دعماً للمرأة

تتهيّأ عاصفةٌ ثقافيةٌ لتهب من تحت التلال الرملية في المملكة العربية السعودية، وتعد بتغيير قريب لقصص تاريخ الفنّ.

 

بعد مرور ستّين يوماً على فتح المملكة آفاقاً جديدة وتشريع أبوابها أمام السياحة، تحدّثت الكاتبة مع الفنّانة والروائية والممثّلة حول التغييرات التي من شأنها أن تدفع بالمنطقة إلى المضيّ قدماً من خلال الفنّ والثقافة.

 

علّمنا تاريخ الفنّ أنّ التحيّز الجنسي ذاته الموجود في عالم العلم والأعمال موجودٌ أيضاً في الدائرة الإبداعية. من التدريب إلى البيع ومروراً بعرض الأعمال الفنّية، بقي تمثيل المرأة ناقصاً مقارنةً مع مواهبها الفنّية. وتزايد عدد النساء الفنّانات اللاّتي صرنَ تحت الأضواء بشكل ملحوظ بين الستينيات وسنوات الألفين. ولم تظهر مساهمة النساء الفعلية في صناعة الفنّ إلاّ بعد الحرب العالمية الأولى حين أدخلت الحاجة الاقتصادية لمساهمة العنصر النسائي عدداً من النساء البارعات إلى عالم الفنّ الحديث. يرسم الفنّانون التاريخ وهكذا أخذت النساء لوحاتهنّ ورسمنَ قصصهنّ. أمّا المواضيع الرئيسية التي هيمنت على الساحة الفنّية فكانت هوية المرأة وتمثيلها وسياسة الشتات والأدوار الثقافية. وبدأت النساء في إعادة هيكلة التاريخ من خلال الفنّ الذي تناول أدوارهنّ في المجتمع ولكنّه تطرّق أيضاً إلى قضايا أوسع أدّت إلى خطوات كبرى في مجال التنمية الثقافية والاجتماعية.

 

نبدأ مع الفنّانة فريدا كاهلو التي جسّدت علناً روحها المعذّبة في صورها الذاتية وذلك في ثلاثينيّات القرن الماضي. وصارت شخصية رمزية وملهمة وناشطة سياسية ساعدت المكسيك على استرجاع هويتها الثقافية بعد الثورة.

 

وننتقل إلى سيندي شيرمان التي تحدّت الأفكار المرتبطة بالجنس في أميركا في فترة ما بعد الحرب مع صور لنساء يؤدّينَ أدواراً مختلفة مثل عاملة المكتب وربّة المنزل والعارضة المنفتحة.

 

ثمّ نصل إلى باربرا كروغر التي شجّعت في السبعينيّات على شعارات مشهورة اليوم من خلال صور تُظهر جملاً مثل: "جسمكِ ساحة معركة"، "أتسوّق إذاً أنا موجودة" و"ما عدنا بحاجة إلى أيّ بطل". منذ ذاك الحين، تستمرّ كروغر بالتعبير بكلّ شجاعة عن مواضيع مثل عدم المساواة بين الجنسين والقوة والحداثة والنزعة الاستهلاكية والحياة والموت.

 

اليوم، تشتهر هذه الفنّانات بكونهنّ رائدات ثقافياً ألهمنَ النساء ولكن أيضاً الرجال ودفعنَ بالإنسانية جمعاء إلى إعادة النظر في موضوع الهوية التي تغيّر مسار التاريخ.

 

والآن، نتّجه نحو الشرق لنرى التغيير الدرامي والمؤثّر الحاصل هناك. اليوم، صارت المملكة العربية السعودية على كلّ لسان، ليس فقط في الوطن العربي ولكن أيضاً في العالم كلّه. إنّها لحظة فريدة من التاريخ فتح فيها بلدٌ اشتهر بثقافته المنغلقة أبوابه خلال الأشهر القليلة الماضية أمام السياحة، وأطلقت حملة إعلانية تحت عنوان "قم بزيارة السعودية" في كلّ أنحاء العالم لتصل إلى 160 مليون شخصاً كما أعلنت عن رؤيتها الوطنية الطامحة للعام 2030. بهذه الطريقة، لا تخطو السعودية خطوات صغيرة نحو التقدّم بل تقوم بقفزات عملاقة تهدف إلى النمو الثقافي والاقتصادي والاجتماعي.

