في غرفة ضيّقة مُضاءة بِلمبة وحيدة، جلَستُ على طرَف السرير، وبين يدَيّ نسخة عن عقد العمَل الذي وصلَني بالبريد منذ يومَين. كانت الكلمات المكتوبة فيه ثقيلة وكأنّها أحجار، لكنّ العقد كان يعِدُني براتب مُمتاز، وسكَن فاخِر، وما يلزم لتعليم ولَدَيّ في أفضل المدارس.
كنتُ في الثلاثين مِن عمري، وعمود العائلة. فمنذ وفاة زوجي في حادث مأساويّ قَبل خمس سنوات، أصبحتُ أتحمّل مسؤولية طفلَين صغيرَين وأبوَين مُسنَّين. كان راتبي مِن عمَلي آنذاك بالكاد يُغطّي تكاليف المعيشة، وكنت ُأحيانًا أضطرّ للاستدانة مِن الجيران أو بَيع بعض قطع الحليّ الخاصّة بي. لذا وجَبَ عليّ إيجاد وظيفة أخرى، فقدّمتُ عبر الانترنت سيرَتي الذاتيّة لشركة في الخارج تبحثُ عن إداريّة مثلي.
مِن غرفتها، تعالى صوت أمّي: "نورا! ألَم تنتهي مِن تحضير الدواء؟".
أسرعتُ إلى المطبخ لإعداد الدواء وسكَبتُ كوبًا مِن الماء. دخَلتُ الغرفة حيث كانت أميّ تجلسُ على كرسيّ قديم، بينما كان والدي مُستلقيًا على الأريكة يُتابِع الأخبار على التلفاز بصوت خافِت. قدّمتُ لها الدواء وجلَستُ بجانبها.
ثمّ قالَت والدتي بصوت هادئ: "أنتِ متعبة، نورا... رأيتُكِ اليوم وأنتِ تسنُدين ظهركِ للحائط وكأنّكِ تحملين الدنيا فوق أكتافكِ". إبتسَمتُ ابتسامة باهِتة: "لا شيء جديدًا يا ماما، هذا هو حالنا." لكنّها تابعَت: "أخبِريني، ما الذي يشغلُ بالكِ؟ فلقد كنتِ شارِدة طوال اليوم".
أخرَجتُ الرسال مِن جَيبي، ثمّ قلتُ: "وصلَني عقد عمَل في الخارج. راتِب مُمتاز وشروط لا أحلُم بها هنا." إرتَفعَ حاجِبا أمّي لكثرة اندهاشها، وقالت: "هذا جيّد! ولكن... كيف ستتركيننا؟!؟".
دخَلَ الغرفة سامر، إبني الأكبر، البالغ مِن العمر اثنتَي عشرة سنة، لِيُساعِد أخته الصغرى سلمى في حلّ واجباتها المدرسيّة. إلتفَتَ فجأة إليّ وقال: "ماما، هل صحيح أنكِ ستسافرين وتتركيننا؟!؟".
تجَّمَدتُ في مكاني، وامتلأت عيانيَ بالدموع. حاوَلتُ الهروب مِن مواجهة سؤاله: "مَن أخبرَكَ؟"
ردَّ سامر بتردَد: "سمعتُكِ تتحدّثين مع خالتي على الهاتف"، ثمّ قالَ بحزم: "نحن لا نحتاج المال، ماما. بل نحتاجُكِ أنتِ".
كانت كلماته كخنجر في قلبي. كيف يُمكنني أن أترك طفلَيّ في لحظة يحتاجانني فيها؟ ولكن، مِن جهة أخرى، كيف يُمكنني أن أضمَن لهما مستقبلًا أفضل إن لم أقبَل هذه الفرصة؟
في اليوم التالي، خرجتُ إلى السوق لشراء احتياجات المنزل. كان الشارع مكتظًّا، وكما هو الحال دائمًا، كان مكانًا للهمسات والأحاديث، خاصّة بعدما أخبرَت أمّي الجميع عن العرض الذي تلقَّيتُه. "هل سمعتِ؟ نورا حصلَت على عقد عمَل في الخارج"، "وماذا ستفعل بولَدَيها وأمّها وأبيها؟ هل ستتركهم وترحَل؟" ،"يا لها مِن أنانيّة لو فعلَت ذلك!".
