خطة أمي السريّة

مِن أين جاءَت تلك الفتاة الصغيرة التي سكنَت معنا بصورة دائمة؟!؟ هذا ما سألتُ نفسي يوم أدركتُ أنّ سامية لن تمكثَ بضع أيّام وحسب عندنا، بل ستتقاسَم حياتنا على صعيد يوميّ. كنتُ آنذاك في الخامسة عشرة مِن عمري وهي تصغرني بحوالي سبع سنوات. في البدء وجدتُها لطيفة ومُسلّية، لكن مع مرور الأيّام، لاحظتُ كَم أنّها مُحتالة وتفعلُ جهدها لِلَفت الأنظار، واستقطاب اهتمام والدَيّ وأخوَتي. كنتُ قد سمعتُ أنّها إبنة صديقة أمّي التي سافرَت وزوجها لفترة قصيرة، فوضعاها عندنا لاستحالة اصطحابها معهما. لكنّني سمعتُ أمّي تقول لأبي ذات مساء وهما في غرفة نومهما: أرجو أن ترتاحَ سامية عندنا وتتأقلَم مع حياتنا... المسكينة، كيف سنزفُّ لها خبَر عدَم عودة والدَيها؟ للحظة شعرتُ بالأسى تجاهها، مع أنّني لَم أعلَم تفاصيل ترك أهلها لها، إلا أنّني فهمتُ أنّني سأتحمّلها يوميًّا بعد أن تجاهلتُها بسبب شخصيّتها الماكِرة. كنتُ مُراهقة ولَم أتصوّر نفسي أعيشُ مع فتاة صغيرة لا أُحبُّها.

إخوَتي فرِحوا لدى سماعهم الأمر، فهم كانوا صغارًا أيضًا، ووجدوا في سامية رفيقة لعب ولهو، وادّعَيتُ أنا الأخرى الفرَح. لَم أكن أعلَم بعد أنّ لسامية أخت صغيرة، وأنّ والدَيها لَم يتخلّيا سوى عن إحدى بنتَيهما.

ركّزتُ على مدرستي وصديقاتي وتركتُ سامية على أهلي، فما شأني بها؟ ومرَّت الأيّام بشكل طبيعيّ، أيّ كما تمرّ على أيّة عائلة أخرى.

حاوَلت ضيفتُنا الدائمة التقرّب منّي، إلا أنّني أبقَيتُها على مسافة بعيدة جسديًّا ومعنويًّا. لاحظَت والدتي تجاهلي لسامية، فسألَتني ذات يوم عن الأمر فكان جوابي:

 

ـ عذرًا يا ماما، لكنّني لا أحبّ سامية.

 

ـ لماذا؟!؟ إنّها فتاة لطيفة للغاية!

 

ـ هذا شعوري تجاهها... ربّما لأنّها أصغَر منّي بكثير.

 

ـ لقد تركَها والداها... لدَيهما مشاكل زوجيّة، وسيستعيدونها حينما يحلان تلك المشاكل بطريقة أو بأخرى. أمّا بالنسبة لأختها...

 

ـ لدَيها أخت؟!؟

 

ـ أجل، أخت صغيرة و...

 

ـ ولماذا لَم يتركا الأخت أيضًا؟

 

ـ لأنّ سنّها الصغير لا يُخوّلها فَهم ما يجري، فلن تتأثّر كثيرًا.

 

ـ للصراحة يا ماما، لَم أقتنِع بتلك القصّة. إمّا أنّكِ فهمتِ خطأً الموضوع، أو أنّ صديقتكِ استغلَّت طيبتكِ وأبي.

 

ـ المسألة بسيطة جدًّا... صديقتي وزوجها سافرا ولَم يعودا مُتفّقَين كزوجَين، ولَم يشاءا أن تخسرَ سامية سنتها المدرسيّة أو تُشاهدهما يتشاجران على الدوام. كوني لطيفة معها يا حبيبتي، فأنا مُتأكّدة مِن أنّها تُعاني مِن وضعها العائليّ، خاصّة أنّها أُبعِدَت عن أختها الصغرى.

 

ـ هي لَم تأتِ يومًا على ذكر أختها! وأراها فرِحة للغاية معنا! على كلّ الأحوال، لا يستطيع أحد إرغامي على حبّها. كل ما بإمكاني فعله هو تحمّلها لأنّ ليس لدَي خيار آخَر.

