كنتُ جالسة مع صديقة لي تملكُ دكّانًا في أحَد الأحياء السكنيّة، حين رأيتُ بذهول، مُراهقة تدخُلُ المكان بسرعة فائقة وتتوجّه إلى غرفة في خلف المحلّ وهي تصرخُ بأعلى صوتها: "ستقتلُني يومًا! ستقتلُني يومًا!". نظرتُ إلى صديقتي بتعجُّب واضح وسألتُها مَن تكون تلك الفتاة، فأجابَتني:
ـ إنّها ياسمينة، إبنة جيراني وهي تسكُنُ في المبنى.
ـ وما بالها تصرخُ هكذا؟ ومَن عنَته بالذي قالَته؟
ـ هي قصدَت زوجة أبيها، إنسانة شرّيرة وبلا قلب تُعذّب ابنة زوجها، لا بل تؤذيها فعليًّا.
عندها خرجَت الفتاة مِن مخبئها وسألَت صاحبة الدكّان إن كانت زوجة أبيها قد لحِقَت بها:
ـ لا يا صغيرتي... لَم يأتِ أحد. ما فعلَته بكِ تلك المرأة اليوم؟
ـ أنظُري إلى ذراعَيّ! أترَين أثر أظافرها؟ أنا مُتأكّدة مَن أنّها ستقضي عليّ في يوم مِن الأيّام، فوجودي يُزعجُها ويُقلقُها. آه... يا لَيت أبي هو الذي ماتَ بدلاً مِن أمّي! وتلك الأفعى الأخرى! أنا مُحاطة بأفاعٍ!
ـ أتعنين أختكِ الأصغر؟
ـ أجل، فهي خاضعة لزوجة أبيها كلّيًّا... لو أنّها تُدافعُ عنّي لكان لدَيّ سنَد.
ـ غريب أمر أبيكِ... لِماذا لا يوقِف زوجته عند حدّها؟ ألا يعلَم ما تفعله بكِ؟
ـ بلى لكنّه لا يُصدّقُني بل يُصدّقها هي. فهو يعلَم أنّ اغضابها سيُكلّفه الكثير. صرتُ بسنّ يسمحُ لي بِفَهم ما يجري بين النساء والرجال، وهذا الأمر هو سلاح المرأة الشرّيرة. فهي ترميه خارج غرفة النوم كلّما إستاءَت منه.
حينها تدخّلتُ قائلة:
ـ كَم عمركِ؟
ـ أربع عشرة سنة، لماذا؟
ـ أنا مُحاميّة وأعمَل مجانًا مرّة في الأسبوع لصالح جمعيّة تُعنى بحماية القاصرين مِن العنف الأُسَري. يعني ذلك أنّني أستطيع مُساعدتكِ، هذا إن قبلتِ طبعًا.
ـ تقصدين أنّ زوجة أبي قد تُجبَر على التوقّف عن أذيّتي؟ فمنذ ثلاث سنوات، كسرَت أنفي بعد أن ألقَت إناء الزهور في وجهي. أنظُري!
ـ إن ثُبتَ أنّها تُعنفُّكِ، فبالطبع يُجبرها القانون ورجاله على الابتعاد عنكِ وعدم التعرّض لكِ.
ـ إذًا أنا الآن أوكلُكِ للدفاع عنّي! سمعتُ تلك الجملة في أحَد الأفلام... هل أنّ هذا التعبير صحيح؟
ضحكتُ ثمّ أجبتُ:
ـ صحيح، لكنّني لن أتصرّف شخصيًّا بل الجمعيّة التي لدَيها صفة رسميّة. لا عليكِ، وافيني غدًا إلى هنا في الوقت نفسه لأسألكِ بضع أسئلة، فاليوم أنتِ مُضطربة.
تأثّرتُ كثيرًا بالذي حصَلَ لياسمينة، فلَم أنسَ غضبي وخوفي مِن أبي حين كان يُعنفُّني عندما كنتُ صغيرة. وأظنّ أنّني اختَرتُ مهنة المُحاماة للدفاع عن المظلومين لأنّني اختبرتُ الظلم ولَم يُدافع عنّي أحد. فغالبًا ما يكون شريك المُعنِّف إنسانًا خاضعًا له أو يخاف هو الآخر منه.
