لم أدرك ما كان يحصل إلاّ عندما وجدتُ نفسي وسط حفلة زفافي مِن أُمَيمة ورأيتُ مدى غلطتي في إختيار شريكة حياتي. صحيح أنّني كنتُ أعرف أنّ أهل أُمَيمة أغنياء ولكن ليس إلى هذا الحد مِن البزخ والتشاوف.
وما يجب توضيحه أنّني حين تعرّفتُ إليها لم أشكّ ولو للحظة أنّها تملك هذا الكمّ مِن المال لأنّها كانت تسير على قدَمَيها وبَدَت لي تائِهة. فأوقفتُ سيّارتي بالقرب منها وعرضتُ عليها توصيلها فقبِلت بسرور وجلسَت بالقرب منّي وأخبَرَتني أنّ مركبتها تعطّلَت وأنّ بطاريّة هاتفها فارغة. فأوصلتُها إلى منزل صديقة لها. وقبل أن تترجّل كتبتُ رقم هاتفي على ورقة وأعطتيتُها إيّاه لتتّصل بي إن إحتاجَت لأيّ شيء. وعندما رحلَت لم أكن أعلم أي شيء عنها حتى إسمها. وللحقيقة سرعان ما نسيتُ أمر هذه الفتاة وعدتُ إلى حياتي العاديّة وإلى عملي البسيط في شركة تجاريّة. ولكن بعد أقل مِن أسبوع تلقيّتُ إتّصالاً مِن التي ساعدتُها. شكَرَتني بحرارة وعرَضَت عليّ أن نلتقي في مطعم. قبلتُ بسرور أن أراها لأنّها كانت جميلة ومهذّبة وجلسنا سويّاً حول مائدة مليئة بالطعام نتحدّث عن أشياء مختلفة. علِمتُ منها أنّها في الجامعة وعلى وشَك نيل شهادتها في العلوم السياسيّة وأنّها إبنة وحيدة لوالدَين كبيران في السنّ. وعندما إنتهَينا وطلبتُ الحساب أصَرَّت أن تدفع هي عربوناً للمعروف الذي أسدَيتُه لها. في البدء لم أقبل ولكنّها بقيَت تصرّ فسكتُ بعدما وعَدَتني أنّها ستكون المرّة الوحيدة. لم أكن معتاداً أن تدفع فتاة عنّي ولكنّني فهمتُ دوافعها. وإفترقنا ولم أعد أسمع شيئاً عنها أو منها. وعادَت وإتصَلَت بي بعد أسبوع وإلتقينا في مكان إخترتُه أنا وأمضينا وقتاً ممتعاً. وسرعان ما بدأنا نتواعد بإنتظام حتى أن سكَنَت تفكيري كلّه وشعرتُ أنّها المرأة المناسبة لي. فطَلَبتُ أن ألتقي بأهلها وأكلّمهما عن نيّتي بالإرتباط بها وشعرتُ بإنزعاجها للأمر:
ـ أجل ولكن...
ـ ما الأمر يا أُمَيمة؟ ألا تريدينَني؟
ـ بلى...
ـ لذا أريد أن أزوركم في بيتكم... هناك تقاليد لا أريد أن أتخطّاها... أحترمكِ كثيراً وأودّ أن يعلم الجميع ذلك.
وكلّمَت والدَيها وأعطَتني موعداً بعد بضعة أيّام. ومرَرتُ ببائع الزهور وأخذتُ معي باقة جميلة لوالدتها وقصَدتُ العنوان الذي أعطَتني إيّاه حبيبتي. وعندما وصلتُ إلى هناك خلتُ أنّني أخطأتُ في الشارع لأنّني وقفتُ أمام منزلاً ضخماً يشبه القصور فإتصلتُ بأُمَيمة لأتأكدّ مِن العنوان ولكن تبيّن أنّني كنتُ قد وصلتُ فعلاً. وإنتابَني شعور مزعج وأعترف أنّني أرَدتُ الرحيل وبسرعة ولكنّني لم أستطيع خذل حبيبتي. وقرعتُ الجرس وفتَحَت لي خادمة ثم لَحِقَت بها أخرى التي قادَتني إلى صالون ضخم يوازي مساحة منزلي إن لم يكن أكبر حتى. جلستُ على كرسيّ جميل وبدأتُ أتفحّص الأثاث الفاخر وأفكرّ أنّني في المكان الغير مناسب. ودَخَلَ أب أُمَيمة ووقفتُ لألقي التحيّة عليه ومِن ثمّ جاءت الوالدة بصحبة أُمَيمة التي كانت بقمّة السعادة. ولأنّ الإنزعاج كان بائناً عليّ بدأَت حبيبتي بالكلام عنّي وسرعان ما تلطّفَت الأجواء بيننا جميعاً.
