كان يومٌ مميّزًا، فقد كان اليوم الذي سأتزوّجُ فيه مِن حبيب العمر. عرفتُ أسامة منذ فتحتُ عَينَيَّ على الدنيا لأنّه ابن خالي. ومنذ صغري كان الكلّ يقول: "رحاب لأسامة وأسامة لرحاب"، إلى أن اعتَدتُ على الفكرة وهو كذلك. وبعد سنوات، حين صِرنا نفهم معنى الحبّ، وقعنا فيه وبدأنا نُخطّط لمستقبلنا. لَم يخطر ببالي ولو مرّة أنّني سأكون لغيره، ولَم يلفت نظري أيّ شاب أو رجل آخر.
للحقيقة، كنتُ أشعرُ بالطمأنينة لفكرة أنّ حياتي مرسومة هكذا، فلَم أكن مِن نوع المُغامِر، بل العكس. ففكرة المُخاطرة بأصغر أمر كانت تُخيفني، ربمّا لأنّني كنتُ ابنة وحيدة، لذلك خافَ أهلي عليّ كثيرًا وربّوني على الحيطة والتريّث.
إنتظرنا حتى ننتهي مِن دراستنا الجامعيّة ونجِد وظائف لنُحدّد موعد الزفاف، فلَم نكن على عجلة مِن أمرنا. نعم، كانت لدَينا الحياة بأكملها لنكون تحت سقف واحد. بالنسبة لهذا السّقف، إشترَينا سويًّا شقّة صغيرة وجميلة في حيّ مرموق، إلى حين تكبر عائلتنا وننتقل إلى مكان أوسع.
وفي ذلك اليوم المُنتظر بالذات... أخذَت حياتي مجرىً لَم يتوقعه أحد، خاصّة أنا.
كان المنزل يعجّ بالناس الذين أتوا للمُساعدة، وكنتُ قد صِرتُ شبه جاهزة في فستاني الأبيض. كان الكلّ سعيدًا مِن أجلي، وكان الجوّ مليئًا بالضحك والأغاني.
جاءَ مُنسّق الورود ومِن ثمّ الحلواني مُحمّلاً بالطيبّات، وأشرتُ لهما أين يضعان ما جاءآ به. هكذا كنتُ، أهتمّ بالتفاصيل بنفسي. وحين دخَلَ شاب ومعه الأكل، وقفنا بوجه بعضنا مذهولَين. كان الأمر وكأنّ الزمَن قد توقّفَ فقط مِن أجلنا، وكأنّ شيئًا يقول لي: "لقد عثرتِ على نصفكِ الآخر." حين رأيتُ ربيع، أحسَستُ أنّني أعرفُه ليس فقط منذ ولادتي... بل حتى مِن قَبل. أجل، ذلك الشاب الغريب عنّي كان قد أصبَحَ بغضون ثانية واحدة أهمّ إنسان بالنسبة إليّ.
عندما عادَ الزمَن إلى مجراه وانتبهتُ إلى ما كان يجري، إحمرَّ وجهي وارتبَكتُ، وأدَرتُ ظهري لأقطع تلك الصّلة التي لَم يكن لها أن تكون، فأمَسَكني ربيع بذراعي وقال لي بقوّة:
ـ إلى أين؟!؟
ـ أظنّ أنَّكَ لاحظتَ مِن فستاني أنّني العروس وسأتزوّج بعد أقلّ مِن ساعَتَين.
ـ هذا لن يحصل.
ـ أحبّ خطيبي وسأتزوّجُه.
ـ أنتِ كاذبة! غيّري قراركِ... لن أعيش مِن دونكِ بعد الآن.
ـ هذا كلام أطفال، إذهب مِن فضلك ودعني أكمل حياتي.
ـ حياتكِ معي، وأنتِ تعلمين ذلك.
ـ قد تكون شابًّا جذّابًّا لكنّني لا أعرفُكَ و...
ـ بلى، تعرفيني... قرأتُ ذلك في عينَيكِ... وأنا أعرفُكِ... أنتِ التي خلَقَها الله لتكون معي ولي، أنتِ التي ستُرافقني طوال حياتي وحتى مثواي الأخير.
