حلِمتُ بموت ابني!

يوم أطلَقَ ابني صرخته الأولى، رفعتُ يدَيّ إلى السماء شاكرًا الله على تلك الهديّة التي لا تُقدَّر، فلقد وُلِدَ مروان بعد سنوات على زواجنا وكانت زوجتي قد فقدَت كليًّا أيّ أمَل بالإنجاب. أقَمنا الحفلات للمناسبة وصبَبنا اهتمامنا على هذا الطفل المُعجزة.

مرَّت السنوات بهدوء، فلَم يحدث شيء يُذكر سوى أنّ مروان كبُرَ ليصبحَ إنسانًا طيّبًا وخلوقًا أحبَّه كلّ مَن تعرَّفَ إليه. فهو كان بالفعل مُميّزًا بكلّ ما للكلمة مِن معنى. وخلافًا للأهل الذين يُنجبون ولَدًا بعد فترة انتظار طويلة، لَم نُفرِط بِدلَع مروان ولَم نعتبِره بِحاجة إلى أكثر ممّا أعطَيناه، أي تربية صحيحة بمخافة الله.

لَم نُرزَق بولَد آخر، مع أنّ الأطبّاء أكّدوا لنا أنّ ذلك ممكنٌ بعد أن صارَ طريق الإنجاب سالكًا، وقبِلنا بالأمر الواقع بكلّ طيبة خاطر مع أنّنا أحبَبنا أن يحظى ابننا بأخ أو أخت كي لا يشعُر بالوحدة. إلا أنّ مروان كان مُحاطًا بالأصدقاء طوال حياته فلَم يتأثّر بكونه ابنًا وحيدًا.

دخَلَ مروان الجامعة وكان مُستقبله واعدًا، بفضل اجتهاده الدائم وثقافته الواسعة التي جمعَها مِن جرّاء قراءاته العديدة وحبّه للمعرفة. وهناك تعرّفَ إلى التي ستُصبح لاحقًا كنّتنا، وهي إنسانة تُشبهُه بكلّ شيء. كانت حياتنا تسير بهناء تام... إلى حين راودَني ذلك الحلم.

فذات ليلة، رأيتُ حلمًا غريبًا للغاية، لِدرجة أنّني خلتُ نفسي في اليقظة لولا مُحتواه الذي كان حتمًا غير حقيقيّ. فقد رأيتُ نفسي واقفًا في مكان شبيه بالمغارة، ورحت أبحثُ عن مخرج بعد أن بدأ نفَسي يضيقُ. وإذ بي أرى نورًا ساطعًا في آخر المغارة، فتوجّهتُ إليه ظانًا أنّه المخرَج. لكنّه كان ضوءًا وليس شيئًا آخر. شعرتُ بدفء عميق، فاختفَت حاجتي للخروج حين سمعتُ صوتًا يقولُ لي:

 

ـ سأستعيدُ أمانتي منكَ يا توفيق.

 

ـ أيّة أمانة؟

 

ـ سأستعيدُ ابنكَ، فهو لي.

 

ـ لا! كلّ شيء إلا مروان! أرجوكَ!

 

ـ إنّه لي وسآخذه... فمكانه معي.

 

ـ أرجوكَ! أتوسّلُ إليكَ!

 

ـ لقد قلتُ كلمتي.

 


ـ أبقِه معي ولو قليلاً... إلى حين يتزوّج ويُنجِب على الأقل... أجل، أترُك لي تذكارًا منه بشكل حفيد لأشعر أنّه لا يزال معنا.

 

ـ أنتَ قلتَها: إلى حين يُنجِب.

 

إستيقظتُ مِن النوم مذعورًا، وركضتُ أتفقّد مروان فوجدتُه غارقُا في النوم. إرتاحَ بالي وهززتُ برأسي مُبتسمًا، فذلك كان مُجرّد حلم مُزعج. فلا بدَّ أنّ لِتعلّقي بوحيدي وخوفي عليه دخلاً بذلك الحلم المُزعج. لَم أُخبِر زوجتي بالأمر طبعًا، فما النفعَ مِن أن أُشغل بالها بموضوع لا أساس له.

تخرَّج مروان بامتياز ووجَدَ عملاً بسرعة وتزوّجَ مِن حبيبته. كلّ شيء كان يجري كما كان مُقرّرًا وكنتُ سعيدًا لِما آلَت إليه الأحداث. كنتُ قد نسيتُ ذلك الحلم طبعًا إلى حين علِمنا أنّ كنّتنا حامل. فجأة استرجعتُ مُساومتي مع الضوء، طالبًا منه ترك مروان معنا إلى حين يأتي بطفل إلى هذه الدنيا. خفتُ كثيرًا وتمنَّيتُ ضمنًا لو لَم تحمل زوجته، لكنّني طردتُ تلك الفكرة بسرعة مِن رأسي ناعتًا نفسي بالسخيف.

