لطالما شغلَت بالي علاقة أختي بإبنها الوحيد، مع أنّ لا أحد رأى بذلك ريبًا ربمّا لأنّ حضارتنا الشرقيّة مُعتادة على التقارب بين الأهل وأولادهم، على عكس بلاد الغرب، لا بل نفتخرُ بذلك جاهلين تداعيات الإنحراف بعاطفة تكون أحيانًا مُضرّة أو حتى فتّاكة.
وُلِدَ قاسم بعد سنوات عديدة مِن زواج باسمة أختي، وخلنا جميعًا أنّها لن تتمكّن يومًا مِن الإنجاب. وفجأة وقَعَ علينا وعليها الخبر السار وباتَ الجميع مُتشوّقًا لرؤية ذلك الولد المُنتظَر. حضَّرنا كلّ ما يجب تحضيره مِن هدايا ومُستلزمات للأطفال وأبصَرَ أخيرًا المولود النور. لَم يكن يعلمُ أحدٌ أنّ مصير ذلك المخلوق الصغير لن يكون ملكه بل ملك التي أعطَته الحياة. أجل، فلقد استحوذَت باسمة على كلّ جانب مِن وجود إبنها مِن دون وخزة ضمير. فهو كان قد انتهى لحظة فتَحَ عَينَيه.
حضَنَت أختي إبنها كما قد تفعل أيّ أمّ جديدة، ولَم يرَ أحدٌ أيّ ريب بذلك بل هنّأها الكلّ على قيامها بواجباتها تجاهه على أكمَل وجه. وحده زوجها بدأ يشعرُ آنذاك بأنّها صارَت شبه مهووسة بولدهما، إذ أنّها لَم تعد ترى شيئًا أو أحدًا غيره. لاحقًا، حين وجَدَ ذلك الرجل أنّ لا مكان له في البيت الذي أسَّسَه، فضّلَ تركه ليجد السعادة والحبّ في مكان آخر.
رحيل زوج باسمة لَم يُؤثّر عليها كثيرًا، فهي قالَت لمَن أتى ليواسيها: "لا أبالي... فلدَيّ رجل آخر وأفضل مِن الأوّل بكثير!". إستغربتُ ذلك، فقاسم لَم يكن قد بلَغَ الثالثة مِن عمره ولا ينطبق عليه بعد تسمية "رجل"، إلا أنّني أعتبرتُ ذلك تعزية ذاتيّة وحسب. لكنّ باسمة كانت، ومنذ ذلك الوقت تُعدُّ إبنها ليكون مُلكُها الحصريّ وسندَها لمدى عمرها.
بعد وقت قصير، بدأَت باسمة بإبعاد الناس عن بيتها، أي عن إبنها، ليتسنّى لها القيام بتدريبه على سجيّتها، لأنّها كانت تعلم بقرارة نفسها أنّ لا أحد سيُوافقُ على طريقة تربيتها لإبنها، فهي عزلَته جسديًّا ونفسيًّا بمنعه مِن مُخالطة أولاد سنّه ما عدا حين يكون في المدرسة، وبعدَم تنمية شخصيّة خاصّة به. فهي كانت مرجعه الوحيد بكلّ شيء أكان صغيرًا أم كبيرًا، ولا يستطيع إتخاذ أيّ قرار بنفسه حتى لو كان يتعلّقُ الأمر بالأكل والشرب. وكما نعلمُ جيّدًا، يكبرُ الطفل كما يُربّى، خاصّة إن لَم يكن بمقدوره مُقارنة طريقة حياته بحياة الآخرين، فانتهى به الأمر بقبول هذا النمط مِن الحياة واعتباره طبيعيًّا.
