طلَبَ منّي أخي أن أجِدَ لمنال خطيبته، وظيفة في الشركة التي أعمَل فيها، وفعلتُ جهدي لتلبية طلَبه لأنّه أخي الوحيد، وتربطُني به محبّة خاصّة جدًّا كَونه أصغَر منّي بحوالي العشر سنوات، فاعتبَرتُ نفسي بمثابة أمّ ثانية له، خاصّة بعد موت والدَينا.
لَم أكن أعرف منال جيّدًا، لأنّ أخي كان مفتونًا بها ويقضي وقته عند أهلها، ليستفيد مِن كلّ لحظة معها واعتادَ أن يراها هناك، بين ذويها. هو جلَبَها مرّات قليلة إلى بيتنا، وبدَت لي صبيّة حسنة المظهر والسلوك. للحقيقة، لَم يتسنَّ لي تكوين فكرة واضحة عنها، لكن مِمّا سمعتُ عنها مِن خلاله، كانت منال مُناسبة له لأقصى درجة. فرِحتُ له لأنّه كان قد فسَخَ خطوبةً سابقة مع فتاة أخرى بشكل مُفاجئ، ورفَضَ أن يقول لي عن السبب، فاحترَمتُ قراره وخصوصيّاته. وجدتُه حزينًا ومُربكًا لفترة، قَبل أن تعودَ البسمة لوجهه بعد تعرّفه على منال.
وهكذا بدأَت خطيبة أخي بالعمَل في الشركة وفي قسم المُحاسبة بالتحديد. أمِلتُ أن نتقرَّب مِن بعضنا أكثر، لكنّني وجدتُها بارِدة معي بعض الشيء، وكأنّها لَن تكون زوجة أخي في يوم مِن الأيّام. حسِبتُ أنّها لا تُريدُ أن تخلُط حياتها الشخصيّة بحياتها المهنيّة، وتركتُها تتصرّف كما تراه مُناسبًا. وتبيّنَ مع الوقت أنّ منال موظّفة بارِعة، إذ أنّ التهاني أتَتني مِن الأعلى على اختياري لها.
أطلَعتُ أخي على امتنان المدراء لِعمَل منال، وهو شكرَني، لكن شيئًا في نبرة صوته كان غريبًا، وكأنّه لَم يكن مسرورًا للخبَر. لَم أعطِ للأمر أهمّيّة كبيرة، وعدتُ إلى أشغالي في البيت الذي كنتُ أهتمّ به لأقصى درجة، بالرغم مِن ضيق وقتي وتعَبي في الشركة.
شيء آخَر وجدتُه غريبًا، هو أنّ منال لَم تشكرني ولو مرّة على توظيفها معي، وكأنّني لَم أُعطِها تلك الفرصة الذهبيّة بعد أن كلّمتُ المُدير بشأنها، وكذلك المسؤول عن الموارد الإنسانيّة ليُجري لها مُقابلة عمَل سريعة ويهتمّ بملفّها بشكل خاصّ. فالواقِع أنّ الجميع كان يُحبُّني في الشركة، لأنّني كنتُ موظّفة دؤوبة ومُخلِصة وذات فعاليّة كبيرة. لكنّ سعادة أخي كانت تأتي أوّلًا وهذا كلّ ما كان يهمّني.
بعد ذلك، صارَ أخي يقضي وقتًا أطوَلًا في البيت بعد عودته مِن عمَله، الأمر الذي كان غير اعتياديّ، فهو اعتادَ أن يكون بصحبة خطيبته حتّى المساء. سألتُه عن الأمر، لكنّه أعطاني أعذارًا لَم تُقنِعني، وفهمتُ أنّ الأمور بينهما ليست جيّدة. إعتبَرتُ الأمر مؤقتًا، فكلّ ثنائيّ يمرّ بفترات مُماثِلة بسبب خلاف أو شجار ينحَلّ بسرعة.
في الوقت نفسه، لَم تعُد منال توجِّه الكلام لي في الشركة إلّا إذا كان هناك مِن أحَد حاضِر معنا، فرحتُ إلى مكتبها لأسألها لماذا هذا الجفاف. وهذا كان ردّها:
ـ أنا هنا لأعمَل وليس لأتبادَل الأحاديث السخيفة.
