كنتُ على علم طبعًا بأنّ الجميع ينتظرُ موتي للحصول على مالي وأملاكي. فلقد بلغتُ الخامسة والتسعين مِن عمري، أي أنّني أطلتُ المكوث في هذه الدنيا، على الأقل بالنسبة لغيري. أقصدُ بذلك أولادي وأحفادي والذين يعملون لدَيَّ ويعيشون في بيتي. في البدء وجدتُ أنّ مِن الطبيعيّ أن أتركَ لمَن أحبُّهم جنى عمري لينعموا به وهم شباب، فما يعوزني كلّ هذا المال حين بالكاد أُبارحُ منزلي؟ ولقد أطلَعتُ منذ سنوات أفراد عائلتي بالتدابير التي أجرَيتُها مِن حيث الميراث القانونيّ والحصَص الإضافيّة التي سينالُها مَن يبقى مِن بَعدي. فعلتُ ذلك لأُريحَ بالَهم بعد أن رأوا أنّني، مِن غير قصد، لا أزالُ حيًّا. فالحقيقة أنّ الحياة كانت كريمة معي، ولقد استفدتُ لأقصى درجة مِن ثرائي. فلَم يبقَ شيء لَم أفعله ولا مكان لَم أذهَب إليه. لِذا كان مِن المنطقيّ أن أمرّر لغيري الشعلة.
لَم أبخَل يومًا على زوجتي وأولادي وأولادهم، فأنا بطبيعتي كريم وأحبُّ المُشاركة، لكنّ ذلك لَم يكن يُوازي المبالغ الطائلة التي تنامُ في حساباتي المصرفيّة، ولا قطع الأراضي المُنتشرة في كلّ أنحاء البلاد وخارجه.
إنتظَروا موتي بفارغ الصبر، خاصّة بعدما بلغتُ الثمانين وماتَت زوجتي الحبيبة. إعتقدوا أنّني سألحقُ بها مِن كثرة حزني، إلا أنّ الله لَم يشأ ذلك وأبقاني حيًّا... وبصحّة ممتازة! لَم يحسبوا حساب الجينات، فوالدي وجدّي عاشا طويلاً، هذا إضافة إلى نمَط حياتي الصحّيّ كَوني نباتيًّا وأمشي يوميًّا، ولَم أمسك يومًا سيجارة أو أشرَب الكحول.
كنتُ على علم بأنّني أطَلتُ الحياة، لكنّني لَم أكن لأشكّ بأنّهم سيُريدون اختصار مدّة انتظارهم. فمشاريعهم وأحلامهم وآمالهم كانت مُرتبطة بذلك النفَس الأخير الذي كان مِن المفروض أن ألفظَه منذ سنوات.
أوّل الطامعين وأشدّهم كان مازن، إبني البكر، مع أنّه نال قسطه مِن الدَلَع والحبّ والإهتمام وخاصّة المال والهدايا. إضافة إلى ذلك، عيّنتُه عندما كبُرَ ذراعي الأيمَن في شركتي وأعددتُه لأخذ مكاني عند تقاعدي.
لكنّ مازن إنسان طمّاع ومعدوم الإنسانيّة. أخوَته هم أقلّ طمَعًا منه لكنّهم ربوا جميعًا على السهولة والكثرة ولَم يكونوا مُستعدّين لفقدان ما تعوّدوا عليه. زوجات أبنائي كانوا ولا يزالوا نساءً سخيفات غرّهنّ إسمي اللامع والثروة التي تأتي معه. وكلّهم تواطأوا ضدّي حين لَم أعد قادرًا على الدّفاع عن نفسي.
كانت أيّامي تقتصرُ على الجلوس على كرسيّ المُفضّل قرب الشبّاك أو في السرير حين يتعبُ جسدي. أحيانًا كانت تأخذُني حفيدتي بنزهة قصيرة في الحديقة التي أشرَفتُ في ما مضى على زرعها بألف وردة ووردة. فعلتُ ذلك مِن أجل زوجتي الحبيبة لأنّ إسمها كان وردة وكانت وردة بحق. في المساء، كانت العائلة كلّها تجتمعُ حول مائدة العشاء، ولاحقًا في الصالون الضخم للتحدّث ومُشاهدة التلفاز. كانوا جميعهم يسكنون البيت الكبير، بحجّة أنّهم لا يُريدون تركي وحيدًا، لكنّ الحقيقة كانت أنّهم يُريدون العَيش مجّانًا، وما هو أهم، مُراقبتي لمعرفة متى ستأتي ساعة موتي. كانوا كالغربان الذين ينتظرون لحظة وقوع الضحيّة لنهشها سويًّا.