ـ كفى، أرجوكَ! أُحبّ خطيبي.
ـ كفّي عن الكذب! قد تكونين قد أحبَبتِه إلى حين تلاقَت نظراتنا وارتبَطَ مصيرانا. تعالي معي.
ـ إلى أين؟!؟ هل جننتَ؟ دَعني وشأني!
ـ تعالي معي! هيّا نخرج مِن هنا الآن! لا تتزوّجي مِن غيري فلَن تكوني سعيدة إلا معي.
ـ وماذا لو كنتَ كاذبًا أو مُحتالاً أو غير جدير بي؟
ـ تعلمين في قرارة نفسكِ أنّني أفضل شخص لكِ.
ـ لن أؤذي إنسانًا أحبّني مثل أسامة.
ـ لا أُبالي... تعالي، إفعلي شيئًا مجنونًا في حياتكِ، لن تندمي، فأنا شاب جِدّيّ ولدَيّ شركة تحضير وتقديم طعام للحفلات والمُناسبات، ولن ينقصكِ شيء.
ـ لا يهمّني المال! لن أدمّر حياتي مِن أجل شخص غريب. فأنا أعرفُ أسامة منذ...
ـ كفى! أغمضي عَينَيكِ وتصوّري نفسكِ مع خطيبكِ ومِن ثمّ معي... أي مشهد يُعطيكِ فرحًا أكبر؟
فعلتُ كما طلَبَ منّي، وكان طبعًا مشهد وجودي مع ربيع أفضل بكثير. هل مِن الجائز أن أكون قد تعوّدتُ على فكرة وجود أسامة إلى جانبي، واقتنعتُ بالزّواج منه لأنّ الكلّ كان يُريدُ ذلك؟ ولكن هل كنتُ أنا أريدُ ذلك؟
نظرتُ مِن حولي، ورأيتُ كيف أنّ كلّ معارفي سعداء لزواجي، وسألتُ نفسي إن كنتُ بالفرح نفسه والحماس؟ للحقيقة كنتُ قد استيقظتُ في الصّباح كأيّ يوم، عالمة تمام العلم أنّني سأتزوّج خلاله. ذهبتُ إلى مصفّف الشعر وأخصّائيّة التجميل، وكأنّني مدعوّة إلى فرح وليس صاحبته. هل كنتُ حقًا أحبّ خطيبي وسعيدة للعيش معه حتى آخر أيّامي؟
لن تصدّقوا ما فعلت... نظرتُ إلى ربيع وقلتُ له:
ـ إقسم لي بأنّكَ ستحبُّني طوال حياتي.
ـ أقسمُ لكِ.
ـ هيّا بنا إذًا.
خرجنا سويًّا مِن الباب مِن دون أن ننظر وراءنا. لَم أكن خائفة أو أشعرُ بالندم أو الذنب. كنتُ أقوم بالذي يجب فعله، أي التواجد مع الرّجل الذي كُتِبَ لي أن أكون معه. أعلم أنّ كلامي ليس منطقيًّا وأنّكم لن تفهموني، لكنّني كنتُ مُقتنعة به.
عندما صرتُ في سيّارة ربيع، إتصلتُ بأسامة وقلتُ له إنّني أتراجَع عن الزواج به لأسباب شخصيّة وإنّني آسفة للغاية. ثمّ أقفلتُ خطّي ورحتُ أتزوّج مِن ربيع. جنون أحببتُ الإحساس به، بعد أن كانت حياتي مُسيّرة وتسير بانتظام كعقارب الساعة.
