدوا حقًّا عقلهم.
في البدء، صارَ خليل يوهمُني بأنّني بتُّ أنسى أمورًا عديدة، وهي أمور لَم تحصَل أو لَم يأتِ على ذكرها أحد بالطبع. وأنا رددتُ الأمر إلى الإرهاق في العمل ونسيتُ الموضوع. لكن في أحد الأيّام، إتّهمَني خليل بأنّني اعتدَيتُ بالضرب على زوجته في نوبة أسماها "جنونيّة". أنكرتُ طبعًا أن يكون ذلك قد حصَلَ، حتى عندما أراني جسَد زوجته المُغطّى بالكدمات وسمعتُ بكاءَها ورأيتُ الخوف في عَينَيها. عندها طلَبَ منّي إبن عمّي رؤية طبيب وإلا اضطُرَّ إلى طلَب الشرطة. خفتُ على سمعتي فرافقتُه إلى المشفى، وعاينَني الدكتور سمير واستمَعَ لخليل ولي وهزّ برأسه ثمّ قال:
ـ سنُجري بعض الفحوصات لرأسكَ يا سيّدي فقد يكون هناك ورمٌ، خاصّة أنّ والدَيكَ توفّيا بمرض السرطان. تفضّل مع الممّرض إلى غرفة الأشعّة وسأُوافيكَ في الحال.
كيف لي أن أتكّهنّ أنّني ذاهب برجليَّ إلى حَبس كان مُقرّرًا له أن يدومَ طوال حياتي؟
أدخلَني الممّرض غرفةً وأعطاني لباسًا أبيض وطلَبَ منّي أن أتحضّر بعد أن حقَنَني بذراعي. عندما استفقتُ، كنتُ مُقيّدًا بسرير غير قادر على الإفلات. بدأتُ بالصراخ لكثرة خوفي لكن ما مِن أحد استجابَ لي. ومضَت ساعات طويلة وأنا على هذا النحو، قبل أن يدخَلَ المكان الممّرض نفسه ويحقَنَني مُجدّدًا.
كَم مرَّ مِن الوقت وأنا مُخدَّر؟ لستُ أدري، ربمّا أيّام أو أسابيع. أذكرُ أنّ أحدًا كان يُطعمُني وينظّفُني لكنّ الأمور كانت مُشوّشة للغاية. في أوقات خاطفة، كنتُ أعي أنّ إبن عمّي أوقَعَ بي، إلا أنّ تلك الفكرة كانت تُمّحى مِن رأسي بسرعة. ثمّ سُمِحَ لي بالخروج إلى الردهة لدقائق قليلة بصحبة الممّرض الذي كان يُمسكُ بي، فقد كان مِن الصعب عليّ الوقوف لوحدي على رجليّ لكثرة النوم والتخدير.
بعد فترة لَم أستطِع تحديدها، زارَني الدكتور سمير وشرَحَ لي أنّني مُصابٌ بمرض نفسيّ خطير للغاية، ولدَيّ نزعة إجراميّة أجبرَته على تقييدي حمايةً للناس ولنفسي. لَم أصدِّق الأمر طبعًا إلا أنّه أضافَ أنّ وجودي في المشفى أفضَل مِن ذهابي إلى السجن. حاولتُ إقناعه بأنّني صحيح العقل وبأنّ خليل وزوجته كاذبان، إلا أنّه هدّدَني بتخديري مُجدّدًا لو بقيتُ مُصرًّا على روايتي. سكتُّ أخيرًا لأنّني أدركتُ أنّ التجاوب هو أفضَل طريقة. إبتسَمَ الطبيب عندما سمعَني أقول:
ـ قد تكون على حقّ يا دكتور، فأنتَ الأخصّائيّ وتعرفُ ممّا أشكو أكثر منّي.
لَم أعنِ طبعًا ما قلتُه، لكنّ ذلك كان كافيًا لطمأنته.