ـ أحاديث سخيفة؟!؟ وهل ما أقوله هو سخيف، يا منال؟
ـ العمَل في مجال المُحاسبة دقيق ولا أُريدُ ارتكاب الأخطاء.
ـ كلّ ما أطلبُه هو أن تكوني مُهذّبة كفاية لإلقاء التحيّة عليّ وسؤالي عن أحوالي، كشأننا كلّنا في الشركة. وهذا لَم يمنَع أحَدًا يومًا عن العمَل أو يُسبِّب الأخطاء!
ـ كما تريدين. دعيني أعمَل الآن. أليس لدَيكِ ما تفعلينه؟!؟
ـ أُذكِّرُكِ بأنّني أنا من دبّرَ لكِ وظيفتكِ، يا آنسة!
ـ وهل عليّ أن أشكركِ على ذلك؟
ـ مِن أسُس اللياقة أن تفعلي!
ـ أخرجي مِن مكتبي!.
خرجتُ مُستاءة مِن مكتبها، والتقَيتُ بإحدى الزميلات التي قالَت لي:
ـ تلك الأمور تحصل، لا عليكِ.
ـ ماذا تعنين؟
ـ أعني أنّ مِن الصعب أن تتواجدي في المكان نفسه مع خطيبة أخيكِ السابِقة.
ـ السابِقة؟!؟ وهل أنّ الخطوبة قد فُسِخَت؟!؟
ـ ألستِ على عِلم بذلك؟ قالَت منال إنّها لَم تعُد خطيبة أخيكِ بعد أيّام مِن بدئها بالعمَل هنا!
ـ هذا ليس صحيحًا! لقد كذِبَت! لكن لماذا؟!؟
ـ تعالي معي إلى غرفة الاستراحة.
هناك، أخبرَتني الزميلة أنّ شيئًا ما يدورُ بين منال والمسؤول عن الموارد البشريّة، وأنّ الكلّ لاحظَ ذلك ويتكلّم عنهما. تساءلتُ لماذا لَم أعرِف بشيء، واستنتَجتُ أنّ السبب هو أنّ مكتبي يقَع في الجانِب الآخَر مِن قسم المُحاسبة. إتّصلتُ على الفور بأخي وسألتُه عن الموضوع وهو أجابَ:
ـ لا، لكن لاحظتُ على منال أنّها لَم تعُد مُهتّمة بي كالسابق، وتختلِق الحجَج لِعدَم رؤيتي. لماذا تسألين؟."
أخبرتُه كلّ شيء وسمعتُه يبكي عبر الهاتف. إلّا أنّه قال لي:
ـ لستُ أبكي على منال، فمنذ البدء شعرتُ أنّها ليست مُناسبة لي، فهي مُتسلِّطة وتُريدُ الحصول على مُبتغاها بأيّ ثمَن. كنتُ مفتونًا بها لأنّها جميلة وذكيّة وجذّابة. بل أبكي على خطيبتي السابِقة... معها شعرتُ أنّني مُرتاح وسعيد وأنّني أستطيع أنّ أكون نفسي معها.
ـ ولماذا تركتَها إذًا؟؟؟
ـ بسبب منال... تعرّفتُ عليها ذات يوم، وهي فعلَت المُستحيل لحَملي على ترك خطيبتي. حاوَلتُ أن أقاوِمها، أقسمُ لكِ أنّني فعَلتُ جهدي، إلّا أنّ سحرها كان الأقوى. تركتُ إنسانة أحبَّتني لأقصى درجة، مِن أجل منال التي لا تُحِبّ سوى نفسها.
ـ وها هي تبحث عن بديل لكَ في الشركة.
ـ لتذهب إلى الجحيم! فلستُ مُستعِدًّا لأكذِب على نفسي بعد اليوم... أتعرفين أمرًا؟ هي أرادَتني أن أقطَع علاقتي بكِ بعد أن نتزوّج بذريعة أنّكِ تُديرين حياتي كما تشائين وتشغلين قسمًا كبيرًا منها. لكنّني لَم أقبَل، لا تخافي، بل غضبتُ منها كثيرًا خاصّة عندما قالَت: "عائلتي هي عائلتكَ الحقيقيّة... على أيّ حال، ستنضمّ إلينا مِن تلقاء نفسكَ بعد الزواج".
- يا إلهي!