بعد حوالي الشهر، بدأَ ابني يشعرُ بدوار حادّ وألَم في الرأس. ردَدنا الأمر إلى ساعات عمله الطويلة، وهو أخَذَ بعض الأقراص كما قد يفعلُ أيّ إنسان آخر. لكن حين سقطَ مروان أرضًا في المكتب فاقدًا وعيَه، أدرَكنا أنّ المسألة خطيرة.

أجرِيَت لابني الفحوصات والصوَر اللازمة في المشفى وتبيَّنَ أنّ له ورمًا في الدماغ. يا إلهي! وحيدي! وحين استَيقظَ مروان أخيرًا، أطلَعوه على حقيقة وضعه وقالوا له إنّ عليه الخضوع لِعلاج مُكثّف، لكنّ فرصته بالنجاة كانت ضئيلة. تعامَلَ ابني مع الخبَر بِحكمة ورباطة جأش على خلاف زوجته وأمّه. عندها أدركتُ أنّ حلمي قد لا يكون مُجرّد حلم لكنّني بقيتُ آملُ أن أكون على خطأ، فقط ليعيشَ مروان ويشيخَ ويُنجب عشرة أولاد! صلَّيتُ كثيرًا وكذلك كلّ مَن أحبَّ مروان، ووقفنا إلى جانبه طوال مدّة علاجه الصعب والطويل. في تلك الأثناء، كان بطن كنّتي يكبُر وكذلك خوفي.

رحتُ أستشيرُ رجال دين عن حلمي وعن الذي يجري. البعض منهم طمأنَني والآخر ذكّرَني بالنبيّ إبراهيم عليه السلام الذي طلَبَ منه الله تقديم ابنه ذبيحة له. لكنّ الله عفا النبيّ مِن قتل ابنه وقد يعفيني أنا الآخر مِن العَيش مِن دون مروان.

وتأرجحَت حالة ابني الصحيّة بين الجيّدة والسيّئة باستمرار، ولَم يعرِف الأطبّاء إن كان يتجاوب مع العلاج أم لا. واقترَبَ موعد ولادة حفيدي فانتابَني هلَعٌ لا مثيل له. كدتُ أن أصرخ لكنّتي: "إيّاكِ أن تلدي طفلكِ! إبقِه في بطنكِ أرجوكِ!"، لكنّني لَم أفعَل طبعًا بل بقيتُ مُترقبًّا وقلبي يدمَع حزنًا.

جاءَت كنّتي بمولودها إلى المشفى ليراه أبوه، وكان المشهد مؤثّرًا للغاية إذ أنّ الطاقَم الطبّي بأسره دخَلَ الغرفة وذرفوا الدمع، لأنّهم كانوا يعلمون أنّ ذلك الطفل البريء سيكبرُ مِن دون أب... وتوفّيَ مروان في الليلة نفسها.

حين وصلَني الخبَر، نظرتُ إلى السماء رافعًا يدًا مُهدِّدة ولاعنًا لِما حلّ بي. كيف حُرِمتُ مِن وحيدي؟ لماذا لَم يعُد الضوء عن قراره كما فعَلَ مع النبيّ إبراهيم عليه السلام؟ فلطالما كنتُ رجلاً صالحًا ولَم أؤذِ أحدًا على الإطلاق. لماذا هو لا يأخذُ أولاد هؤلاء القتَلة والنصّابين وذوي النفوس السوداء؟ ما هذه العدالة التي نقرأ عنها في كتابنا الكريم؟ الله رحوم؟!؟

بقيتُ حافظًا لنفسي ما دارَ بيني وبين الله مِن حديث في ذلك الحلم البغيض بعد أن صرتُ مُتأكّدًا مِن أنّه لَم يكن حلمًا. وماذا تُريدوني أن أقول لزوجتي وكنّتي ولاحقًا حفيدي؟ أنّني كنتُ على علم بموت مروان وحدّدتُ بِنفسي توقيت رحيله إلى حين يأتي مولوده؟ مَن سيفهم أنّ الله كان سيأخذه على الفور، وأنّني ربحتُ له بعض الوقت وأعطيتُه فرصة ترك أثَر في هذه الدنيا بشكل طفل؟

توقّفتُ طبعًا عن الصلاة، وفي تلك السنة لَم أصُم بل ادّعَيتُ أمام أفراد عائلتي بأنّني أتعاطى الأدوية التي تمنعُني مِن الصيام. لكن في داخلي، كرهتُ خالقي، حتى لو سيُسبّبُ لي ذلك دخول جهنّم، فحياتي مِن دون وحيدي كانت بالفعل عذابًا لن يزيد عليه أيّ سعير نار مهما كان قويًّا.

 


أسمَت كنّتي ابنها أيضًا مروان بمحاولة منها لإبقائه حيًّا في مولوده، الأمر الذي فرَّحَ قلبي، فكان بإمكاني التصوّر بأنّ حفيدي هو صغيري حتى ولو بملامح مُختلفة بعض الشيء. إلا أنّني لَم أكن مُستعدًّا لأن أخسرَه هو الآخر! لا! لن يأخذه منّي أحدٌ!