كنتُ مِن القلائل الذين يُسمَح لهم بزيارة البيت، ربمّا لأنّني كنتُ آنذاك لا أزالُ عزباء وليس بإمكاني إعطاء باسمة رأيي بتربية الأولاد. رأيتُ طبعًا أنّ شيئًا لَم يكن على ما يُرام، لكنّني ردَدتُ الأمر إلى درجة تهذيب عالية مِن قِبَل قاسم وسُرِرتُ بأنّه ولد هادئ ومُطيع. صحيح أنّني وجدتُ أنّ أختي تُكثِر مِن الإهتمام بإبنها، لكنّ الأمر كان يُفسَّر بتأخيرها على إنجابه ورحيل زوجها المُفاجئ. لِذا لَم أنتقِد باسمة على ما تفعله وحصلتُ على رضاها، الأمر الذي كان مُفيدًا، ولو بعض الشيء لإبن أختي الذي كان سعيدًا برؤيتي مرّة كلّ أسبوع. فالإنسان هو مخلوق إجتماعيّ لا يُمكنه العَيش مُنقطعًا عن باقي الناس، والساعات التي كان يقضيها في المدرسة لَم تكن كافية بالمُقارنة بساعات العزل التام في البيت. فاكتشفتُ أنّ باسمة كانت قد نزَعَت التلفاز مِن مكانه وخبّأته مع أسلاكه كي لا يتأثّر بما يجري في العالم مِن شرّ وقباحة، حسَب قولها طبعًا. وفي رأيي، هي لَم ترِد أن يعرفَ قاسم أنّ غيره يعيش حياة طبيعيّة.
مع الوقت، صارَ إبن أختي يخافُ مِن مُلامسة الناس وأغراضهم، لأنّ أمّه نبّهَته مِن خطورة الجراثيم والأمراض وأخافَته لدرجة كبيرة، وهذه طريقة أخرى لمنعه مِن المُخالطة والتفكير حتى في ترك السّرب يومًا. حاولتُ التحدّث معه عن الأمر إلا أنّه أجابَني: "أمّي دائمًا على حقّ"، وانتهى الموضوع.
حين صارَ قاسم مُراهقًا، كنتُ قد تزوّجتُ وأنجبتُ إبني، فلَم أعُد قادرة على زيارة باسمة وإبنها كما في السابق، لكن في أحد لقاءاتنا، سمعتُ قاسم يقولُ عن الفتيات والنساء: "هنّ تجلبنَ الأمراض والمتاعب... لن أتزوّجَ أبدًا... أبدًا". أسِفتُ لسماع ذلك، فحاولتُ جذبه إلى الفتيات بمدحهنّ وإظهار رقّتهنّ وجمالهنّ، إلا أنّه بقيَ مُصرًّا على رأيه. رأيتُ على وجهه علامات الإشمئزاز العميق، فأدركتُ أنّ أختي نجحَت بتأمين بقاء إبنها إلى جانبها لوقت طويل إذ أنّه مِن المستحيل له أن يتركها ليتزوّج. حزنتُ كثيرًا لِما آلَت إليه حياة قاسم، وفتّشتُ عن طريقة لإنقاذه إلا أنّ زوجي منعَني مِن التدخّل. رضختُ لرأيه ليس لأنّني لا أريدُ التدخّل في ما يجري، بل لأظلُّ قادرة على دخول بيت أختي إن احتاجَني إبنها يومًا.