مُكافأتي على رضوخي كانت أن صرتُ أتنزَّه قليلاً في الحديقة، لكن مع الممّرض الذي كان، ولسبب أجهلهُ، يكرهُني للغاية.
طلبتُ الإذن للإتّصال هاتفيًّا بأحد ما، لكنّهم رفضوا ذلك. وفي تلك اللحظة أدركتُ أنّني سأبقى معزولاً عن العالم الخارجيّ لأجَل غير مُسمّى.
في تلك الأثناء، أخَذَ خليل تقريرًا مِن الدكتور سمير مفاده أنّني غير قادر على إدارة أعمالي وأموالي ليُطالب بأن يصير هو وصيًّا عليّ. وبما أنّ الدكتور سمير هو أيضًا طبيب شرعيّ، لَم أحظَ بمَن يفحصني ويفضَح المكيدة.
ليس كلّ الناس أشرارًا وطمّاعين، وكان ذلك مِن حسن حظّي وإلا لَما تمكّنتُ مِن إخباركم قصّتي. فسلوى، أخت خليل، هي التي خلّصَتني مِن جحيمي. كيف علِمَت بما يجري؟ مِن إبن أخيها. ويا لسخرية القدر، فاللذَين "خانا" خليل كانا أختَه وإبنه! فذلك الشاب كان قد سمِعَ أبوَيه يتكلّمان عن الموضوع وغضِبَ مِن ذلك، لكنّه لَم يجرؤ على التصرّف، فخليل بإمكانه أن يكون عدائيًّا للغاية، لأنّه رأى بعينَيه كيف ضرَبَ أمّه ليُلقي بي في المصّحة. لذا فضَّلَ إبن خليل أن يُخبر سلوى بمكان تواجدي بعدما أقنعَها أخوها بأنّني سافَرتُ بداعي العمل وقد لا أعود. وهي وجدَت الأمر مُريبًا لأنّ اتّصالاتي بها إنقطعَت فجأة.
لَم تصدّق سلوى أذنَيها عندما أخبرَها إبن أخوها بما حصَلَ لي لكنّها أسرعَت بمواجهة خليل. أنكَرَ إبن عمّي القصّة برمّتها فتركَته يُنكرُ كما يشاء وقصدَت الشرطة. وذات يوم، دخَلَ غرفتي دكتور لَم أرَه مِن قبل، قدَّمَ نفسه بأنّه طبيب نفسيّ شرعيّ أوكلَته الشرطة بفحصي بأمر مِن المدّعي العام. بدأَت تنهال دموعي على خدَّيّ ورفعتُ عينايَ إلى الأعلى شاكرًا ربّي!
عدتُ إلى البيت ودخَلَ خليل والدكتور سمير السجن. عرضتُ على زوجة إبن عمّي البقاء في البيت وأولادها إلا أنّها أسرعَت بالرّحيل ليس خجلاً مِنّي بل لأنّها، بحسَب قولها، لن تبقى لحظة واحدة في بيت الذي سجَن زوجها. يا لوقاحتها! شكرتُ إبنها الذي أطلقَ صفّارة الإنذار وأنقذَني، وهو وعَدَني بأن نبقى على تواصل. وجاءَت سلوى إلى البيت لتُساعدني على التعافي مِمّا حصَلَ لي، ولأعتاد على حياتي السابقة بعد أن قضَيتُ تسعة أشهر في المصحّة. قبّلتُها مئة قبلة شاكرًا لها مُساعدتي نفسيًّا وجسديًّا.
تعالجتُ على يدّ طبيب ذي خبرة حقيقيّة وضمير صحيح، وصرتُ أخيرًا جاهزًا للمضيّ حقًّا في حياتي.
أنا اليوم أواعدُ إمرأة رائعة لا تعرفُ شيئًا عن ثرائي وهي تُحبّني لشخصي. أنا أيضًا مُغرَمٌ بها، وأمنيَتي الوحيدة هي أن أثقَ مُجدّدًا بالناس وأذوق طعم السعادة.
حاورته بولا جهشان