كنّا في عمر الإندفاع والأمل، وكان لدَينا ثقة بغد نبنيه سويًّا حتى لو تطلّبَ الأمر منّا بعض التضحيات. كنّا قد التقَينا في فرَح صديق بعيد، إبتسَمتُ لِناهدة وهي ابتسَمَت لي بدورها. وبعد ذلك، بدأنا نتحدّث وكأنّنا نعرف بعضنا منذ سنين. طلبتُ مِن تلك الصبيّة الجميلة الإذن بمكالمتها، وهي وافقَت لكن بعد أن سألَت أخاها الأكبر إن كان يقبَل بذلك. نظَرَ إليّ زياد مِن الأعلى إلى الأسفل، وتمتَمَ لها بضع كلمات وعادَت إليّ ناهدة فَرِحة. وهكذا بدأَت قصّة حبّنا الجميلة.
منذ البدء كان زياد موجودًا في حياتنا، لكن بطريقة غير مباشرة. وكان مِن الواضح جدًّا أنّ تأثيره على حبيبتي كبير، كَونه الأخ الذي أخَذَ مكان الأب المتوفّي. تفهَّمتُ طبعًا الوضع، لأنّني لستُ بعيدًا عن تقاليد بلداننا الشرقيّة، إلا أنّني حسبتُ الأمر سيقتصر على تثبيت زياد لمكانته بشكل رمزيّ. لِذا تقبّلتُ مداخلاته بشأن نوعيّة علاقتنا التي أرَدتُها أن تكون، ومنذ البداية، رسميّة وجدّيّة، مُعتقدًا أنّ ذلك الأخ سيدَعَنا وشأننا بعد الزواج.
لكنّ الأمر كان مُختلفًا تمامًا، إذ أنّ زياد بدأ "يتصادق" معي بعد أيّام قليلة مِن الفرح. لم يكن ذلك الرجل بغيضًا بل العكس، فوراء الجدّيّة التي كان يُظهرها، إكتشفتُ فيه إنسانًا مرحًا وكريمًا، وارتاحَ قلبي. لِذا لم أرَ مانعًا مِن مصادقته. إتفقتُ وزياد أن نخرج سويًّا مرّة بالجمعة كما يفعل بعض الرجال للتمويه عن أنفسهم، بعد أسبوع مِن العمل الشاق. ولَم تُبدِ ناهدة أي مانع أن تبقى في البيت لوحدها في المساء. الحقيقة أنّ زوجتي كانت مسرورة جدًّا مِن تصاحبي لأخيها الذي كان يُمثّل بالنسبة إليها العالم بأسره.
لكنّني لم أكن أعلم أنّ لزياد حياة مغايرة تمامًا للتي يعيشها باقي الأسبوع. فبالرّغم مِن أنّ علامات التديّن كانت ظاهرة عليه وبشكل واضح، لم يرَ أخ زوجتي أيّ خطب في أن يقضي سهرته بالشرب... وأكثر مِن ذلك. ومع أنّني لم أكن مِن الذين يحكمون على الآخرين، وجدتُ الأمر مريبًا ولَم أحبّ وجود وجهَين لدى زياد، الأمر الذي حمَلَني على عدم الإستمتاع بخروجنا سويًّا. فمِن جهّتي، لم أكن أهوى تلك السهرات، لأنّني لم أكن أشرب الكحول ولا أريد قطعًا قضاء ما سمّاه زياد "وقتًا ممتعًا مع صبايا جميلات"، لأنّني كنتُ أحبّ ناهدة ولا أريد سواها، لا الآن ولا في يوم آخر.
فاكتفَيتُ بمرافقة زياد، ولَم أقل لزوجتي شيئًا عن حقيقة أخيها كي لا تنهار الصّورة التي كوّنَتها عنه منذ ولادتها. إلا أنّ زياد إستاء مِن عدَم إندماجي بسهراته قائلاً:
ـ مَن تظنّ نفسكَ؟ هل تخال أنّكَ أفضل منّي؟
ـ لا، طبعًا. لماذا تقول ذلك؟ هل صَدَر منّي أيّ كلام أو تصرّف جارح تجاهكَ؟
ـ أجل... بطريقة غير مباشرة. إسمَع، موقفكَ مِن سهراتي يُثير غضبي، ستكون واحدًا منّا وإلا...
ـ وإلا ماذا؟ تريد إجباري على احتساء الكحول والرّقص ومداعبة الفتيات، وأنا لستُ موافقًا على ذلك. هل تظنّ أنّني لم ألاحظ تعاطيكَ للمخدّرات وتمريرها لأصدقائكَ خلال السهرة؟ لن أرافقكَ إلى مكان بعد الآن، ولا أريد صداقة مرتكزة على الفسق والتهديد. أنا لم أتزوّجكَ أنتَ بل أختُكَ، فجِد أحدًا غيري يُناسب "أذواقكَ" أكثر منّي. الوداع."