قد تكون كلماتي هذه قد خدَشَت شعوركم وولّدَت استنكاركم، ولن يفهمني، ولو بعض الشيء، سوى الذي فقَدَ ولدًا أم ابنة. لكن مَن منكم كان يدري مُسبقًا بالأمر؟ مَن منكم نظَرَ إلى ابنه كلّ يوم وقلبه مليء بالخوف؟ خوف مِن أن تتوقّف دقّات قلب طاهر وبريء؟

كبُرَ مروان الصغير ليُصبح تمامًا كأبيه مِن حيث الشكل والشخصيّة والنفسيّة، إلا أنّ حقدي لَم يخفّ، فقد كان مصبوغًا بشعور بالظلم الكبير. وفي إحدى الليالي، إستيقظَت زوجتي على بكائي الذي أرَدتُه، ككلّ ليلة، صامتًا. حثَّتني على التكلّم لِدرجة أنّني لَم أعُد قادرًا على إخفاء الحقيقة عنها. فأخبرتُها عن حلمي وهي بكَت معي بعد أن تعانقنا. ثمّ نشّفَت دموعها ووضعَت يدها على رأسي، وقالت لي بصوت واضح:

 

ـ لقد باركَنا الله، يا توفيق.

 

ـ ماذا؟!؟ تسمّين موت مروان بركة؟!؟ هل فقدتِ عقلكِ أم أنّكِ لا تحبّين ابننا؟

 

ـ بل أحبّه ربّما أكثر منكَ... أنا حملتُه في بطني وأرضعتُه وكَبّرتُه في أحضاني يا توفيق، ولن تعرف أبدًا كيف يكون الرابط بين أمّ وولدها. أجل، لقد باركَنا الله بأخذه إليه. ماذا قلتَ لي عن سبب أخذه منّا؟

 

ـ قال لي الله في الحلم إنّ مكان مروان معه.

 

ـ تمامًا... ومكان مَن يكون مع الله؟ أجِبني.

 

ـ الصالحون.

 

ـ تمامًا... ويا لِشرفنا الكبير أن يكون الله قد اختار مروان ليكون إلى جانبه! لا أحد يعيشُ إلى الأبد يا توفيق، وموت مروان محتوم أن يحصل.

 

ـ أجل، لكن ليس قبل أن أرحَلَ! لا يجِب على أي ابن أو ابنة أن يرحلوا قبل والدَيهم! هذا ظلم!

 

ـ لا يسعُنا ولا يجدرُ بنا فَهم دوافع خالق الكون. مَن نحن لِنستوعب إرادته؟ نحن كائنات ضعيفة ومليئة بالتناقض والرغبات الصغيرة. ما أخبَرتني إيّاه الليلة قد أراحَ قلبي لِدرجة لن تتصوّرها مُمكنة.

ـ

أراحَ قلبكِ؟!؟ لقد جننتِ!

 

ـ بل أعرفُ الآن أين هو ابني، وما مِن مكان أفضَل مِن العودة إلى الله! أنا مُتأكّدة الآن مِن أنّه بسعادة مُطلقة ولا بدّ له أن يكون حزينًا على حزننا ومُستاءً مِن موقفكَ مِن الله، يا توفيق. إبننا اختيرَ مِن بين العديد وروحه تعيش اليوم في سلام تام... أليس ذلك هدفنا مِن إطاعة الله والعمَل حسب تعاليمه؟

 

ـ بلى.

 

ـ ولقد بلَغَ مروان هذا الهدف بسنوات قليلة. كَم أنّه محظوظ! وأنا مُتأكّدة مِن أنّ تلك البرَكة لمسَتنا جميعًا ولا يجب إضاعتها بمشاعر دنيويّة. عُد إلى إيمانكَ الذي يجدرُ به أن يكون أقوى بعد أن ظهَرَ لكَ الله، ولو في الحلم، وتحدّثَ معكَ. فكان بإمكانه أخذ ابننا مِن دون إنذار كما يحدثُ غالبًا.

 

ـ أنتِ على حقّ... لَم أفكّر بذلك... كنتُ مُنهمكًا بخوفي واستنكاري.

 

ـ سيأتي يوم ونرى مروان مُجدّدًا، لكن حتى ذلك الحين علينا تنظيف روحنا، لنستحقّ العودة إلى الله والعَيش معه حياة أبديّة.

 

نِمنا مُتعانقَين وفي الصباح عدتُ إلى الصلاة. شكرتُ ربّي على إنذاري بموت ابني وعلى اختياره له، فبالفعل كنّا محظوظين. أطلعتُ كنّتي على حلمي وكانت ردّة فعلها كردّة فعل زوجتي.

ومنذ ذلك الوقت، عشنا مُتماسكين جميعًا وسط جوّ مِن الإيمان والفرَح. نسيتُ حزني ونقمتي وحلَّت مكانهما سعادة سكنَت كياني كلّه.

مروان الصغير صارَ شابًّا خلوقًا كأبيه وأنا مؤمِن جدًّا بأنّني، في آخر المطاف، سأجتمعُ مِن جديد مع ابني الحبيب الذي سبقَنا إلى دنيا الحق.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button