 

خرجتُ غاضبة مِن الغرفة حيث جرى حديثي مع أمّي، إلا أنّني رأيتُ سامية واقفة عند الباب فسألتُها: "ماذا تفعلين هنا؟ هل استرقتِ السمَع؟"، وهي أكّدَت لي أنّها وصلَت لتوّها ولَم تسمَع شيئًا مِن حديثنا. لكنّني لَم أُصدِّقها، بل لاحظتُ في عَينَيها وعلى وجهها علامات الكذِب. فالجدير بالذكر أنّني رأيتُ سامية تكذبُ مرارًا أمامي، وبتُّ أعرفُ كيف يتغيّر وجهها حين تخفي الحقيقة، فهي كانت بالفعل ماكِرة مع أنّ ما مِن أحَد لاحَظَ عليها شيئًا! هل يُعقَل أنّ يكون الجميع مكفوفي العَينَين لهذه الدرجة... أم أنّني أُبالِغُ بالأمر؟ فقد يتّضِح أنّ سامية فتاة مسكينة تُحاول كسب عائلتها الجديدة لها؟

عمِلتُ جهدي في الفترة التي تلَت على استيعاب ضيفتنا والنظر إليها مِن زاوية مُختلفة، خاصّة أنّني استشَرتُ صديقاتي بهذا الشأن وقلن َجميعهنّ إنّ سامية هي فتاة عاديّة جدًّا ولا خوف منها.

طالَ وجود سامية عندنا، فقد مرَّت سنة بكاملها ولَم يسترجِعها والداها، بل علِمنا أنّهما إستقرّا حيث هما مع ابنتهما الصغرى. وخلال تلك السنة، ثبَّتَت سامية رِجلَيها في بيتنا، إذ أنّها صارَت تترأس أخوَتي وتملي عليهم ما يفعلون أو لا يفعلون، حتّى لو كان ذلك مُعاكِسًا لرغبة أهلنا... أو رغبتي.

سمعتُ أبي يسأل أّمّي عمّا يجري، إذ قيَلَ له في البدء إنّ الزوجَين مُختلفان وهما على شفير الطلاق. هدّأته والدتي طالبةً منه أن يصبُر، ومؤكّدة له أنّها ستُحاول معرفة المزيد مِن صديقتها. إلا أنّها أضافَت أنّ سامية ليست مُزعِجة لأيٍّ كان بل العكس، وأنّ التكاليف التي نتكبّدها عليها هي مدفوعة مِن قِبَل أبيها. سكَتَ والدي لكنّه لَم يكن مُرتاحًا للوضع.

وبعد حديث والدَيّ عن سامية، بدأَت تختفي بعض الأغراض التي تخّص أبي. في البدء إختفت أمور صغيرة ولكن عُدنا ووجدناها في غير أماكنها، فظنَّ والدي أنّه نسيَ أين وضعَها، لكن حين اختفى حاسوبه المحمول، شعَرَ حقًّا أنّ شيئاً مُريبًا يحدث.

فالموضوع أغضبَه إلى أقصى حدّ، لأنّ ملفّات مُهمّة كانت موجودة على ذلك الحاسوب، الأمر الذي كان سيُسبّب له توبيخًا في العمَل. هو علِمَ أنّ لسامية ضلعًا بالموضوع، لكن مِن دون دليل لا يسَعه اتّهامها، على الأقلّ علَنًا. لكنّه قال لها على حدة:

 

ـ لماذا أخَذتِ حاسوبي المحمول وأين هو؟ أعيديه لي على الفور!

 

ـ أنا فتاة صغيرة! كيف تّتهمني بأنّني الفاعِلة؟

 

ـ أعلمُ تمام العِلم أنّكِ مَن أخذَه! أعيديه لي!

 

ـ لَم ألمُسه... لكن لو أخذَه أحَد، أظنّ أنّه أتلفَه وتخلّصَ منه إلى غير عودة.

 

ـ ماذا؟!؟ أتلفتِه؟ لماذا تكرهيني؟ لقد استقبلتُكِ في بيتي منذ أكثر مِن سنة!

 

ـ تريدُ التخلّص منّي أنتَ الآخَر... ولن أسمحَ لكَ بذلك. أنا باقية هنا، فهذا بيتي!