وفي إحدى الليالي، إنتابَني ألمٌ شديدٌ في معدتي لَم أذقه طوال حياتي. علِمتُ على الفور أنّ شيئًا مُريبًا يحدثُ، فطوال خمسة وتسعين سنة كنتُ قد تعرّفتُ جيّدًا إلى جسمي عن ظهر قلب. شيء ما أوحى لي أنّ سمًّا قد دُسَّ بكميّة خفيفة في طعامي أو شربي، لكنّه كان مُجرّد إحساس، فقرّرتُ الإنتباه إلى لأيّة حركة غير إعتياديّة يقومُ بها أحد أفراد عائلتي الكريمة. لِذا طلبتُ مِن الطاهية أن تصعد إلى غرفتي وقلتُ لها: "سلمى... أريدُ منكِ جلبَ وجبات طعامي إلى غرفتي مُباشرةً بعد أن تقومي بطهيه شخصيًّا. لا أريدُ أن يمسّه أحدٌ سواكِ". ومع أنّها أحبَّت سؤالي عن السبب، بقيَت سلمى صامتة ونفّذَت أوامري.
إستغرَبَ الجميع كيف أنّني لَم أعد أتناول العشاء معهم، فشرحتُ لهم أنّ سنّي لَم يعد يسمح لي بمغادرة غرفتي كالسابق وكان عذري منطقيًّا. بعد يومَين، أخبرَتني سلمى أنّ إبني مازن زارَها في المطبخ ليسأل عن طعامي لكنّها أخرجَته بتهذيب. رأيتُ في عَينيّ الطاهية ألف سؤال إلا أنّها بقيَت صامتة. فتلك المرأة كبرَت في بيتي مع أمّها التي كانت طاهية لدَينا قبلها وتعلمُ كَم أنّني أكره الفضوليّين.
مرّ أسبوع مِن دون أن يحدث شيئًا يُذكر، لكنّني سمعتُ في إحدى الليالي تهامسًا في الرواق خارج غرفتي. لَم أستطع أن أفهم تمامًا ما قيل سوى ذكر إسمي و"ماذا سنفعل به؟"، وتعرّفتُ إلى صوت مازن وأخيه الأصغر. ثمّ ساد الصّمت. هل كانت مُخيّلتي تدفعُني إلى تصوّر أشياءً لم تكن موجودة؟ في الصباح، طلبتُ مِن طبيبي الخاصّ أن يأتي لزيارتي وقلتُ له حين صارَ في غرفتي:
ـ أحدهم يُحاولُ قتلي.
ـ ماذا؟!؟
ـ أظنّ أنّهم يدسّون السمّ بكمّيّات خفيفة في مأكلي أو مشربي. ولقد توقّفتُ عن تناول الطعام معهم كلهم.
ـ هل أنتَ مُتأكّد؟ هل أُخبرُ الشرطة بالأمر؟
ـ لا. لِذا طلبتُكَ. أريدُكَ أن تصِف لي فترة نقاهة في إحدى المؤسّسات. لا يسعُني البقاء هنا، فحياتي بخطر. صحيح أنّني عجوز للغاية، لكنّني لا أريدُ أن أموت على يد غدّارين قذرين وناكرين للجميل. سأموتُ حين يأتي وقتي.
ـ سأفعلُ ما تطلبُه منّي لكن دَعني أُخبر أحدًا بالأمر.
ـ لا! فهم أولادي وأحفادي. سأتدبّرُ الأمر، لا تخف.
