كانت عمّتي، رحمها الله، على حق عندما قالَت لي بعَيد موت زوجي: "يا صغيرتي... غدَرَ الموت برجل حياتكِ وظلَمكِ وأولادكِ الصغار. وبدءًا مِن اليوم، ستشعرين على كاهلكِ بوزن مسؤوليّة لن تنتهي، وعليكِ إيجاد ما يُخوّلكِ تأمين مستقبل بكامله لصغاركِ وليس فقط القوت لهم."
ـ أعلم ذلك يا عمَتي ولكن ليس لدَيّ مؤهّلات لذلك... فأنا تركتُ المدرسة باكرًا ولم أعمل بحياتي.
ـ سأعلّمكِ مهنة الخياطة التي مارستُها فترة طويلة قبل أن... أفقد بصَري... إنّها مهنة شريفة ولكنّها تأخذ منكِ أكثر ممّا تعطيك... تأخذ منكِ أيّامكِ ولياليكِ وبصركِ وصحّتك... هل أنتِ مستعدّة لِدَفع ثمَن كهذا؟
ـ أجل إن كان ذلك سينشل أولادي مِن العوَز.
كانت عمّتي على حقّ، لأنّني اليوم تعبة جدًّا لا بل مُنهكة، وتعزيتي الوحيدة أنّني استطَعتُ تربية أولادي كما يجب، ولستُ نادمة على شيء.
في البدء كنتُ أُصلِحُ الملابس، أي أقصّر الفساتين أو أضع سحّابات للسراويل، ومِن ثمّ صِرتُ أقصّ القماش لأصنع منه ثيابًا. لم يكن لدَيَّ بعد مكينة للخياطة، وكنتُ أقوم بكل شيء بيَدَيّ كي أصرف القليل الذي كنتُ أجنيه على صغاري. ومع الوقت أصبحتُ أكثر براعة وكثُرَت زبوناتي وطلباتهنّ.
أدخلتُ جميع أولادي مدارس جيّدة، واستأجَرتُ محلاً في شارع جميل مِن العاصمة. كنتُ قد تغلّبتُ على الفقر وبشاعته. وكان حلمي أن يأتي يوم أتوقّف عن العمل كي يتسنّى لي التمتّع بحياتي ولو قليلاً، فحتى ذلك الحين لا أذكر أنّني خرجتُ يومًا إلى مطعم أو مقهى أو حتى إلى دار سينما، فقد كنتُ أخيط وأطرّز طوال الوقت وأشعر أنَني لو توقّفتُ قليلاً، سأحرم أولادي مِن أشياء يُريدون شراءها.
إلى حين دخلَت سهى ابنتي الكبرى الجامعة وقالت لي:
ـ بعد حوالي ثلاث سنوات سأكون حاملة شهادة تسمح لي بالعمل وجني ما يكفي لترتاحي قليلاً، وسيلحق بي أخوَتي إلى مجال العمل... لقد ضحَّيتِ بما فيه الكفاية... أنظري إلى ظهركِ كيف أصبَحَ مقوّسًا، ناهيكِ عن ألم مفاصلكِ وضعف نظركِ... جهّزي نفسكِ يا ماما لدخول الحياة مِن بابها العريض.
إمتلأت عَيناي بالدموع، وعانقتُ ابنتي الحنونة شاكرة ربّي على ذريّة صالحة ومحبّة. ولكنّ متاعبي كانت على وشك أن تبدأ، ولم أحسب أبدًا حساب الذي كان سيحصل لحظة ما قدّمَت لي سهى شابًا لطيفًا قائلة:
ـ ماما... أعرّفكِ إلى ناجي. نحن متحابّان وهو يريد طلَب يدي منكِ.
ـ مبروك يا حبيبتي ولكن لماذا لم تخبريني بوجود أحد في حياتكِ؟
ـ سامحيني ولكنّني أعلم كم أنّكِ تحملين همّنا ويكفيكِ ما مرَرتِ به... كوني على ثقة مِن أنّكِ أجَدتِ تربيتي.