ـ أجل... وأشكرُ ربّي أنّني اليوم علِمتُ حقيقة منال، وإلّا مَن يعلَم، لقد حاوَلَت إبعادي عنكِ وربّما كانت نجحَت بذلك. إلّا أنّني لا أعلَم لماذا هي لَم تعُد تُريدُني وباتَت تُريدُ غيري.
ـ لأنّها تمارِس سلطتها على الناس، فهي نجحَت بإقناعكَ بترك خطيبتكَ السابقة، وأرادَت أن تقطَع العلاقة التي بيننا، ووجدَت أنّكَ قد لا تخضع لها ولرغباتها طوال الوقت. ربّما وجدَت بالمسؤول عن الموارد الانسانيّة رجُلًا أكثر طاعةً... وذو مدخول أعلى، فهو يجني الكثير ويستطيع تأمين حياة أفضل لها.
بعد أن انتهَيتُ مِن التحدّث مع أخي، جلَستُ في مكتبي أفكِّر بأمر لَم يخطُر ببالي، وهو كيف لِمنال أن تبدو بارِعة في عمَلها في غضون فترة قصيرة بينما لَزِمَ لمن سبقها سنوات؟ عدتُ واتّصلتُ بأخي لأسأله:
ـ قُل لي... ما كان نوع عمَل منال قَبل دخولها الشركة؟
ـ كانت تعمَل كمُساعِدة مُحاسِب في شركة عائليّة صغيرة.
ـ حسنًا.
توجّهتُ على الفور إلى مكتب المسؤول عن الموارد الانسانيّة لأقول له:
ـ أعلَم ما يدورُ بينكَ وبين منال... لا أدري إن كنتَ تدري أنّها لا تزال مخطوبة لأخي.
ـ للحقيقة لا! هي قالَت لي إنّها فسخَت الخطوبة بعد أيّام معدودة مِن مجيئها.
ـ هل ساعدتَها في عمَلها؟ هل أثنَيتَ على أدائها لدى المُدير؟ إعترِف الآن!
ـ حسنًا... واجهَت منال بعض الصعوبات... فأوكَلتُ جزءًا مِن عملها للمُحاسِب السابِق... كنتُ فقط أريدُ تشجيعها وخفتُ أن تترك العمَل إن وجدوا أنّها غير فالِحة، وبالفعل أثنَيتُ على عمَلها لدى المسؤولين. هل ستُخبرين أحَدًا عن الأمر؟
ـ ليس إن استطعتَ أن تطردها بأيّة طريقة. لدَيكَ أسبوع قَبل أن أشتكي عليكَ!
خسِرَت منال أخي، والمسؤول عن الموارد الإنسانيّة وعمَلها في آن واحِد، لأنّها كانت جشِعة واعتقدَت أنّها ذكيّة أكثر مما هي. أرادَت كلّ شيء فوجدَت نفسها وحيدة وعاطِلة عن العمَل في غضون أيّام قليلة. هي حاوَلت إقناع أخي بالعودة إليها، إلّا أنّها لَم تنجَح في ذلك بعد أن اخترعَت الأكاذيب العديدة. ثمّ اتّصلَت بي أمّها لتشتُمني وتصرخ عليّ بأنّني السبب، لأنّني أغار مِن ابنتها وأريدُ الاحتفاظ بأخي لنفسي. أناس مرضى بالفعل!
بعد حوالي الشهرَين، إتّصلتُ بخطيبة أخي السابِقة، ودارَ بيننا حديث طويل، شرَحتُ لها خلاله كلّ المعطيات التي حدَثَت منذ أن تعرّفَ أخي على منال حتّى تَركه لها، مرورًا بما جرى في الشركة. وطلبتُ منها التفكير بإمكانيّة الرجوع إليه بعد أن توضّحَت لها الصورة.
اليوم أخي وتلك الصبيّة مُتزوّجان ولدَيهما توأمان جميلان، وهما سعيدان للغاية مع بعضهما. أمّا في ما يخصّ منال، فهي أيضًا تزوّجَت لكن مِن رجُل عاديّ جدًّا ومحدود الدَخل، بسبب إصرار أهلها على تزويجها لأيٍّ كان بعدما صارَ الناس يتكلّمون عن علاقاتها العديدة.
أمّا بالنسبة لي... فتقدَّمَ لي رجُل طيّب ومُحِبّ، ونحن بصدَد التحضير لزواجنا!
حاورتها بولا جهشان