عندما فتحتُ عَينَيّ في تلك الغرفة البيضاء، لم أستَوعب أنّني كنتُ في المشفى، وخلتُ حقًّا أنّني ميّتة وفي مكان أشبه بغرفة انتظار للالتحاق بالجنّة أو جهنّم.
أقول جهنّم، لأنّني حاولتُ إنهاء حياتي بنفسي على أمل أن ينتهي عذابي، عالمة تمام العلم أنّ ذلك منافٍ لتعاليم الله. لكنّ الانسان مخلوق ضعيف وما مرَرتُ به يتخطّى حدود التحمّل.
لم يأتِ أحد لزيارتي عقابًا لِما حاولتُ فعله، مع أنّهم السبب في مأساتي. فبكيتُ كل دموعي على حياة لم أذِق فيها طعم السعادة والهناء.
كلّ شيء بدأ يوم وُلِدتُ، ففي تلك اللحظة وُعِدتُ لابن عمّي عُمَر الذي كان يبلغ مِن العمر آنذاك خمس سنوات. لم أعرف أنّني سأصبح زوجته، إلّا حين صِرتُ في السابعة وبدأوا يُحضّروني نفسيًّا لألعب الدور الذي أعدّوه لي. في تلك الفترة لم أكن طبعًا أفهم معنى الزواج أو حتى الحب، فتقبَّلتُ الموضوع، الأمر الذي أراح بال العائلَتَين.
لم أكن أرى عُمَر إلّا في الأعياد والمناسبات ولم أكن أستلطفه، فقد كان يُريد التحكّم بباقي الأولاد، مما جلَبَ له كره المشتركين باللعب معه. ولو أدركتُ أنّ هذه الطباع البشعة ستلازمه مدى حياته، بل ستتفاقَم مع الوقت، لرفضتُ رفضًا قاطعًا الارتباط به. لذا لم أمانع يوم سأَلني الشيخ ، بعد سنوات عديدة، إن كنتُ موافقة على الزواج مِن عُمَر. صفّقَ الحضور عندما قلتُ نعم، وتعالَت الزغاريد وابتسمتُ لأنّني كنتُ فرحة بارتدائي فستانًا أبيضًا جميلًا وبكَوني أصبحتُ سيّدة متزوّجة.
الحقيقة أنّ أهلي لم يسمحوا لي بإكمال علمي، فلِمَ أفعل؟ فزوجي إنسان مكتفٍ ماديًّا وأنا سأنشغل بتلبية رغباته وتربية أولاده. رسموا لي مستقبلًا جميلًا مليئًا بالحب والدلَع والمال، وشكرتُ ربّي لأنّني محظوظة إلى ذلك الحدّ. لكنّني كنتُ بعيدة كل البعد عن تصوّر ما ينتظرني في بيت عُمَر، فقد اتضَحَ لي أنّه رجل معدوم الشفقة وغير قادر على حبّ انسان غير نفسه.
ليلة زفافنا كانت صدمة بالنسبة إلي، أوّلًا لأنّني لم أكن أعلم شيئًا عن أمور الزواج، وثانيًا لأنّ زوجي كان وحشًا ومريضًا نفسيًّا. عامَلَني عُمَر بازدراء، طالبًا منّي الطاعة التامّة لأنّه كان، وحسب قوله، الذكر المتفوّق بكل شيء. ولولا جدّيته وهو يقول ذلك، لضحكتُ بوجهه.
طبّقَ زوجي تلك الذكوريّة بكل شيء، وحين اشتكَيتُ منه لأهلي، قالوا لي إنّهم لم يعودوا مسؤولين عنّي وإنّني "ملك آخر". كنتُ قد أصبحتُ شيئًا يُمتلَك، أي مجرّدة مِن كياني وإرادَتي.
بدأ عُمَر بضربي بعد ستّة أشهر مِن زواجنا، وذلك مِن دون سبب، فقط لأنّني موجودة معه. وعندما سألتُه لماذا كل ذلك الغضب تجاهي، أجابَني:
ـ أنتِ قبيحة وغبيّة ومِن دون منفعة... لو اقتنَيتُ حيوانًا لكان ذلك أفضل بكَثير.
عندها نما في قلبي عداء تجاه البشريّة بأسرها، وشعور بالظلم دفعَني إلى الثورة ضد كل مَن يُحيط بي. وبات شيء واحد يشغل بالي وهو كيفيّة الخروج مِن الورطة التي أقحمني فيها أهلي. وكي لا أضطّر للبقاء مع "الوحش"، بدأتُ أتناول سرًّا حبوبًا لمنع الحمل أتَت بها لي جارتي التي كانت على علم بما يحدث لي.
ولأنّني لم أنجب منه، زاد عُمَر كرهًا لي وعنفًا معي، إلّا أنّني لم أعد أبالي بعدما أصبحتُ معتادة على الألم والإهانة.
ثمّ باتَ عُمَر يتركني مِن دون أكل أو شرب ويغيب لأيّام عديدة. لِذا كانت جارتي ترسل لي ما أحتاجُه مع ابنها البالغ مِن العمر خمس عشرة سنة. كنتُ أحسب سامر أخي الصغير وأفرح بوجوده معي ولو كان ذلك لبضع دقائق. الجدير بالذكر أنّ عُمَر لم يتكبّد عناء جلب خط إنترنت إلى البيت أو هاتف خليويّ لي، فكنتُ أقضي وقتي معزولة تمامًا عن العالم.
وحده سامر وأمّه كانا نافذتي إلى الخارج، وعائلتي الوحيدة بعد أن أدار أهلي ظهرهم لي.