 

ركضَ أبي يُخبرُنا بالحديث الذي دارَ بينهما، إلا أنّ سامية بدأَت فجأة بالبكاء، وراحَت ترتمي في أحضان أمّي التي نظرَت إلى زوجها مُعاتِبة.

إتّهمَت سامية أبي بالكذِب، وأنّه يُريدُ لصق تهمة اختفاء الحاسوب بها لترحَل مِن بيته، فأحاطَها إخوَتي باكين وصارخين لأبي: "أنتَ الكاذب، أنتَ الكاذب!". وحدي علِمتُ أنّه يقول الحقيقة، فأخذتُه مِن ذراعه إلى الخارج حيث هدّأتُه وتباحَثنا بموضوع الفتاة الشرّيرة. وضَعنا احتمالات عديدة لسبب وجودها بيننا، وأخرى لكيفيّة إرجاعها إلى أهلها. لكنّنا كنّا مُدرِكَين أنّ المُجابهة مِن قِبَل أمّي وأخوَتي والناس ستكون قويّة. ففي نظرهم، كانت سامية مُجرّد فتاة صغيرة ولا يُمكنُها أن تكون كما نصِفُها.

صارَت العلاقة بين أبوَيّ فاتِرة للغاية، ولَم يعُد أحَد سوايَ يُوجِّه الكلام لوالدي. لكن في الأيّام التي تلَت، همسَت سامية في أذني حين كنتُ جالسة إلى مائدة الطعام أُراجعُ دروسي: "سيحينُ دوركِ قريبًا"... ثمّ اختفَت. في البدء لَم أستوعِب حقًّا ما قالَته، أوّلاً لأنّه حدَثَ بسرعة وثانيًا لفظاعة تلك الكلمات. عندها قرّرتُ التصرّف، فقد أدركتُ أنّ عائلتي ستتفكّك قريبًا إن لَم أضَع حدًّا لتلك الفاجِرة الصغيرة.

وخطَرَ ببالي شيء منطقيّ للغاية: أمّ سامية هي صديقة أمّي المُقرّبة، وأمّ سامية على تواصل دائم مع أمّي، وأمّي هي التي تقبض المال الذي يُرسَل لمصاريف سامية... إذًا، الأجوبة لأسئلتي الكثيرة هي عند أمّي، وبالأخصّ في هاتفها! لِذا صمّمتُ الاستيلاء عليه لوقت كافٍ حتى أعرِف المزيد مِن خلال مُحادثاتها مع والدة سامية. ولَم يكن الأمر صعبًا، فأمّي تضَع دائمًا هاتفها في المكان نفسه عندما تُحضّر الطعام، فأخذتُه ذات يوم وركضتُ به إلى غرفتي واقفلتُ على نفسي بالمفتاح. وضعتُ الرمز السرّي الذي لَم يكن سرًّا بحدّ ذاته، وفتحتُ التطبيق حيث تتبادل المرأتان الأحاديث. لحسن حظّي لَم تكن أمّي مِن الذين يحذفون الرسائل، فوجدتُ ما كنتُ أبحثُ عنه، خاصّة بعدما عدتُ إلى بداية تلك الأحاديث، أيّ قَبل وصول سامية إلينا بقليل. فأمّ سامية اشتكَت لوالدتي من إبنتها بعدما حاوَلت هذه الأخيرة أذيّة أختها الصغرى مرّات عديدة وحتى مُحاولة قتلها! ولن تتكهّنوا أبدًا ما كان ردّ أمّي لها! فهي عرضَت استقبال سامية في بيتنا وتربيتها بيننا... مُقابِل مبلغ مِن المال لا يُغطّي فقط مصاريف الفتاة بل الأضعاف! وتساءَلتُ كيف لأمّي أن تستقبل فتاة خطيرة حين يكون لدَيها أولاد صغار؟!؟ أكلّ ذلك بسبب المال؟ صحيح أنّ راتب أبي لَم يكن كبيرًا، لكنّه كان كافيًا لمصروفنا جميعًا. ربّما أرادَت والدتي العَيش برخاء لَم تعرفه مِن قَبل، لكنّني لَم أرَها تشتري لنفسها شيئًا منذ وصول سامية حتّى اليوم. ماذا فعلَت بالمال؟ للحقيقة تلك الأجوبة التي حصلتُ عليها ولّدَت أسئلة أخرى ولَم أعُد أعرِف مِن أين أبدأ. الحلّ الوحيد كان مواجهة أمّي. لكن قَبل ذلك، أخذتُ نسخة عن تلك الأحاديث بواسطة هاتفي...تحسبًّا!