رحتُ للسيّدة التي تهتمّ بحماية الأولاد بعد أن التقطُّ صوَرًا لذراعَي ياسمينة، فكان لا بدّ أن يكون لنا إثبات على التعنيف. قالَت لي المسؤولة في الجمعيّة:
ـ لا عليكِ، فنحنُ نهتمّ بكلّ قضيّة تأتينا بجدّيّة تامّة. تقولين إنّكِ ستُقابلين ياسمينة غدًا، حسنًا. خُذي منها كلّ التفاصيل اللّازمة وبدقّة، فلا نُريد أن ننسى شيئًا. فتّشي أيضًا عن شهود وكلّ مَن يستطيع تأكيد مسألة العنف هذه.
ـ صديقتي صاحبة الدكّان تعرفُ الكثير عن الموضوع، فهؤلاء الناس يسكنون معها المبنى نفسه، وغالبًا ما تأتي ياسمينة إليها لتختبئ مِن زوجة أبيها.
ـ هل يُمكنُكِ أيضًا التحدّث مع الأب؟ فالصبيّة تثِقُ بكِ شخصيًّا وتستطيع إدخالكِ إلى عائلتها.
ـ سأفعلُ جهدي. يا إلهي... لو رأيتِ الخوف المرسوم على وجه ياسمينة! المسكينة، كيف سيكون مُستقبلها ونطرتها إلى الناس والعالَم لو بقيَت تتعرّض للتعنيف؟
ـ تلك الحالات شائعة للأسف، وتحت غطاء التربية والتهذيب. لكن حسب خبرتي، الأهل الصالحون هم الذين يستطيعون حَمل الأولاد على إطاعتهم مِن دون مسّهم على الاطلاق. وحدهم الضعفاء هم الذين يلجؤون إلى الضرب.
ـ أعلمُ تمامًا ما تتكلّمين عنه، فأبي كان عنيفًا هو الآخر. ليُسامحه الله!
ـ هل ما زال على قيد الحياة؟
ـ لا... هو مات ولَم أحزَن عليه، للحقيقة. لكنّني حزنتُ على أمّي حين غادرَت الحياة هي... كانت إنسانة مِن دون لون أو طعم، عاشَت فقط مِن أجل زوجها الطاغي. وهي فضّلَته عليّ وسكتَت عن الذي فعلَه بي كي لا تخسَر حبّه لها.
إنتظرتُ بفارغ الصبر موعدي مع ياسمينة، فكنتُ قد شعرتُ بضياعها وخوفها وخذلانها مِن عدَم حماية أبيها لها. وحين دخلتُ دكان صديقتي، وجدتُ الصبيّة بانتظاري وبريق أمَل في عَينَيها. جلستُ مع المرأتَين، بدلاً مِن أن أختلي مع الضحيّة في الغرفة الخلفيّة، فخُبرتي بالمُحاماة علّمَتني أن يكون هناك دائمًا شهود لكلّ حديث أو استجواب.
بدأتُ أسأل ياسمينة كلّ الأسئلة اللازمة وغيرها لأفهَم بالعمق الأحداث. وهذا ما قالَته لي:
ـ ماتَت أمّي المسكينة حين كنتُ في العاشرة مِن عمري، ولكثرة بُكاء أبي عليها ظننتُ أنّه لن يُحبّ غيرها يومًا أو يُفكّر بالارتباط مُجدّدًا. إلا أنّني كنتُ مُخطئة فقد تفاجأتُ وأختي الصغيرة بالمرأة الذي جلبَها إلى البيت ليُعرّفَها علينا قائلاً إنّها ستكون زوجته قريبًا وأمّنا البديلة. في البدء أحبَبنا ليال، وهذا إسمها، لأنّها بدَت لطيفة ومُحبّة. إضافة إلى ذلك، هي وعدَتنا بأنّها ستفعل ما بوسعها لإضفاء جو فرَح وتفاهم في البيت. تزوّجَ أبونا وأمِلنا بأنّنا سنعيشُ سعيدين نحن الأربعة. إلا أنّ ليال بدأَت تظهر لنا وجهها الحقيقيّ شيئًا فشيئًا، أي وجه إنسانة جشعة ومُبغضة وأنانيّة. لَم يأبَه أبي لتلك الخصال، فهو تعلّم بسرعة كيف يُرضيها، أيّ بإشباع طلباتها وتطمينها بأنّها المرأة الوحيدة في حياته. لَم تُعانِ أختي مِن ليال، لأنّها كانت أصغَر منّي، ولأنّها إعتبرَت زوجة أبيها وكأنّها أمّها لحاجتها للحنان الذي حُرِمَت منه. أمّا في ما يخصُّني، فصبَّت