 

تحدّثت مع واحدة من أهم فنّانات المملكة وأبرعهنّ ثقافياً ووجدت أنّ لديها آمال كبيرة وطموحات كثيرة للسعودية وسألتها عن الطريقة التي تنوي اتّباعها لدعم الناس والمنطقة من خلال سرد القصص. كما سألتها عن رؤيتها لمستقبل المملكة وعن العالم الفنّي الذي سينهض من تحت الرمال.

 

إنّها الفنّانة والكاتبة ومخرجة المسرح والممثّلة السعودية فاطمة البناوي. منذ اللّحظة التي بدأت فيها مهنتها بعد أن نالت شهادة الماجيستير في علم الإلهيات من جامعة هارفرد، وهي تتصرّف على أنّها سفيرة المرأة والثقافة. عملت على تقوية النساء والأسر وحمايتها ورفع مستواها كناشطة اجتماعية ومستشارة في شؤون دعم المرأة في البنك الإسلامي للتنمية. كما عملت مع جمعية حماية الأسرة وأخرجت أعمالاً مسرحية وقدّمت فنّاً قيّماً وأدّت أدواراً بارزة في أفلام سعودية مثل "الفائز بجائزة بيرلينال" و"بركة يقابل بركة" وأسّست "مشروع قصة أخرى" وقد التزمت من خلال مهنتها برفع مستوى السعوديّين داخل المملكة وخارجها.

 

صور فاطمة التقطها توركي لدى Slickslab

 

لقد قمتِ بخطوات مذهلة لتقوية النساء والأسر وحمايتهم ودعمهم. ما أهمية هذا الأمر بالنسبة لكِ؟

صحيحٌ أنّني ركّزت في بداية مهنتي على هوية المرأة في المجتمع من خلال دراساتي وموقعي في البنك الإسلامي للتنمية، لكنّ وجهة نظري اليوم تقوم على المساعدة لتطوير المجتمع بشكل شامل وكامل، وهذا يضمّ النساء والرجال، العجائز والشباب من دون استبعاد أيّ فرد من أفراد المجتمع. والسبب الذي دفعني إلى قول ذلك هو أنّني لاحظت أنّ المشاريع الهادفة إلى تقوية النساء تصل في نهاية المطاف إلى استبعادهنّ بدلاً من حضنهنّ، وهذا يجعل الفجوة أكبر! حين نخصّص المشاريع للنساء فقط تسير الأمور على عكس نوايانا الحسنة فتبتعد النساء عن أدوارهنّ الحقيقية في المجتمع. واستمدّيت الوحي من هذا الموضوع لأُطلق في العام 2015 "مشروع قصة أخرى" الذي يقوم بجولة على المدن وبالأخص، مسقط رأسي جدّة، بغية جمع القصص دون الكشف عن هوية الكاتب. تُكتب كلّ واحدة من القصص بخطّ اليد على ورقة واحدة ومن المهمّ جداً أن تكون القصة مدوّنة بخطّ اليد فهذا يجسّد الكاتب ومشاعره من خلال سيولة الحبر وسرعته مع الحفاظ على خصوصية كل حكاية شخصية. يسألني الكثير من الناس عمّا إذا كنت أجمع قصص النساء فقط فأجيب: "كلا. أنا أجمع قصة أيّ إنسان لديه حكاية ليخبرها". كان هدفي الأساسي مشاركة الحكاية الجماعية للإنسانية.