دخلت مؤسّسة تُعنى بالمسنيّن الأثرياء، أي مكانًا شبيهًا بمجّمع فندقيّ رفيع المستوى. وهناك شعرتُ بالأمان... حتى أن مازن وغيره بدأوا يُرسلون لي المأكولات والحلويات. بالطبع لَم ألمس شيئًا منها لكنّني أسفتُ أن يلحقوا بي إلى ذلك المكان. عندها فعلتُ ما أنقَذَ حياتي: أزلتُ مِن نفوس أفراد عائلتي أي سبب لِقتلي. دعَوت الجميع إلى صالة مِن صالات المؤسّسة التي حجزتُها حصريًّا لنا وقلتُ لأولادي وأولادهم:
ـ عليّ إخباركم بأمر بغاية الأهميّة... لقد قضَيتُ حياتي بالعمل والتطوّر، وبفضل طموحي صارَت لي ثروة طائلة إستفَدتم جميعًا منها منذ ولادتكم، فعشتم حياة جميلة وتعلّمتم بأفضل المدارس والجامعات واشترَيتُ لكلّ منكم بيتًا فخمًا وسيّارات. وحان الوقت ليستفيد منّي مَن هم بحاجة فعلاً إلى مالي.
ـ ماذا تقصد يا أبي؟
ـ أعني الفقراء. وبما أنّني لا أقدرُ أن أُحرمكم مِن الميراث، بعتُ جميع أملاكي وأفرغتُ حساباتي المصرفيّة ووزّعتُ كلّ شيء على المؤسّسات الخيريّة.
ـ ماذا؟!؟ ونحن؟
ـ لدَيكم أعمالكم وأملاككم التي أعطَيتُها لكم، ألا يكفيكم ذلك؟
ـ أنتَ حتمًا خرفٌ! سنرفعُ قضيّة لدى المحاكم!
ـ إفعلوا ذلك وسأرفعُ قضيّة تسميمي لدى القضاء!
إصفرّ وجه إبني البكر وأخيه الأصغر بينما استنكرَ باقي الحضور عاليًا. كنتُ قد كذبتُ بشأن بَيع أملاكي لأعرف مِن ردّة فعلهم مَن المُذنب مِن بينهم.
ثمّ أضفتُ:
ـ أحبُّكم جميعًا وأعرفُ أنّكم أيضًا تحبّوني، لكنّ الجشع قد استحوذَ على قلوب البعض منكم حتى الوصول إلى الجريمة. سأموتُ ساعة أموتُ وليس قبل... على كلّ الأحوال لَم يعد لديكم سبب لرؤيتي ميّتًا، فلَم أعد أملكُ شيئًا. حتى البيت الكبير صار ملك مؤسّسة خيريّة!
خرَجَ الكلّ غاضبًا، وعلِمتُ بعد أيّام أنّهم أخذوا أمتعتهم وغادروا البيت الكبير مُستائين. عندها تمكّنتُ مِن العودة إلى بيتي. قد تقولون إنّني تصرّفتُ بقساوة، إلا أنّني كنتُ مجروحًا مِن أن يتحوّل أولادي إلى مُجرمين بعد كلّ الذي فعلتُه مِن أجلهم. وفي آخر المطاف، لَم أحرم أحدًا مِن الميراث، بل سيقبضون حقّهم حين أفارق الدنيا... على مزاجي!
وللذين قد يظنّون أنّني خرفٌ وقد تصوَّرَ لي أنّ أحدًا يُريدُ تسميمي، فسأقولُ لكم إنّني بكامل عقلي. ولقد أخبرَتني سلمى مُحرجةً بعد أن غادَرت العائلة البيت وصرنا لوحدنا، أنّ ابني مازن طلَبَ منها أن تُمرّر له أطباق طعامي قبل إيصالها لي بذريعة أنّه يُريدُ الاطمئنان إلى أنّها صحّيّة، وعرَضَ عليها المال مُقابل صمتها. لكن عندما رفضَت ذلك، بدأ إبني يصرخ بها ويُهدّدها بالطرد. لكنّ المسكينة ظلّت ترفضُ وهو يصرخُ، إلى أن قالَت له إنّها ستُخبرُ الشرطة بالأمر الذي تجده مُريبًا. عندها هدأ وقال لها بصوت ناعم: "إنسِ ما طلبتُه منكِ، فأنا أريدُ فقط الاطمئنان على أبي... لا داعٍ لأن يتفاقم الموضوع... تابعي عملكِ."
لَم يسأل عنّي أحدٌ بعدما تركوا البيت، وها أنا أعيشُ مع العاملين لدَيّ. وحدها حفيدتي تُخابرُني مِن وقت لآخر. لستُ حزينًا بل أشعرُ فقط بأنّهم خذلوني. على كلّ الأحوال، سيترحمّون عليّ عندما أموتُ ويرثوني!
حاورته بولا جهشان