كانت فرحتي لا توصَف، واكتشفتُ على مرّ الأيّام أنّ ذلك الشاب الثريّ كان يُناسب فعلاً ابنتي ويُحبّها ويحترمها كثيرًا. ولكن ما لم أكن أعرفه هو أنّ ناجي نسيب حنان جارتي في المبنى نفسه حيث المحل، وأنّ تلك المرأة كانت تنوي تزويجه لابنتها. والذي أزعجَها أكثر مِن أيّ شيء هو أن ناجي فضّل ابنة خيّاطة على ابنتها التي كانت وريثة ثروة كبيرة.
وفي أحد الأيّام، رأيتُ جارتي واقفة أمام باب محلّي تنظر إليّ بمقت واضح. سألتُها إن كان باستطاعتي مساعدتها فضحِكَت عاليًا قائلة:
ـ أنتِ تساعديني؟ أنتِ خيّاطة وأنا السيّدة حنان!
ـ لأنّني خيّاطة أستطيع مساعدتكِ بخياطة فستان لكِ يا... سيّدتي.
ـ لا ألبس ممّا تصنعينَه فلدَيّ مصمّمي الخاص.
ـ ماذا تريدين منّي إذًا؟
ـ أريد أن تقولي لابنتكِ أن تنزع مخالبها عن ناجي فهو لابنتي.
ـ ناجي يُحبّ سهى وهي تحبّه وسيتزوّجان قريبًا.
ـ سنرى ذلك!
ضحِكَت مجدّدًا ورحَلَت. إستأتُ كثيرًا، ولكنّني نسيتُ أمر تلك المرأة بسرعة، إلا أنّها لم تنسَ أمري.
فبعد أيّام قليلة بدأت بضع زبونات بإلغاء مواعيدهنّ معي بحجج مختلفة. إستغربتُ للأمر ولكنّني لم أرَ أبعادَه إلى حين قالَت لي إحداهنّ عبر الهاتف:
ـ لن تطأ قدمي مكانًا كمحلّكِ... أنا امرأة شريفة، على عكسكِ!
وأقفلَت الخط قبل أن يتسنّ لي الردّ أو الاستفسار. لم أنَم تلك الليلة لكثرة امتعاضي، فلم يحدث مِن قبل أن أُهِنتُ هكذا، خاصّة أنّني قضيتُ حياتي بمخافة الله وربَّيتُ أولادي حسب تعاليمه.
وبدأ الناس يتفادوني أو ينظرون إليّ بغضب واضح ويتهامسون عليّ، فتأكّدتُ حينها أنّ سمعتي على المحك، ولكنّني لم أفهم لماذا إلا عندما جاءَت الشرطة تطرق باب محلّي.
دخَلَ الضابط صارخًا:
ـ أين تقيمين "سهراتكِ"؟
ـ لم أفهم قصدكَ يا حضرة الضابط.
لم يُجب بل فتَحَ بابًا في آخر المحل مُعتقدًا أنّ وراءه غرفة... وتفاجأ بالحمّام. سَكَتَ بضع ثوانٍ ثم قال:
ـ أين الستائر؟
ـ أيّة ستائر؟
ـ الستائر التي تنزلينَها على الواجهة.
ـ لا أضع شيئًا على الواجهة. ولِما أفعل، فذلك قد يُغطّي المنكين التي أعرض عليها الفساتين... هل لكَ أن تشرح لي ما يحصل فهذا مِن حقي.
ـ حسنًا... جاءَتنا شكوى بأنّكِ تدعين رجالاً إلى المحل لملاقاة نساء، وتقيمين حفلات دعارة هنا.