 

Amours Saoudiennes" Performance Art and Installation.. تصوير: غييوم لوبران. معرض: Do Disturb Performance Festival قصر طوكيو، باريس

 

ما هو المعنى خلف "مشروع قصة أخرى"؟

لعبارة "قصة أخرى" معنى مزدوج: قصة الشخص الآخر بغضّ النظر عمّن يكون هذا الآخر؟ والقصة الأخرى تعني "الآخر" أي الذي لم يُكشف عنه أو الأفق الآخر أو الحكاية التي لم تُسرد. أنا أشدّد على هذا الموضوع الأساسي القائم على "الشمولية" في العمل وأركّز على أنّ عملي مفتوح أمام كلّ المواطنين والمقيمين في مدينتي.

ملصق فيلم "غمضة عين" – فيديو يجسّد خمس قصص من مجموعة "مشروع قصة أخرى"

 

لماذا اخترت الفن والسينما كوسيلة؟

ينبع هذا التعلّق الشديد بالفنون والسينما من شغف داخلي قوي. أنا رسّامة منذ صغري وفي وقت لاحق رحت أستعين بالفنّ كوسيلة لإخبار القصص. وخطرت لي هذه الفكرة حين كنت أكبر وبدأت تنهال عليّ الأسئلة أكانت شخصية أو متعلّقة بأفكاري وتقاليدي وتربيتي وديني وعائلتي وبكوني سعودية تتكلّم الانكليزية بطريقة جيدة.

حين كانت تُطرح عليّ تلك الأسئلة الروتينية في الجامعة وخلال أسفاري كنت ألجأ إلى سرد القصص فهذا يساعدني على صياغة جوابي. وجدتها طريقة علاجية توفّر المعلومات بطريقة غير مباشرة لمن يتساءلون حول بلدي. واختبرت تأثير سرد القصص على الناس. وكانت ردّات الفعل على الشكل الآتي: "آه، يا للروعة أنتِ أول سعودية نقابلها". عندئذٍ فهمت أنّنا لم نتشارك مع العالم الخارجي ما يكفي عن ثقافتنا. نحن مجتمع منغلق وبالرغم من أنّه أمر أحبّه في بلدي لكنّه شكّل نقصاً وتوجّب عليه تعويضه من خلال سرد الكثير من القصص أثناء سفري وتعلّمي في الولايات المتّحدة الأميركية. كذلك، أدركت من جرّاء نوع الصور النموذجية التي كانت عالقة في الأذهان والتي كانت نتيجة قصّةٍ لم تُسرد أو قصّة غير منتهية. فشعرت بالمسؤولية وبضرورة مشاطرة الحقائق من الناس. أعرف أنّني لن أستطيع تمثيل 30 مليون شخصاً لكنّني إذا دعمت الآخرين لسرد قصصهم فقد ينجحون في امتلاك رواياتهم الخاصة بدلاً من نظرة الغرباء لهم. أولئك الغرباء الذين لم يدخلوا يوماً إلى بلدهم أو إلى عالمهم. وأخيراً، اخترت الفنّ كطريقة لإعلام الناس وتثقيفهم وتطوير قدراتهم البشرية بطريقة جماعية.

 

أنتِ تعكسين الثقافة السعودية. هل ترغبين بعدم الاكتفاء بهذا الدور والإنخراط في إعادة تشكيل تلك الثقافة؟

أظنّ أنّ عملي يعكس الثقافة السعودية ويعيد تشكيلها في الوقت عينه. ولا أعتقد أنّ في الأمر تصادم بل على العكس يكمّل أحدهما الآخر لأنّ المبدع يعرض تجارب حياته من خلال عمله. يغمس الفنّان في محتويات حقيبته ويُخرج الأغراض التي تلهمه أكثر من غيرها وبهذه الطريقة يعكس ثقافته وقصصه. وحين يفعل ذلك يضفي القليل من بصمته الخاصة ومن رؤيته التي تشمل في غالب الأحيان آماله الشخصية وأحلامه المستقبلية. هكذا، صحيحٌ أنّني أعكس ثقافتي لكنّني كذلك أضفي إليها شيئاً ولو كان بسيطاً. تكمن الروعة في قدرة الفنّان على تضمين أمور مرهفة وغير مباشرة ما يؤدّي إلى إعادة هيكلةٍ تدريجية وعضوية. وهناك ازدواجية في تجسيد الثقافة وإعادة تشكيلها وهذا يحدث تلقائياً من خلال التعبير الفنّي.