ردّة فعل أسامة وأهله كانت رهيبة، وأسفتُ لأهلي الذين تحمّلوا عواقب هروبي. لكن، بكلّ غرابة، لَم يهمّني الأمر أكثر مِن ذلك. كنتُ واثقة مِن أن خطيبي السابق ارتاح أخيرًا مِن ارتباط هو الآخر لَم يكن يُريدُه بالفعل، وأنّ العتاب والصّراخ كانا مِن أجل الحفاظ على ماء الوجه. تبرّأ والدايَ منّي، وقطعا كلّ اتصال بي، وانتظرا أن أعود إليهما باكية ونادمة. لكن، خلافًا لتوقّعاتهما وباقي الناس، لَم يحصل ذلك. فاليقين الذي كان في قلبي لَم يُخطئ، وزواجي مِن ربيع لَم يكن بفعل طَيش أو تحدٍّ، بل حقيقة لا يُمكنُني تجاهلها.
كيف أصف لكم حياتي مع ربيع؟ عشتُ في الجنّة! أجل، إنّ الجنّة موجودة على الأرض! فمنذ يومنا الأوّل وحتى يوم فارقَ حبّ حياتي الدّنيا، لَم نتشاجر يومًا ولَم أندَم ولو للحظة على اختياري له. كان ربيع، طوال عشرين سنة، الزوج والأب المثاليّ. أحببنا بعضنا كالمُراهقين وكنّا المثال لكلّ مَن عرفَنا. كان ربيع حقًّا نصفي الثاني، وشاء القدر أن أجده قبل ساعات مِن ارتباطي بغيره.
بعد هروبي بأشهر قليلة، تزوّجَ أسامة مِن زميلة له في العمَل، وعلِمتُ أنّه كان على علاقة بها مذ كانت لا تزال تلميذة. لماذا لَم يتزوّجها هي بدلاً منّي، لأنّه خاف مِن ردّة فعل أهله وأهلي وموقفي منه، ففضّل أن يخونَني معها. وأنا متأكّدة مِن أنه كان سيُواصل علاقته معها بعد زواجنا... ومَن يعرف، ربما كان سيتركني يومًا مِن أجلها.
إذاً لا تأسفوا عليه، لأنّه عاشَ سعيدًا للغاية بعدما تركتُه.
بكيتُ ربيع كثيرًا، فبعد موته فقدتُ سبب فرَحي وسعادتي. أهمَلتُ أولادي الذين فهموا مدى تعاستي، لأنّهم كانوا شهودًا على حبّنا وسمعوا قصّتنا ألف مرّة. ولزِمَني وقت طويل لأعتاد العَيش مِن دون نصفي الآخر.
وذات يوم دخَلَت ابنتي غرفتي وقالَت لي:
ـ ماما... أفهمُ كَم أنّ غياب البابا أليمٌ عليكِ، إلا أنّنا نحمل في دمنا جزءًا كبيرًا منه، أيّ أنّه حيّ فينا... ونحن ثمرة حبّ غير اعتياديّ، أي أنّنا أيضًا سبب قوي لتحبّي الحياة. بكاؤكِ على البابا يعني أنّه رحَلَ إلى الأبد. دعينا نُبقيه سويًّا حيًّا فينا ومعنا.
ـ أعلمُ أنّني ظلمتُكم معي لكنّ كلامكِ مُحقّ يا حبيبتي. أتمنّى لكِ أن تجدي حبّاً كحبّي وتتذوّقي طعم السعادة المُطلقة.
ـ أرجو ذلك أيضًا، فما رأيتُه منذ ولادتي مِن حبّ وتفانٍ بينكما، أعطاني واخوَتي أملاً بالناس وبالحياة.
ـ عديني ألا تتزوّجي إلا مِن الذي سيُسعدكِ، يا حبيبتي.
ـ لن أرضى بغير ذلك.
أنا اليوم جدّة لسبعة أحفاد، وحين أنظرُ إليهم وهم يلعبون أرى فعلاً ربيع فيهم، فهو لَم يمُت، بل تركَ وراءه سيرة ممتازة وإرثًا عظيمًا! نعم، لقد علَّمَ أولاده كيف يُحبّون ويحترمون أزواجهم وزوجاتهم، وكيف عليهم الوثوق بخياراتهم والعمل على تحقيقها. صحيحٌ أنّ أمثاله قليلون، إلّا أنّهم موجودون... وكلّ ما عليكم فعله هو إيجاد نصفكم الآخر.
حاورتها بولا جهشان