كَم كنتُ شاكرة لأماني عندما دبَّرَت لي عملاً في شركة أبيها، وتأكّدتُ حينها أنّها كانت صديقة وفيّة. ففي تلك الأيّام كانت الوظائف نادرة، وكنتُ بِحاجة إلى المال لإكمال قسط سنَتي الأخيرة في الجامعة. وقرّرتُ طبعًا أن أكون سكرتيرة جيّدة لِهاني، المدير الذي كان سيُصبحُ بعد أشهر قليلة خطيب أماني. لَم أعلَم بالأمر إلا عندما دعَتني صديقتي إلى بيتها لِحضور خطبتها التي أبقَتها سرّيّة، لأنّ خطيبها الأوّل كان مُستاءً لِتركها له وخافَت أن يخّرِبَ عليها فرحتها.
سُرِرتُ جدًّا أن يكون هاني هو سعيد الحظ، فأماني بالفعل إنسانة طيّبة ومُحبّة وتمنَّيتُ أن يكون جديرًا بها. إلا أنّ ذلك الشاب الطموح كان يُريدُ فقط الوصول إلى مال أبيها مِن خلالها. كنتُ قد استغربتُ أن يشغلَ إنسان بسنّه مركز مدير، وسرعان ما عرِفتُ السبب الحقيقيّ وراء هكذا مركز: إستغلاله حبّ أماني فقط.
وبعد يوم واحد على عقد الخطوبة، لاحظتُ على هاني اهتمامًا بي لَم يُبدِه مِن قبل. فهو صارَ يضحكُ لي ويُكلّمُني بِصوت لطيف، بينما كان سابقًا يُعطيني الأوامر مِن دون أن ينظرَ إليّ حتى. بالطبع ردَدتُ الأمر إلى رؤيتي أثناء الخطوبة، ومعرفته بأنّني جدّ مُقرّبة مِن أماني وأنّه قرَّرَ مُراعاة شعوري ومُعاملتي بِشكل أفضل مِن قبل. إلا أنّ نواياه لَم تكن سليمة أبدًا، بل هو أرادَ أن يفعل كما يفعله عددٌ لا بأس به مِن المدراء: مُعاشرة سكرتيرتهم.
وعندما أدركتُ أنّ هاني بات يُركّزُ عليّ لينال مراده، قلتُ له بِكلّ صراحة:
ـ مِن الجيّد أنّني أعملُ لدى أبَ صديقتي وليس لدَيكَ يا أستاذ هاني، وإلا لتركتُ هذه الوظيفة.
ـ لماذا هذا الكلام؟ ألستِ سعيدة هنا؟
ـ بلى، هذا قبل أن تُلاحقَني بِتلميحاتكَ المُحرِجة وتُحاولَ لَمسي كلّما أُتيحَت لكَ الفرصة.
ـ هذا ليس صحيحًا! إنّكِ تتصوّرين أمورًا لا وجود لها!
ـ أنكر قدر ما تشاء، فأنا أعلمُ الحقيقة. ما بكَ يا أستاذ؟ هل خفتَ أن أُخبرَ خطيبتكَ بالأمر وتخسرَ الإوزّة الذهبيّة؟
ـ حسنًا... أنا مُعجبٌ جدًّا بكِ ونستطيع إبقاء علاقتنا سرّيّة.
ـ علاقتنا؟!؟ العلاقة الوحيدة التي بيننا هي علاقة عمل وستبقى هكذا! ولا تجبرني على فضحكَ! إلزَم حدودكَ!
لَم أكن أنوي إخبار صديقتي بالذي يحصل، لكنّ هاني خافَ على نفسه وسبقَني إليها قاصًّا عليها قصّة مُعاكسة للحقيقة. قال لها إنّني أتقرّبُ منه وأُحاولُ إقناعَه بِخيانتها معي، الأمر الذي صدّقَته... فالحبّ يُعمي صاحبه. نسيَت أماني سنوات الصداقة التي تربطُنا، وتذكّرَت فقط الفترة القصيرة التي عرِفَت هاني خلالها.