 

هل واجهتِ أيّة تحديات وأنتِ في مرحلة "إعادة التشكيل"؟

إذا ركّزنا فقط على إعادة التشكيل ينتهي بنا الأمر في عرض أعمالٍ غريبة بعيدة عن الواقع الحالي وعن ثقافة المشاهد. على الفنّان أن يمنحهم شيئاً يحبّونه ويستمتعون به لكي يجذب انتباههم. هكذا يحتاج كلّ من الفنان والمشاهد إلى الاعتماد على الآخر لإنجاح عمل فنّي في هذه المنطقة. يجب أن يكون هناك لمسة من الألفة.

على سبيل المثال، لديّ فيلم روائي تمّت الموافقة عليه مؤخراً في مهرجان البحر الأحمر السينمائي في جدّة وقد تمّ اختياره كجزء من الأفلام الروائية الإثني عشر القادمة من السعودية والعالم العربي بغية العمل على مسار تطوير السيناريو الخاص به لينضمّ إلى TorinoFilmLab في إيطاليا. في هذا الفيلم، ركّزت على المصداقية في إخبار المشاهد بأنّه الجزء الأهم من عملي وبأنّني حريصة عليه ومسؤولة عن منحه الاهتمام اللازم. من جهة أخرى وفي الوقت عينه من المهم أن أجعل المشاهد غير مرتاح قليلاً بغية المساعدة على إعادة تشكيل مجال الثقافة الذي أحتاج التركيز عليه. يتطرّق هذا الفيلم إلى الصحة العقلية داخل الأسرة وإلى العوامل المحفّزة التي تأتي نتيجة للتجنّب واللّوم والشعور بالذنب الذي يطرأ جراء إهمال هذا الموضوع الحسّاس لكن المهمّ. إنّه موضوع غير مستغَلّ أودّ أن أفتحه في ثقافتي من خلال التوازن الصحيح بين المسرح وكتابة النصوص. وساهمت خلفيّتي القائمة على علم النفس والعلوم الاجتماعية في تغذية شغفي حيال السينما والفنّ بغية التطرّق إلى قضايا لم يتم استغلالها من قبل على صعيد التنمية النفسية والاجتماعية. إنّ الاستفادة من الأنماط والمواضيع المتطوّرة في المسار الفنّي وتقديمها بطريقة خفية وغير مباشرة هو أمر رائع لا سيّما إذا أُتقن بطريقة فعّالة.

 

مع التغيير الحاصل في مجال المتطلّبات السياحية، هل تظنّين أنّه الزوّار سيتدفّقون إلى المملكة لاكتشاف الفن والثقافة؟

من الرائع ألاّ نكتفي بالتجوّل حول العالم لعرض أعمالنا بل أن نستقبل في بلدنا زوّاراً يبحثون عن الفن والثقافة فنخبرهم بتجاربنا بطريقة مباشرة. إنّ الأمر الوحيد الذي يقلقني هي الحاجة الطبيعية للبدء بإنتاج أعمال فنّية تتماشى مع توقّعات الزائرين. والأمر الذي أراه جوهرياً هو الحفاظ على المصداقية والواقعية والأصالة والحالة الخام مع بلوغ مقاربة محلّية تصلح لتكون عالمية. وغالباً ما أذكّر نفسي بأنّ الحصول على قصّة الفرد ومشاطرتها هو أكثر المساعي شجاعةً على الإطلاق. من الإلزامي في هذه المرحلة أن نقتنع بما نحن عليه وبماضينا وبكيفية تحضيرنا للمستقبل. تشتهر ثقافتنا بكونها ثقافة عطاء ومن الرائع أن نمنح لزوّارنا إقامةً لائقة في بلدنا تبقى محفورة في ذاكرتهم.

 

نص فيليسيتي ستوكس

المزيد
back to top button