ولكن عندما سألَني الوالد عن طبيعة عملي وقلتُ له أنّني موظّف عاديّ قالَت لي الوالدة:
ـ لا تخف... ما يهمنّا هو سعادة إبنتنا... على كل حال لطالما فعَلت ما تريده... ولم نرفض لها طلباً منذ ما كانت صغيرة... هي إبنتنا الوحيدة وجاءَت بعد سنين طويلة...
وبعد ما إنتهينا مِن الكلام رافقَتني أُمَيمة حتى الباب وإستدَرتُ وقلتُ لها:
ـ لم تقولي لي أنّكِ بهذا الثراء... لو علمتُ بذلك...
ـ لهذا السبب لم أرد إخباركَ... خفتُ أن تهرب منّي.
ـ لن أستطيع تأمين حياة كهذه لكِ...
ـ أعلم ذلك... لا أريد أن توجع رأسكَ بأمور ثانويّة... المهمّ أنّنا نحبّ بعضنا.
ـ إن كنتِ تعتقدين أنّني سأقبل بمال والدَيكِ فأنتِ مخطئة.
ـ أعلم ذلك... ولا يهمنّي شيء إلاّ أن أكون معكَ... المال ليس مهمّ.
وظنّنتُ فعلاً أنّنا سنعيش ببساطة إلى حين بدأنا بتحضير الزفاف وأخبرَتني أُمَيمة أنّ والدَيها يريدان الإهتمام بالأمر. وقَبلَ أن أعارض أضافَت أنّهما يودّان ذلك فعلاً لأنّها كل ما لدَيهما وينتظران تلك اللحظة منذ ما وُلِدَت ولا يجب حرمانهما مِن ذلك الحلم. ووافقتُ لأنّني لم أتصوّر ما كان يتحضّر. ولكن حين دخلتُ مع عروستي قاعة الزفاف ورأيتُ مئات المدعوّين وسط زينة خياليّة وطعام لم أرَه أو أذِقه بحياتي إنتابَني شعور بالخوف واليأس وأدركتُ أنّني أوقعتُ نفسي في مصيبة كبيرة. وتلقَينا التهاني مِن الجميع وجاء مطرب مشهور وغنّى لنا ورأيتُ كومة الهدايا والظروف المليئة بالمال على الطاولة ولكنّني لم أقل لزوجتي شيئاً خوفاً مِن أن أفسد عليها فرحتها.
وكنتُ سأتحمّل كل ذلك لولا سمعتُ حمايَ يقول لِصديق له:
ـ العريس مِن عائلة معروفة... والده يملك نصف نيجيريا...لديهم مناجم مِن الماس... أمّا هو فيُدير كل شيء مِن هنا... أجل... العريس مناسب جداً لنا.
وسكَنَني غضباً كبيراً لأنّهم يخجلون منّي ومِن حالي. عندها أخبرتُ أُمَيمة بالذي سمعتُه فأجابَت:
ـ وإن يكن؟ هل مِن الأفضل أن يعلم الناس أنّكَ فقير؟
ـ لستُ فقير! أعيش حياة عاديّة!
ـ أجل... ولكن بالنسبة لنا أنتَ فقير... لا تخف... سيعطيكَ أبي ما يكفي لتكون غنيّاً.
ـ إتفقنا أن نعيش ببساطة...
ـ فقراء؟ أهذا ما تعنيه؟ لا... لا أستطيع ذلك أبداً... لم أكن فقيرة يوماً ولن أكون! الموت أفضل!