مرَّت الأشهر والسنوات ودخَلَ قاسم الجامعة وهناك هو اكتشَف الحياة رغمًا عنه، فما مِن أحد يستطيع قولبة شخصًا آخر كليًّا ولا بدّ أن تأخذ الطبيعة مجراها. فحصَلَ أن وقَعَ إبن أختي في الحبّ وصارَ يسألُ نفسه أسئلة كثيرة أحدَثَت في نفسه إرباكًا. لِذا كتَمَ عن أمّه مشاعره تجاه زميلته في الجامعة وذلك إلى حين يعرف كيف عليه التصرّف. فهو كان أشبه بعصفور وُلِدَ وكبرَ في قفص فُتِحَت فجأة أبوابه... كيف له أن يعرفَ إن كان عليه أن يطير... وهل كان بإمكانه أن يطير أم أنّه سيتحطّم عند أوّل مُحاولة؟
لكنّ إبن اختي بدأ يُدركُ بأيّة ظروف كَبُرَ، وذلك بعدما رأى كيف تعيشُ حبيبته وزملاؤه الذين زارَ بيوتهم وجلَسَ مع ذويهم، الأمر الذي ملأ قلبه بالتساؤلات والغضب. لِمَ كان مُختلفًا عن غيره؟ ولِمَ حُرِمَ مِن حياة "طبيعيّة"؟
لِذا جمَعَ كلّ شجاعته وأخبَرَ باسمة عن حبّه ورغبته بالزواج بعد تخرّجه وإيجاد عمل. تفاجأَت أختي طبعًا وطلبَت منه أن يجلبَ لها العروس لتتعرّف على كنّتها المُستقبليّة، وهو فخٌّ نصبَته له وكان سيتّضحُ أنّه مُكلف للغاية.
ولأنّ قاسم كان يُصدّقُ كلّ كلمة تخرج مِن فم أمّه، فرِحَ للغاية ظانًّا أنّها كانت موافقة على حبّه ومُستعدّة أخيرًا لإطلاق سراحه.
لكن يوم جلَبَ تلك الصبيّة إلى بيت باسمة، خرجَت المسكينة باكية بعدما قالَت أختي لها فظائع لا يتحمّلُها أحد وتهديدات تُخيفُ أقوى إنسان.
جلَسَ قاسم على الأريكة وبدأ يبكي بحرارة ممسكًا برأسه. ضحِكَت باسمة على حالته ووعدَته بأنّه لن يرى حبيبته مُجدّدًا، وأنّ قدمَيه لن تطأ أرض الجامعة بعد ذلك.
توجَّهَ قاسم إلى المطبخ وأخَذَ مِن أحد الأدراج سكّينًا كبيرًا ورفَعَ ذراعه عاليًا ليغرُسَ نَصل السكين في قلب التي ستُبقيه سجينها مدى عمرها... إلا أنّه أنزَلَ ذراعه بعدما تلاقَت عَيناه بعَينَي أمّه. في تلك اللحظة بالذات أدركَ المسكين أنّ مصيره قد كُتِبَ لحظة ولِدَ وأنّه لا ولن يملكُ القوّة والشجاعة لإنهاء عذابه. أخذَته باسمة في حضنها وعمِلَت على تهدئته، مُغنيّةً له أغنية سمِعَها منذ نعومة أظافره وهمسَت له أنّها تُسامحه شرط أن يعود صبيًّا مُطيع. بقيا هكذا حتى غرِقَ قاسم في النوم، وعند استيقاظه كان قد عاد الإبن الذي تفتخرُ به أمّه.
علِمتُ بالذي حصَل مِن فم أختي نفسها التي تغنَّت بقدرتها على إحباط محاولة إبنها الإفلات منها. حاولتُ مُناقشتها لكن، للأسف، مِن دون نتيجة.
ترَكَ قاسم الجامعة في اليوم الذي تلا وقطَعَ علاقته مع حبيبته. بعد فترة، وجَدَ عملاً بسيطاً يكفي له ولأمّه. ومنذ ذلك الوقت لَم تخطر في رأسه أي فكرة تمرّد ثانية لكثرة خجله مِن الذي كادَ أن يقوم به.
مرَّت السنوات مِن دون أن يحصل شيء، لأنّ حياة قاسم وأمّه كانت قد وُضِعَت على سكّة مُحدّدة لا يُزعزعُها شيء. ثمّ ماتَت باسمة لكنّ إبنها لَم يعُد مُهتمًّا بالبحث عن العَيش مثل باقي الناس، فاكتفى بالعمَل والمكوث في بيت مليء بذكريات إمرأة إستحوَذَت على روحه وجسده.
هو يقول إنّه سعيد هكذا، لكن مَن يعرفُ حقًّا ما يدورُ في رأس رجل مكسور؟
حاورتها بولا جهشان