ـ ماذا؟!؟
كِدتُ أقعَ أرضًا، وركَضَ إليّ الضابط وساعَدني على استعادة توازني. وتابعَ:
ـ لكنّني لا أرى أنّ لدَيكِ مكانًا للقيام بما يتّهمونكِ به... المحل كلّه ظاهر للعيان ولا وجود لغرفة سريّة... سيّدتي هل لدَيكِ أعداء؟
ـ بالطبع لا! لا أعرف أحدًا يملك في قلبه هذا الكم مِن الشر.
ـ هل استاء منكِ شخص في الآونة الأخيرة؟
ـ لا يا حضرة الضابط... أو بلى... ولكن... لا أعتقد...
ـ إحكي لي وسأقرّر بنفسي إن كان الأمر مهمًّا أم لا.
وأخبرتُه بما قالَته لي حنان حين جاءَت إلى محلّي، فهزّ الضابط رأسه ورحَل. وقبل أن يصل إلى الباب إستدار وقال لي:
ـ يا ليتكِ تملكين دليلاً، فالمسألة هي كلمتكِ مقابل كلمتها... فكّري بطريقة لإثبات تورّطها بالإساءة إلى سمعتكِ.
كان يُفهمني بذلك أنّ عليّ الدفاع عن شرَفي بطريقة أو بأخرى ولكنّني لم أعرف كيف. جاءَني الجواب مِن ابنتي سهى التي كانت مستاءَة جدًّا مِن الذي حصل لي، علمًا أنّها لم تخَف على علاقتها بخطيبها لأنّه كان يعلم أنّنا أناس شرفاء وأنّ تلك القصّة ليست سوى إشاعات مُغرضة:
ـ الحل الوحيد، يا ماما، هو أن تحملي تلك الشريرة على الاعتراف بما فعلَته وتسجيل ما ستقوله لكِ... إقصديها في بيتها وعاتبيها.
ـ يا إلهي... لا أدري إن كنتُ قادرة على ذلك... حنان تخيفني جدًّا.
ـ لا تخافي منها بل خافي على سمعتكِ يا ماما... هل يُرضيكِ أن يذهب كلّ ما فعلتِه سدىً؟
ـ بالطبع لا... حسنًا، سأتصرّف.
أخذتُ هاتفي المحمول وأدَرتُ تطبيق التسجيل، وقرعتُ باب تلك المرأة القبيحة التي حين رأتني قالت لي:
ـ جئتِ إليَّ منكسرة... عظيم عظيم... هل أنتِ مستعدّة الآن لاقناع ابنتكِ بالتخلّي عن ناجي؟
ـ أجل، خاصّة بعدما أسأتِ إلى سمعتي... لقد تضّررتُ كثيرًا بسببكِ.
ـ ولَم ترَي شيئًا بعد... فإذا تمسّكتِ بناجي سأزجّكِ بالسجن وأقسم يمينًا في المحكمة بأنّني رأيتُكِ بعَينَيّ تقومين بأفعال غير أخلاقيّة.
ـ تقسمين عن كذب؟
ـ بالتأكّيد وسيُصدّقوني أنا لأنّني امراة مجتمع وأنتِ خيّاطة بسيطة... هيّا، إذهبي لاقناع ابنتكِ بترك ذلك الشاب فهو كثير عليكم.
وهكذا استطعتُ إعطاء التسجيل للضابط الذي قصَدَ على الفور شقّة التي نوَت تدمير حياتي، وأنذرَها رسميًّا بعدما أن جرَّها كالمجرمة إلى التحقيق. ولم يردع حنان أحد سوى زوجها الذي أمَرَها بالتوقّف عن الذي تفعله، لأنّ محاكمة قد تؤذي عمله إلى أقصى حدّ.
إنتصر الحقّ أخيرًا واستطعنا الاحتفال بزواج سهى بسلام.
اليوم أنا جدّة وأمّ فخورة بأولادي الذين أصرّوا على أن أرتاح مِن عملي كخيّاطة. اليوم أقطف ثمار ما زرعتُه بحبّ وتعب.
حاورتها بولا جهشان