ـ إذاً كذبتِ عليّ عندما وافقتِ أن نعيش مِن دون مال!
ـ لا بل لم أشأ مضايقتكَ... لا تفسد عرسنا علينا... أرجوكَ...
وتركَتني وذهبَت إلى المدعوّين وبقيتُ وحدي على مائدة الشرف. وبعد ذلك اليوم بدأت المشاكل بيننا لأنّ أُمَيمة كانت تصرّ على أن نعيش في منزل جميل بدلاً مِن شقّتي الصغيرة وأن يكون لديها الخدم والحشَم. ولكَي تضغط عليّ إمتنَعَت مِن ممارسة الجنس معي فبقيَ زواجنا عذريّاً والحلّ الوحيد كان أن أقبلَ أن يملأ أبوها حسابي في المصرف. ولكنّني كنتُ أعلم أنّني لو وافقتُ على ذلك سأكون عبداً لهم جميعاً وسأفقد كرامَتي إلى الأبد. وأزعجهم عنادي كثيراً حتى أن دَعاني الأب إلى مكتبه في مبنى ضخم وسط المدينة وسألَني لماذا أعذّب إبنته هكذا فأجبتُه أنّني لن آخذ فلساً واحداً مِن أحد وإن كانت إبنته غير قادرة على العيش معي حسب ظروفي فَمِن الأفضل أن نفترق. نظَرَ إليّ والدها وقال لي:
ـ تذكرّني بنفسي عندما كنتُ شابّاً... علّمَتني الحياة أن لا أحداً يحبّ الفقر والفقراء... لم أكن ثريّاً فيما مضى وعملتُ جهدي لأبلغ هذه الحال... إسمعني جيّداً... أُمَيمة هي كل شيء بالنسبة لي ولن أسمَح أن يزعجها أيّ كان... لديّ معارف كثيرة في شتّى المجالات وإن شئتُ أستطيع جعلُكَ أفقر ممّا أنتَ اليوم وإلى الأبد... لِذا أنصحكَ بأخذ المال منّي والإنتقال إلى منزل يليق بِوحيدَتي.
ـ أوّلاً لستُ فقير... لديّ شقة وعملاً وأعيش كمعظم الناس... ثانياً هناك أشياء لا يشتريها المال كعزّة النفس والكرامة... ثالثاً لا أوافقكَ الرأي عندما تقول أنّ لا أحد يحبّ الفقر والفقراء... قد لا تحبّهم أنتَ أو كل هؤلاء الذين يحاوطوكَ... يكفي أن يحبّني الله لأنّ ذلك هو ما يهمنّي... ورابعاً لست خائفاً منكَ أو مِن أمثالكَ لأنّني أستطيع البدء مِن جديد ساعة أشاء فلا داعي للتهديد.
ـ ألن تغيّر رأيكَ؟
ـ لا.
ـ حسناً... يمكنكَ البدء بمعاملات الطلاق.
- كنتُ سأفعل ذلك حتى لو لم تطلب... لم أعد أريد أبنتكَ ولا عائلتكم كلّها!
والغريب في الأمر أن أُمَيمة لم تحاول حتى أن تختبر عيشتي ولو لفترة قصيرة ولم تمانع أبداً أن أطلّقها فبعد حديثي مع أبيها إختفَت كليّاً مِن حياتي وكأنّني كنتُ بالنسبة لها حلماً مزعجاً إنتهى عندما إستفاقَت.
وعدتُ إلى نقطة الصفر مسرور أنّني لم أعد مُجبراَ على سماع الأكاذيب والتهديدات والإهانات. واليوم أنا متزوّج مِن إمرأة محبّة وقنوعة وأم رائعة لإبننا. ربمّا عليّ أن أشكر أُمَيمة وأهلها على ما فعلوه لأنّ بِفضلهم فهمتُ أنّ الحبّ مهمّ ولكنّه ليس كلّ شيء بل هناك التفاهم والتكاتف والتضحية مِن أجل بناء حياة سعيدة.
حاورته بولا جهشان