وتمَّ طردي وحزِنتُ للغاية، ليس فقط على عمَلي، لكن على صداقة إنتهَت بِشكل بشع ونهائيّ. علِمتُ على الفور سبب طردي مِن دون أن يقول لي أحدٌ شيئًا، ورحتُ أرى أماني لأقولَ لها حقيقة ما حدَث:
ـ خطيبُكِ إنسان بلا أخلاق.
ـ بل هو شريف! ألَم يصدّكِ؟
ـ هو صدَّني أم أنا التي فعلتُ ذلك؟ الوغد! كيف تُصدقينَه وتُكذّبيني؟ أنَسيتِ تاريخ صداقتنا؟ هل خنتُ ثقتكِ ولو مرّة واحدة؟
ـ هاني لا يكذبُ، فهو يُحبُّني كثيرًا!
ـ بل يُحبُّ مالكِ! لقد عيّنَه أبوكِ مديرًا وهو بالكاد تخرّجَ مِن الجامعة!
ـ صارَ هاني بالثلاثين مِن عمره وسنّه مُلائم لهكذا مركز.
ـ ولدَيه الخبرة اللازمة أيضًا؟ دعيني أضحكُ! هذا الرجل سيأتي لكم جميعًا بالمصائب، سترَين.
ـ سئمتُ مِن كلامكِ البشع، لا أريدُ رؤيتكِ مجدّدًا أيتّها الخائنة!
هكذا طردَتني أماني مُجدّدًا ولكن في تلك المرّة مِن حياتها إلى الأبد. كان قلبي يبكي على ما حصَلَ، لأنّني شعرتُ بالظلم وخفتُ على أماني مِن الذي سيحصلُ لها، لكنّني كنتُ متأكّدةً مِن أنّها ستعودُ وتكلّمني. لكنّني لَم أتصوّر أبدًا بأيّة ظروف كانت ستظهرُ في حياتي مُجدّدًا.
كانت قد مرَّت سنوات عديدة على تلك الحادثة المؤسفة، وكنتُ قد التقَيتُ بِرجل حياتي وتزوّجتُه. أيّامي كانت آنذاك سعيدة للغاية، فيوسف رجل مُحبّ ونزيه ومُرتاح مادّيًّا. بِكلمة، كنتُ إنسانة محظوظة للغاية. لكنّ سعادتي لَم تدُم بِسبب أماني التي بقيَت تُتابعُ مجرى حياتي عن كثَب. لَم أتصوّر أن تُبدي تلك الإنسانة إهتمامًا بي بعد الذي حصَلَ بيننا، بل ظنَنتُ أنّها تزوّجَت مِن هاني وصارَ لهما عائلة وهي تعيشُ كما طالما أرادَت.
إلا أنّ هاني لَم يتغيّر، بل بقيَ على طبعه البشع، أي رجلاً طمّاعًا وخائنًا، وقد ذاقَت أماني الأمَرَّين معه. وبدلاً مِن أن تستوعِبَ أنّني كنتُ على حقّ بِتحذيرها منه وأنّني بريئة مِن التهمة التي أُلبسني إيّاها، صبَّت غضبَها كلّه عليّ وكأنّني مسؤولة عن مآسيها مع زوجها.
وبدأَت طباع يوسف تتغيّر ولَم أفهَم طبعًا لماذا. فمِن الزوج المُحبّ والحنون، باتَ سريع الغضب والإنفعال، وينتقدُني كلّما أبدَيتُ رأيي بشيء وينعتني بالبلهاء والغبيّة. ردَدتُ الأمر إلى مشاكلٍ في عمله، وأخذتُ على عاتقي أن أُنسيه تلك المشاكل وأتحمّل تهجّمه عليّ، على أمَل أن تزولَ تلك الفترة الصعبة ونعود كما كنّا. إلا أنّ الوضع صارَ يتفاقَم، وشعرتُ، كالكثيرات مِن النساء، أنّ زوجي يخونني. لكن مِن دون دليل حسيّ، لَم يسَعني قَول أو فعل أيّ شيء، بل قرّرتُ انتظار حدوث ما يؤكّد شكوكي.
وذات يوم، قال لي يوسف بِوقاحة لَم أتخيَّلها مُمكنة:
ـ أنا راحل، يُمكنُكِ البقاء في هذا البيت... سأُعطيكِ كلّ ما تطلبينَه.