ليال غضبها كلّه عليّ، ربّما لأنّني أُشبَهُ إلى حدّ كبير أمّي المرحومة. وبدأَت الشتائم والصفَع والضرب. وكلّما إشتكَيتُ لدى أبي، كان يُردّدُ لي: "أنتِ تُبالغين يا حبيبتي... ليال تُحبّكِ كثيرًا، وهمّها الوحيد هو تعليمكِ ما يجب أن تعرفيه عن الحياة، فأنت جامحة للغاية وتمرّين في مرحلة المُراهقة بصعوبة." أيّ أنّه وجَدَ ما يحصل أمرًا طبيعيًّا للغاية، وكأنّ أمّي كانت لتتصرّف معي هكذا لو لَم تمُت. أحيانًا تمنعُني ليال مِن الأكل وأنامُ ومعدتي فارغة، فقط لأنّني وقفتُ في وجهها لِسبب وجيه أو لأنّني لَم أقُم بالتنظيف جيّدًا، فهي تُجبرنُي على القيام بالأعمال المنزليّة وكأنّني خادمة لدَيها. مرّات أخرى، كانت تأخذُني عنوة إلى الحمّام وتفتَحَ على ذراعَيّ الماء الساخنة. أُنظُري إلى حروقي! وذات مساء، دخلَت ليال غرفتي أثناء نومي وقصَّت خصلة كبيرة مِن شعري، لأنّني لا أحبُّ ربطه ورفضتُ التقيّد بتعليماتها. وها هو شعري، يُمكنُكِ رؤية الخصلة التي هي أقصَر بكثير مِن باقي شعري. أنا خائفة يا أستاذة، فليال هدّدتني مرارًا بالقضاء عليّ ليتسنّى لباقي أفراد عائلتي العَيش بسلام. هي ستقتُلُني يومًا، أنا مُتأكّدة مِن ذلك. يجب سجنها لمدى العُمر!"
أجَبتُها بأنّ ما تفعله ليال، إن ثبتَت صحّته، لن يودي بها إلى السجن مدى العُمر، بل بإمكاني والجمعيّة إبعادها عن ضحيّتها. إبتسمَت ياسمينة وقالَت:
ـ إبعادها؟ يعني ذلك أنّنا سنعودُ كالسابق نعيشُ نحن الثلاثة في جوّ سليم؟ هذا هو المطلوب!
ـ عليّ التكلّم مع أبيكِ يا ياسمينة.
ـ مع أبي؟!؟ لا، فهو يُحبّ ليال أكثر مِن أيّ أحد ولن يقول لكِ الحقيقة.
ـ عليّ التكلّم معه، فهو وليّ أمركِ وأنت تسكنين معه، أيّ أنّه شاهد على ما يجري. لا تخافي، أعرفُ كيف أحمِلُ الناس على التكلّم، وأعرفُ تمامًا حين يكذبون أو يخفون الحقائق، فهذه مهنتي. متى أستطيع رؤيته برأيكِ؟ متى يكون التوقيت الأنسَب؟
ـ حسنًا... قابليه فور عودته مِن عمله، حين يمرّ قرب هذا الدكّان وقبل أن يصعد إلى المبنى، أيّ قبل أن يدخُل عرين ليال.
خرجَت ياسمينة مِن الدكّان وبالُها مُرتاح، فكان سيهتمُ أحدٌ أخيرًا بحالتها ويُنقذُها مِن تلك المرأة الشرّيرة والمريضة نفسيًّا. شربتُ القهوة مع صديقتي وتكلّمنا عن الصبيّة، وعلِمتُ منها أنّها تسمعُ دائمًا صراخ ياسمينة وبكاءها، لِذا هي عرضَت عليها يومًا اللجوء إليها كلّما تأزّمَ الوضع.
في المساء، عدتُ إلى الدكّان وانتظرتُ بفارغ الصبر مرور أب ياسمينة لأتكلّم معه. وحين رأيتُه قادمًا بعد أن أشارَت إليه صديقتي، إقتربتُ منه قائلة:
- علينا أن نتكلّم سيّدي عن ياسمينة... الأمر ضروريّ وإلا أبلغتُ عنكما السلطات.
خافَ الرجُل ودخَلَ معي الدكّان، واستمعَ إليّ وأنا أروي له ما قصَّت عليّ ياسمينة عن مُمارسات ليال. قال لي:
ـ إنّها كاذبة... ياسمينة كاذبة كبيرة ولطالما كانت هكذا. إنّ زوجتي إنسانة خلوقة وعاقلة وهادئة، وتعملُ ابنتي الكبرى على تخريب زواجي. لا تُصدّقيها وإلا تأثّرَت سيرتكِ المهنيّة حين تظهرُ الحقيقة.
يتبع...