توقّفتُ عند بائعة الخضروات، التي قالَت بصوت خافِت: "نورا، أعرفُ أنّكِ تمرّين بوقت صعب. إذا احتجتِ أي شيء، لا تتردّدي في طلَب المساعدة." كانت كلماتها بسيطة، لكنّها زادَت العبء عليّ. هل يُمكنني حقًّا الاعتماد على الآخَرين؟
في تلك الليلة، جلَستُ في غرفتي، أحدِّق في العقد. فكّرتُ في ولَدَيَّ، ووالدَيّ، ومستقبلي. ماذا لو حدَثَ لأحدهم مكروه أثناء غيابي؟ لكنّني أيضًا تساءَلتُ: ماذا لو لَم تأتِ فرصة أخرى كهذه؟
بينما كنتُ أغرقُ في التفكير، دخَلَ سامر بهدوء وجلَسَ بجانبي وقال: "ماما، هل يُمكننا التحدّث؟"
نظَرتُ إليه بعينَين مُرهقتَين: "بالطبع، حبيبي". قال بصوت مبحوح: "أعرفُ أنكِ تريدين الأفضل لنا، لكن لا أعتقد أنّ المال أهمّ من وجودكِ معنا. أنتِ مَن تعطينا الأمان". عانَقتُه وأنا أحاوِل حَبس دموعي. لَم أرِد أن يشعرَ طفلايَ بِثقل القرار الذي أواجِهُه.
في صباح اليوم التالي، جمَعت ولدَيَّ وأبوَيَّ حول طاولة الطعام. بدأَتُ الحديث بصوت هادئ: "لقد فكّرتُ كثيرًا في الأمر. أعلَم أنّني إذا سافرتُ، سأوفِّر لكم حياة أفضل، لكنّني لا أستطيع ترككم. أنتم حياتي". قاطعَني والدي بصوت مبحوح: "نورا، نحن كبرنا وسنرحَل عاجلًا أم آجلًا... فكّري في طفليَكِ... فكّري في مستقبلهما".
لكنّ سامر قال بحماس: "لا، ماما، يمكنُنا أن نعيش معًا هنا، حتّى لو كانت الحياة صعبة. نحن نحتاجُكِ هنا!".
في النهاية، قرَّرتُ رفض العرض. أرسَلتُ بريدًا إلكترونيًّا للشركة أشكرُهم على الفرصة وأعتذرُ عن قبولها، شارِحةً لهم أسبابي. ثمّ بدأَتُ أبحَث عن طرق لتحسين دَخلي وأنا قريبة مِن عائلتي. فراتبي لَم يكن كافيًا كما ذكَرتُ، لذا لجأتُ إلى جارتنا التي تُجيد الخياطة، واتّفقنا أن أُساعدَها بعد عودتي مِن وظيفتي. وضعتُ طاولة في زاوية الغرفة وحوّلتُها إلى مشغَل صغير. وعلى الرغم مِن الصعوبات، شعرتُ أنّني اتخَذتُ القرار الصحيح. كان العمَل شاقًّا، لكنّه كان يجلبُ الفرَح. الأطفال ساعدوا بطرقهم الصغيرة، وسامر كان فخورًا بي.
لكنّني لَم أتوقّع أنّ الأمور ستأخذ مُنعطفًا مليئًا بالتحدّيات والصعاب. كنت قد اتّخذتُ قرارًا قاسيًا برفض عرض وظيفيّ كان يبدو فرصة ثمينة بالنسبة لي، وإذ بي أكتشِف أنّ القدر كان يُخطِّط لشيء آخَر، فوقَعَ ما لَم يكن في الحسبان: إبنتي الصغيرة سلمى، التي كانت نور حياتي، أُصيبَت بمرَض خطير، "إلتهاب السحايا"، هدَّدَ حياتها بشكل جدّيّ. كل يوم كان يمرّ كان مليء بالمرارة الألَم، وكنتُ أجِد نفسي أراقبُها وهي مُلقاة على سرير المشفى، ووجهُها شاحِب، وجسمها الضعيف مُتّصِل بالأجهزة الطبّيّة. ومع كلّ ليلة كانت تمضي، كنتُ أبقى بجانبها، مُمسِكة بِيَدها الصغيرة، أطمئنُّ على نبَضها الضعيف، وأدعو الله بكل ما أملُك مِن قوّة أن يشفيها بسرعة.
الأمور ازدادَت تعقيدًا عندما بدأَت التكاليف الطبّيّة تتصاعد بشكل يفوقُ قدرتي على تحمّلها، فتذكّرتُ عرض الوظيفة الذي كنتُ قد رفضتُه في وقت سابِق. سألتُ نفسي إن كان مِن المُمكن أن أجِد فرصة أخرى للخروج مِن هذا الوضع، فكتبتُ للشركة في الخارج رسالة مليئة بالدموع، أخبرتُهم فيها عن مُعاناتي وحجم الصراع الذي كنتُ أخوضُه. تساءَلت إن كان هناك مَن سيستمِع لهذا النداء، لكنّني للصراحة، لَم أتوقَّع حتّى إجابة مِن جانبهم. ما كان مُفاجئًا هو أنّهم استجابوا لطلَبي، بل وأبدوا تعاطفًا كبيرًا، فوافقوا على توظيفي وتوفير العلاج اللازم لسلمى! شعَرتُ وكأنّ الله بالفعل هو بجانبي، وأزاحَ ذلك الثقل عن كتفَيّ.