ـ ماذا؟!؟ ما الذي يحدثُ لكَ؟ ماذا فعلتُ لكَ كي تترُكَني هكذا مِن دون سبب.
ـ مَن قال إنّني راحل مِن دون سبب؟ أنا أحبُّ امرأة غيركِ وأريدُها.
ـ وتقولُها لي بهذه البساطة؟!؟ أين حبُّكَ لي والغرام الذي تكنُّه لي؟
ـ ذهَبَ مع الريح! وأنا ذاهبٌ مع الريح أيضًا. الوداع!
وبعد فترة قصيرة طلّقَني يوسف، ولَم أفهم كيف له أن يتحوّلَ هكذا مِن إنسان لآخر وبِفترة وجيزة. بكيتُ كثيرًا وأُصِبتُ باكتئابٍ لا مثيل له، ولَم أجد الأجوبة على الأسئلة التي حيّرَتني إلا بعد أن اتّصلَت بي أماني وقالَت لي:
ـ هل أعجبَكِ طعم الخيانة يا... صديقتي العزيزة؟
ـ أماني؟!؟ ما هذا الكلام؟ ماذا تقصدين؟
ـ أقصدُ أنّ السحر إنقلَبَ على الساحر. أخذتِ منّي هاني فأخذتُ منكِ يوسف.
ـ لَم آخذ هاني منكِ بل صدَّيتُه... وعُدتِ وتزوّجتِه بعد ذلك.
ـ صحيح تزوّجتُه، إلا أنّه خانَني مُجدّدًا.
ـ لكن ليس معي!
ـ هذا لا يهمّ! فلقد ذاقَ طعم الخيانة معكِ فأعجبَه وأعادَ الكرّة. لولاكِ لَبقيَ رجلاً وفيًّا.
ـ ما هذا الكلام السخيف! تُحاولين إقناع نفسكِ لأنّكِ تُدركين أنّكِ أخطأتِ باختيار الرجل المُناسب.
ـ وأنتِ؟ هل اختَرتِ الرجل المُناسب؟ لَم يتطلّب الأمر كثيرًا لإقناع يوسف بي وبِترككِ... بعض المال والإغراء.
ـ إشترَيتِه كما اشترَيتِ زوجكِ؟
ـ بل هما كانا للبيَع. وإذا فكّرتِ جيّدًا، لقد أسدَيتُ لكِ خدمة كبيرة، فلولايَ لاستمرَّيتِ بالإعتقاد بأنّ زوجكِ عظيم! أرجو أن تكوني حزينة قدر ما كنتُ حزينة عندما أخذتِ هاني منّي.
ـ للمرّة المئة أقول لكِ... إسمعي، لن أقضيَ حياتي بالتبريرات لكِ. أنتِ إنسانة مريضة وأشفقُ عليكِ. كلّ مالكِ لن يشتري لكِ حبّ أحد. كانت لكِ صديقة وفيّة ومُحبّة وأبعَدتِها بِقذارة. هنيئًا لكِ يوسف، فلَم أعُد حتى حزينة عليه بعدما أخبرتِني أنّكِ أغرَيتِه بالمال. ربمّا أنتِ على حقّ في ما قلتِه عن إسدائكِ لي خدمة. أخرجي مِن حياتي نهائيًّا وإلا رأيتِ منّي ما لا يُعجبُكِ! هيّا!
حاوَلَ يوسف العودة إليّ بعدما رمَته أماني، إلا أنّني لَم أقبَل به. فكلّ رجل ينسى حبّه وحبيبته هكذا سيُعيدُ الكرّة في أوّل فرصة تُتاحُ له.
صحيح أنّني تألّمتُ كثيرًا بعد ذلك، لكن ليس بِسبب حبّي لِزوجي، بل لِوعيي بالطبيعة البشريّة، وخفتُ ألا أثقُ بأحد أو أصدّقُ حبيبًا أو صديقًا.
لكنّ الحياة جميلة وتُعطينا أفضل ما لدَيها، لِذا أنا واثقة مِن أنّني سأجدُ يومًا إنسانًا جديرًا بي. وحتى ذلك الحين، سأُكملُ حياتي بِفرح وأمل، فهذه طبيعتي ولن أسمحَ لِشيء أو أحد بأن يمسّ سعادتي.
حاورتها بولا جهشان