ويوم أطلعتُ والدتي على ما فعلتُه وما صِرتُ أعرفُه، هي أسرعَت بحذف الحديث برمّته، إلا أنّني قلتُ لها إنّ لا جدوى مِن ذلك، فلدَي نسخة خاصّة بي. عندها، إنفجرَت بالبكاء:

 

ـ ما الخطب بالذي فعلتُ؟ فكلّ شيء تحت سيطرتي.

 

ـ كلّ شيء؟ الفتاة ماكِرة ومؤذية، فهي استمالَت أخوَتي ودمّرَت حاسوب أبي وهدّدَتني. هل ننتظرُها حتّى تؤذينا جسديًّا؟!؟ هل حينها ستعرفين أنّكِ أخطأتِ؟ قولي لي... ماذا تفعلين بالمال؟!؟

 

ـ هذا ليس مِن شأنكِ!

 

ـ بلى... فهو المال الذي قايَضتِ به راحتنا وأمننا! إسمعي... إتّضَحَ لي للأسَف أنّكِ إنسانة تُخطِّط في الخفاء وتُنفّذ مِن دون وخزة ضمير... وهذا وجه لَم أعرِفه فيكِ مِن قَبل. وأظنّ أنّ ركضكِ وراء المال له هدَف مُعيّن. أمّ أنّني مُخطئة. أجيبي!

 

ـ أُريدُ تركَه... سآخذُكم معي طبعًا... لَم أعُد أطيقُ الحياة معه... إنّه رجُل مُمِلّ وبخيل.

 

ـ المسكين أبي يعمَل ليلاً نهارًا ليؤمِّن لنا المال اللازم لنعيش بسلام!

 

ـ هذا ليس كافيًا.

 

ـ إذهبي للعمَل إذًا بدلاً مِن الجلوس طوال النهار في البيت! تتركين زوجكِ وأب أولادكِ لهذه الأسباب التافهة؟!؟ على كلّ الأحوال، لَم أتعجّب كثيرًا، فأنتِ جلَبتِ إلى بيتنا قنبلة موقوتة! أتعرفين أمرًا؟ حقيقتكِ بشِعة للغاية... سأُطلِعُ أبي على سبب وجود سامية بيننا لكنّني لن أقول له إنّكِ ستتركينَه. لكن إعلمي أنّني باقية معه، وإن كنتُ لا أزال أملكُ بعض السيطرة على قرار أخوَتي، فسأُقنّعُهم بالبقاء أيضًا، وهنيئًا لكِ بسامية!

 

ـ لا! أرجوكِ لا تفعلي شيئًا!!! ماذا تُريدين؟

 

ـ أعيدي سامية إلى أهلها وسنتكلّم لاحقًا.

 

رحلَت سامية بعد حوالي الأسبوع حين جاء أبوها مِن الخارج ليصطحبها، وكان بالفعل مُستاءً كثيرًا. بعد ذلك، وجدتُ عمَلاً صيفيًّا لأوفِّر مصروفي على أبي، وأقنعتُه بوجوب شراء هديّة جميلة لأمّي واصطحابها إلى المطعم على الأقلّ مرّة في الشهر. ويوم عادا مِن سهرة جميلة قضياها سويًّا، دخلَت أمّي غرفتي وفي يَدها علبة مليئة بالمال قائلة:

 

ـ خذي هذه العلبة وابقيها معكِ، فقد تحتاجين إليها لاحقًّا لدراستكِ الجامعيّة أو الزواج. أنا أمّ جيّدة، لكنّ المال غرَّني وأضَعتُ عقلي بسببه. سعادتي معكم جميعًا ومكاني بينكم. أنتِ على حقّ، أستطيع إيجاد عمَل بسيط لا يأخذ يومي بكامله، فليس عليكِ أن تصرفي على نفسكِ في هذا السنّ بينما أنا أتفرّج عليكِ. هنيئًا للرّجُل الذي سيتزوّجكِ يا حبيبتي، فأنتِ جوهرة ثمينة.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button