في صباح اليوم التالي، بدأَت الأمور تتسارع. وأستطيع القول إنّ زياد باشَرَ منذ ذلك اليوم بالتحديد بتدمير زواجي. للحقيقة لم يخطر ببالي أنّ رفضي لمشاركة أساليبه بالسّهر ستؤدّي إلى ما وصلَت إليه الأمور، بل خلتُ أنّه سيتّخذ موقفًا منّي ويُقاطعَني وحسب. ولَم يخطر ببالي أنّ زوجتي ستنحاز إليه بهذه البساطة والسّرعة. فما لَم أكن أعلمُه في ذلك الوقت، هو حقيقة زياد وناهدة وباقي عائلتهما.
الخطأ يقع أوّلاً عليّ، فلَم أتكبّد عناء السأل عن هؤلاء الناس لكثرة إقتناعي بناهدة التي بدَت لي بمنتهى الرقّة والأناقة، وكذلك جميع أفراد ما أسمَيتُها لاحقًا بالـ" قبيلة". هكذا كانوا، مُلتحمين إلى أقصى درجة لمواجهة كلّ ما ومَن سيقف بوجههم أو يُشكّل خطرًا عليهم. لماذا قبلوا بي، أنا الغريب، وأدخَلوني إلى العائلة؟ ربّما لأنّهم كانوا بحاجة إلى "دماء جديدة"، إلى شخص غير معروف مِن السّلطات، أو، لِما لا، لأنّ ناهدة في وقت مِن الأوقات، أحبَّتني فعلاً.
فبعد أن أفهَمتُ زياد بأنّني لن أصادقه بعد ذلك، صارَت زوجتي تعاملني بجفاء ملحوظ، فاستنتجتُ أنّ زياد شكاني لها وخفتُ طبعًا أن يكون قد قلَب ضدّي ما كان يجري خلال خروجنا. فالتزمتُ المنزل لأثبتَ لها أنّني لا أريد سوى البقاء معها، ولا يهمنّي شيء أو أحد غيرها. لكنّها بدَت وكأنّها لم تعُد تريدني قط. إستغربتُ هذا التصرّف غير المنطقيّ، وأخذتُ ألاطفُها وأجلبُ لها الورود والهدايا. لكن حين رأيتُ نظرة اللامبلاة في عَينَيها، أدركتُ أنّ شيئًا ما انكسَرَ بيننا.
وفي إحدى الأمسيات، عُدتُ إلى البيت لأجد أنّ ناهدة تركَته بعد أن أخَذَت كلّ ملابسها وأغراضها الخاصّة. حاولتُ الاتصال بها إلا أنّ هاتفها كان مقفلاً. فقرّرتُ الإنتظار يومَين أو ثلاثة كي تهدأ زوجتي قليلاً وأخَذتُ أفكّر بالأسباب وأفتّش عن الحلول.
لكن في تلك الأثناء، خافَ زياد مِن أن أشي به وصمَّمَ على إسكاتي... على طريقته، أي بأساليب مباشرة ومؤذية للغاية.
ففي إحدى الليالي، بينما كنتُ عائدًا مِن عند أهلي إلى بيتي، إعترضَني شبّان مقنّعون، وأخرَجوني عنوة مِن سيّارتي وبدأوا يضربوني بعنف. حاولتُ الإفلات منهم، لكنّهم كانوا كثيرين، فعرضتُ عليهم أخذ المال الذي كان معي، لأنّني خلتُ حقًّا أنّهم لصوص. إلا أنّ أحدهم قال لي مستهزئًا: "لا نريد سوى تكسير عظامكَ كي تُغلِقَ فمكَ! لكن في المرّة القادمة سنرميكَ في حفرة ميّتًا". وأكملوا الضرب وهم يضحكون.
مِن حسن حظّي أنّ رجلاً كان مارًّا وجدَني ملقىً على الطريق وأخَذَني بسرعة إلى المشفى. وبعد أن تمَّت معالجتي، جاءَت الشرطة لتتقّصى عمّا حصَلَ. ولأنّني أردتُ البقاء حيًّا، لم أُفصح لهم عمّا حدَثَ فعلاً، بل ادعَيتُ أنّني وقعتُ ضحيّة لصوص. إلا أنّ الشرطي قال لي:
ـ قبل وصولنا بقليل، إطّلَعنا على هويّتكَ وملفّ قَيدكَ وعلِمنا أنّكَ متزوّج مِن ناهدة ق.
ـ صحيح. وما الغريب بأن أكون زوج امرأة عاديّة جدًّا؟
ـ تريد إقناعنا بأنّكَ لا تعرف مَن تكون زوجتكَ؟
ـ للحقيقة لا أعلم الكثير عنها.
ـ ناهدة هي إبنة عامر ق. وشقيقة زياد ق.
ـ أعرف أخاها زياد ولكنّ أباها متوفٍّ منذ بضع سنوات.