لكنّ زوجي علِمَ مِن جيران آخرين بأمر مجيء سامر إلى بيتنا، ولم يتحمّل فكرة دخول ذكر آخر إلى وكره، حتى ولو كان مراهقًا يتبع تعليمات أمّه. لم تكن تلك غيرة أو خوفًا مِن الخيانة، بل عدم قبوله بأن يُساعدني أحد خاصّة إذا كان شابًّا. لِذا قرّرَ عُمَر التصرّف ومنع ابن جارتي مِن أن يدوس عتبتنا مجدّدًا... حرفيًّا.
فذات يوم، إنتظَرَ زوجي سامر في مدخل المبنى، وانقضّ عليه كالوحش وضربَه على ركبتَيه بآلة معدنيّة، الأمر الذي منعَه مِن المشي لأشهر طويلة وولّدَ له عرجًا دائمًا.
عندما علِمتُ بوجود سامر بالمشفى بعد تعرضّه للاعتداء، عرفتُ فورًا أنّ الفاعل هو عُمَر. على كل حال، هو لم يُخفي هويّته وراء قناع أو شيء مِن هذا القبيل، بل هدّدَه أيضًا واعدًا إيّاه بقتله إن نظَرَ إليّ فقط أو اشتكى عليه.
جرّاء ما حصل، فضّلَت جارتي ترك المبنى مع ابنها قبل أن تخسره، ورحلَت مِن دون أن تودّعني. ومرّة أخرى، صرتُ لوحدي ولم يعد أمامي سوى حلّ واحد: الهرَب.
إكتشفتُ أنّ لي قدرة على التخطيط لم أشك بامتلاكها أبدًا. هل كنتُ مِن البداية ذكيّة أم أنّ حب البقاء ساعَدني على التفكير لأوّل مرّة بنفسي؟
ويومًا بعد يوم، حضّرتُ نفسي لأترك ذلك المكان البغيض، إلا أنّ عُمَر كان يقف لي بالمرصاد لأنّه شعَرَ أنّني لم أعد تلك المرأة الخاضعة، وذلك مِن نظراتي له التي بدا فيها التحدّي. فبدأ حين يخرج يُقفل الباب عليّ بالمفتاح. ولم يكتفِ بذلك، بل وضَعَ على النوافذ ألواحًا مِن الخشب كي لا أرى أحدًا أو أطلب النجدة مِن المارّين.
وأمام ذلك السجن الرهيب، فضّلتُ الانسحاب مِن الحياة. أخذتُ سكينًا كبيرًا وفتحتُ عروق معصَميَّ.
وحين عادَ زوجي بعد قليل إلى المنزل ووجَدَني شبه ميّتة، إحتارَ بأمره فاتصَلَ بأهله الذين نصحوه بنقلي إلى المشفى كي لا يُتّهم بعدَم إسعافي ويُحاكَم.
بقيتُ في المشفى أيّامًا عديدة لم أرَ خلالها أيًّا مِن أقاربي. لكنّ الممرّضات أحاطَتني باهتمامهنّ، خاصّة بعد اكتشافهنّ لكدماتي العديدة التي كانت تغطّي جسدي. الطبيب نفسه أخَذَ على عاتقه الاتصال بجمعيّة لحماية النساء المعنّفات، وذلك بعد أن رفضتُ أن أشتكي على عمر لدى الشرطة لأنّني خفتُ مِن انتقامه وأهله منّي. فقوم كهؤلاء لا يردعُم شيء وما مرَرتُ به كان كافيًا.
عندما تعافَيتُ تمامًا، قصدتُ مقرّ الجمعيّة حيث استمعوا إليّ، واستقبلوني عندهم وعلّموني صناعة الحلويات في مشغلهم. فقد كان عليّ أن أتهيّأ لحياتي جديدة.
في تلك الأثناء، وحين رأى عُمَر أنّني لم أعد إلى البيت، قصَدَ المشفى حيث قيل له إنّني رحلتُ إلى جهّة غير معروفة، وإنّهم سمعوني أحكي عن ترك البلد نهائيًّا. عندها أدركَ زوجي أنّني أفلتُّ منه.
بعد أن بتُّ متمرّسة بصنع الحلويات، تمّ نقلي إلى مدينة بعيدة حيث تدبّروا لي سكَنًا مع نساء أخريات عشنَ تجربة مماثلة لتجربتي، وعملتُ في محلّ للحلويات. كنتُ قد ولِدتُ مِن جديد وفرحتي كانت لا تُقاس.
صحيح أنّني لا أزال خائفة مِن أن يجدَني زوجي، لكنّني أعلم الآن أنّ هناك مَن يرعاني، وبإمكانه الدفاع عنّي إن حصل لي أيّ شيء. ناهيك عن القانون الذي سيرمي عُمَر في السجن إن اقترَب منّي.
كم مِن المحزن أن يُدافع عنّي غرباء في حين أنّ الذي جاؤوا بي إلى الدنيا رموني ونسوني، وشاركوا ولو غير مباشرة بتعذيبي وإهانتي.
لماذا يُنجبُ بعض الناس أولادًا إن كانوا غير قادرين على حبّ فلذات كبدهم وحمايتهم، خاصّة حين يكون الأمر متعلّقًا بالبنات؟
مجتمع يركل أسس المحبّة البسيطة، باسم الذكوريّة التي لا تزال حتى اليوم تستبّد بالمرأة، وكأنّها خُلِقَت فقط لتلبية طلبات كائن مقدّس إسمه الرجل.
حاورتها بولا جهشان