سافَرتُ بسرعة إلى الخارج، وفي قلبي مصير سلمى الذي لَم يُفارقُني أبدًا. وكلّما ابتعدتُ عنها، كنتُ أشعر بالحزن والقلَق يتسلّل إلى روحي. كنت أتّصِل بها يوميًّا، أطمئنّ على صحّتها، أستمعُ إلى صوتها الضعيف وأدعو لها بالشفاء العاجل. فبينما كنتُ أواجه الحياة في مكان جديد، كنتُ لا أستطيع الهروب مِن التفكير في مرَضها، وكنتُ أعيشُ في حالة مِن الخوف والقلَق. تمنَّيتُ لو كنتُ مكانها، لو أنّني أستطيع أن أتبادَل مكانها وآخذ عنها هذا الألَم. لكن بفضل الله ورعايته، بدأَت حالتها تتحّسن تدريجيًّا. ومِن خلال مُكالماتنا عبر الفيديو، رأيتُ كيف أصبحَ وجهها يعودُ رويدًا إلى اللون الطبيعيّ، ونظراتها تصير أكثر حيويّة، وشعرتُ بسعادة لا توصَف!
في تلك الأوقات الصعبة، كانت العائلة تمدُّني بقوة وعزيمة لا تُصدَّق. والدتي، التي كانت دومًا سنَدي في حياتي، أخذَت على عاتقها رعاية سلمى بكلّ حبّ وحنان. لم تتردّد لحظة في تلبية احتياجاتها، وكنتُ أسمعُ دائمًا مِنها كلمات التشجيع والدعاء. وكان والدي، بحكمته وتجربته، يوفّر لها الأمان والاطمئنان، ويدعمُها معنويًّا في كل خطوة. أمّا إبني، سامر، فقد كان يقفُ إلى جانب سلمى طوال الوقت، يواسيها ويجعلُها تشعر بحبّه الدائم. رؤيتي له عبر مُكالماتنا وهو يعتَني بها، كانت تملأ قلبي بالاطمئنان. فقد كان يبقى بجانبها، يقرأ لها القصص ويجعلُها تضحَك رغم مرضها. بفضلهم جميعًا، كنت أشعرُ براحة عميقة رغم المسافة التي تفصلُني عنهم. كان لديهم القدرة على التخفيف عني، ما سمَحَ لي بالتركيز على عمَلي في الخارج.
تعافَت سلمى تمامًا، واستطَعتُ أخذ إجازة قصيرة، فعدتُ إلى الوطن بحماس لا يوصَف، وبنظرة جديدة للحياة، قَبل أن أعودَ لأُكمِل مسيرتي المهنيّة. بعد سنة، جلَبتُ ولدَيّ إلى البلَد الذي أنا فيه، ودخَلا المدارس وهما مِن أوائل صفّهما، والحمد لله. صارَ والدايَ يزوراننا في الخارج ونحن نطيرُ إليهما في كلّ مُناسبة، إلى حين توفّي أبي الحبيب. أنا اليوم بصدَد دعوة أمّي إلينا بصورة دائمة.
إستغلََّيتُ الفرصة التي أُتيحَت لي، وعملتُ جهدي لتحقيق النجاح، فكان العمَل الشاق والتفاني في المجال الذي اخترتُه هما المفتاح. ومع مرور السنوات، تحقَّقت طموحاتي وأصبحتُ إداريّة ناجِحة، ولكنّ الأهم مِن ذلك أنّني أصبحتُ أكثر قوّة وصلابة. وعندما أسترجِع تلك الأيام الصعبة، أجِدُ نفسي مُمتنّة لكلّ لحظة مرَرتُ بها، بالرّغم مِن قساوتها، لأنّها علّمَتني دروسًا ثمينة في الصبر والإيمان، وأعطَتني قناعة بأن الحياة مليئة بالمفاجآت، وأنّ علينا أن نستغِلّ كلّ فرصة تُقدَّم لنا، وألّا نخاف مِن خوض تجارب نعتبِرُها صعبة أو حتّى مُستحيلة.
حاورتها بولا جهشان