ـ وهي أيضًا إبنة عمّ فلان وفلان. يا أستاذ، هؤلاء الناس كانوا ولا يزالون عصابة خطرة، و"المرأة العاديّة" التي تزوّجتَها ليست بريئة أبدًا مِن ممارسات عائلتها، بل هي اشتركَت ببضع عمليّات تهريب للمخدّرات. إنّنا نراقبُهم منذ فترة لكنّنا لم نُضبطهم بعد بالجرم المشهود.
ـ لا أصدّقكَّ، ناهدة ربّة منزل ممتازة وزوجة مُحبّة. صحيح أنّنا على خلاف في الوقت الحاضر، إلا أنّني متأكّد مِن أنّها ستعود إلى صوابها قريبًا.
ـ إلى صوابها؟ وماذا تسمّي الذي حصَلَ لكَ؟ إسمَع، يا سيّدي، لقد أقحمتَ نفسكَ في أمور أكبر منكَ، فسجلّكَ نظيف وتبدو لنا بريئًا. أريد منكَ إفادة عمّا تعرفُه وما فعَلَت بكَ العصابة.
للحقيقة لم أكن أعلم الكثير، فذهَبَ الشرطيّ غير راضٍ. لكنّني كنتُ مندهشًّا فعلاً ممّا علِمتُه، فقد خلتُ حقًّا أنّ زياد إنسان منحلّ أخلاقيًّا وحسب وأخته مواطنة كغيرها. لا أخفي أنّني خفتُ على نفسي ممّا قد يحصل لي، لِذا اتصلتُ بزياد لأقول له إنّني لم أشِ به وإنّني مستعدّ لتطليق أخته لو أرادَ وهي ذلك. ضحِكَ زياد مطوّلاً، ومِن ثمّ أقفَلَ الخط مِن دون أن يُجيب على عرضي.
بعد ساعات، إتصلَت بي ناهدة وتفاجأتُ بنبرة صوتها التي كانت قاسية:
ـ أجل أريد أن تطلّقني... إفعل ذلك بسرعة.
ـ سأفعل، لكن قولي لي شيئًا واحدًا: لماذا تزوّجتِني يا ناهدة؟
ـ لأنّني... لأنّني أحبَبتُكَ. لكنّ عائلتي تأتي أوّلاً ورأيتُ أنّكَ غير مناسب لدخول حياتنا.
ـ لأنّني شريف؟
ـ لأنّكَ غير نافع! ما المشكلة بأن تكسب المال والكثير منه؟
ـ بتجارة المخدّرات، أي بقتل الناس؟
ـ نحن لا نُجبر أحدًا على التعاطي. ثمّ لدَينا أعمال أخرى كان بإمكانكَ المشاركة بها.
ـ مثل ماذا؟
ـ لدَينا فتيات تعملنَ بالمجال الترفيهيّ وأمور أخرى.
ـ لا أصدّق أنّكِ تتكلّمين عن تجارة المخدّرات والدّعارة بهكذا بساطة. أنا آسف مِن أجلكِ وعلى الطريقة التي تربَّيتِ بها. لن أعتبركِ ضحيّة، فهناك مَن كانوا في مثل وضعكِ ورفضوا الإنصياع للرذيلة. أنتِ تستمتعين بما تفعلينَه ولا أصدّق أنّ إنسانة مثلكِ بإمكانها أن تحبّ أحدًا. سأطلّقكِ بكلّ سعادة، فلا أريد أن تحملي إسمي وتلطّخيه. سيأتي يوم وتقضين حياتكِ وراء القضبان، وتندمين على ما آلت إليه أموركِ. هنيئًا لكِ بأخيكِ وأقاربكِ... الوداع!
أسرَعتُ بمعاملات الطلاق، لكنّني لم أكن أعلم إن كانت ناهدة ستنتقم منّي على ما قلتُه لها. لكن ما مِن أحد تعرَّضَ لي بعد ذلك، وأردّ الأمر إلى ما تبقّى لها مِن عاطفة تجاهي.
تابعتُ حياتي ولكن بحزن بعدما ظنَنتُ أنّني وجدتُ نصفي الآخر.
... بعد ثلاثة سنوات، قرأتُ في الصّحف أنّ العصابة تمّ القبض عليها ، لكن ليس على ناهدة التي لم تكن معهم خلال تلك العمليّة ولم يشِ بها الآخرون. إرتحتُ لأنّ زوجتي السابقة أفلتَت مِن قبضة العدالة لأنّني كنتُ لا أزال أحبّها.
لكن بعد أقلّ مِن سنة، ماتَت ناهدة بحادث سَير مروّع. كان قدَرها أن تدفع ثمَن تدمير حياة الكثير مِن الناس. وموتها هذا هو عقاب شديد مقارنة بالسّجن لباقي العصابة، ربمّا لأنّ مِن المفترض بها كأنثى أن تكون أكثر رأفة بضحايا المخدّرات والدّعارة.
حاورته بولا جهشان