جلَبَت عائلتي العار لنفسها ولي

لَم أختَر أن أولَد في تلك العائلة، بل فتحتُ عَينَيّ على قوم أصِفُهم بعديمي الأخلاق. وأشكرُ ربّي كلّ يوم لأنّه أعطاني قدرة التمييز وقوّة أخذ القرار الصعب، للوقوف في وجههم كَي لا أصبَح مثلهم. أمّا بالنسبة لهم، فاعتبروا أنّني لستُ واحدة منهم، بل أتشاوَف عليهم وكأنّني أفضَل منهم. وبالطبع كنتُ أفضَل منهم بكثير! فعلى الأقلّ لَم أكن أكذِب وأنقلُ الكلام ولا أٌفسِدُ بين الناس، وما هو أهمّ، لا أستعملُ جسَدي كعملة تبادُل وكَسب للمال أو الخدمات! لكن دعوني أصِفُ لكم عائلتي فردًا فردًا:

أوّلًا والدي، وهو رجُل كسول وغير طموح، عمَله النصب على الناس لينال فتافيت مِن هنا وهناك. ثمّ والدتي، إمرأة معدومة الشفقة ولا تُحبّ أحدًا سوى نفسها، وهي كانت ذات ماضٍ مشبوه، فظروف تعرّفها على أبي بقيَت غامِضة، لكن استطَعتُ استنتاج أمورًا بشِعة للغاية. وكانت هناك شقيقتي ندى، صبيّة لعينة ولعوبة، تستعمِل الدلَع والكذِب والاحتيال لتنال مرادها. كان لها معجبون كثيرون، والله يعلَم ما كان يدورُ بينها وبينهم مِن أمور غير شريفة، فكنتُ أسمعُ كيف تُكلّمهم عبر الهاتف، أيّ بألفاظ بذيئة وحميمة للغاية. وكان لي أخ لكنّه فقَدَ حياته في حادث درّاجة، بينما كانت تطارِده الشرطة بعدما سطا على محلً بقّالة وفرّ مِن المكان بسرعة.

أتروَن الآن ما كنتُ أتكلّم عنه؟ فكان حُلمي الوحيد الإفلات مِن هؤلاء الناس، والعَيش بعيدًا عنهم حياة طبيعيّة مليئة بالحبّ والثقافة والتحضّر. دخلتُ الجامعة مع أنّ الجميع حاوَلَ منعي مِن ذلك تحت حجَج عديدة، ربّما كَي لا أصبَح أفضل منهم. درستُ الحقوق فسخِروا منّي قائلين: "ستتمكّنين قريبًا مِن الدفاع عنّا إن اقتضى الأمر!". لكنّ إنجازي الأكبر، إلى جانب إيجادي لوظيفة في مكتب كبير، كان تعرّفي إلى جاد، رجُل حياتي. وبعد أن زالَ حماس التعرّف واكتشاف الآخَر، حلَّت مكانه الحيرة والخزيّ مِن أن يعرفَ حبيبي مَن هم حقًّا أهلي.

فكان لا بدّ لي أن أُعرّفه عليهم وإلّا ظنَّ أنّني صبيّة لا سنَد لي، لِذا نبّهتُه مُسبقًا قائلة: "إسمَع يا حبيبي... أهلي أناس... مُميّزون... ولقد مرّوا بظروف خاصّة وقاسية... أرجو فقط ألّا تحكم عليّ مِن خلال معرفتكَ لهم". وهو طمأنَني بأنّه يعرفُ كيف تكون العائلات، أيّ مجموعة مِن طباع وشخصيّات مُختلِفة، وأنّه صارَ يعرفُني جيّدًا ويُقدّرني كثيرًا. إلّا أنّه طبعًا لَم يتوقّع أن يرى ما رآه... أيّ أناس معدومي الأخلاق والتهذيب. فلقد استقبلَته والدتي في فستان يُظهِر تفاصيل جسدها، وكذلك شقيقتي. أمّا بالنسبة لأبي، فلقد حاوَلَ التحدّث مع جاد وكأنّه إنسان مُثقّف يفهم بأمور عديدة، لكنّه بدا لحبيبي على حقيقته: رجُل جاهِل يدّعي المعرفة. مكَثَ جاد عندنا أقصَر مدّة مُمكنة، ورحَلَ مِن دون أن ينظر وراءه. خلتُ أنّني لن أراه بعد ذلك وأنّني سأبقى وحيدة وعزباء طوال حياتي.

إلّا أنّ جاد كان شابًّا حكيمًا ومُتفهِّمًا، وهو عرفَ أنّني لا أشبهُ هؤلاء الناس، واقترَحَ عليّ أن يأخذَني للسكن بعيدًا عنهم حين نتزوّج، الأمر الذي أفرحَني إلى أقصى درجة، فهذا ما كنتُ أُريدُه منذ طفولتي. بعد ذلك، صارَ مِن الأسهل عليّ وعلى جاد التواجد عند أهلي وتحمّلهم، ففي آخِر المطاف كنا سنتخلّص مِن عبء وجودهم حولنا في المستقبل القريب.

بدأنا نُحضّر للزواج ونُفتّش عن شقّة، فوجَدناها وفرَشناها، ولقد دفعتُ مِن جَيبي الدفعة الأولى كمُساهمة منّي بزواجنا. لكن في تلك الفترة بالذات بدأ جاد يتغيّر معي. لَم أُلاحِظ هذا التغيّر في البدء، لأنّ خطيبي كان يتعَب كثيرًا في العمَل، لكنّ تلك التغيّرات صارَت أكثر وضوحًا مع مرور الأيّام. فهو بدأ يُعطي الحجَج كَي لا يراني، أو كَي لا نذهب إلى السوق لاختيار ما نحتاجه لشقّتنا. إضافة إلى ذلك، هو صارَ يستعمل جُملة ردَّدَها مرّات كثيرة وهي: "سنرى لاحقًا... فالموضوع سابِق لأوانه"، وذلك بشأن أمور صغيرة وكبيرة. واستَوعَبتُ أخيرًا أنّ حبيبي مُتردِّد بشأن موضوع زواجنا. لكن لماذا بدَّلَ رأيه؟ لو كان أهلي يُزعجونه، لكان قد هرَبَ منذ البداية. هل أنّ أحدَهم قال له شيئًا لتخريب سعادتي؟ الجواب كان لدى جاد، لِذا قرّرتُ أن أسأله عمّا يُزعجه لدرجة تأجيل مشروعنا أو إلغائه.

وهذا كان ردّه: "نحن لا نزال صغيرَين لمشروع كبير كالزواج... ربّما علينا الانتظار قليلًا". أجَبتُه بأنّنا وجَدنا شقّة وبدأنا نفرشها، وكان عليه أن يقول لي ما في باله قبل ذلك. كنتُ مُستاءة كثيرًا، فدارَ بيننا شجار كبير أدّى إلى فسخ جاد خطوبته بي، بذريعة أنّه لَم يكن يعرفُ مدى التباعُد الموجود بيننا ودرجة الغضب التي بإمكاني امتلاكها، وأضافَ أنّه باتَ يخافُ منّي! ماذا؟!؟

بكيتُ كثيرًا وحبَستُ نفسي في غرفتي التي كنتُ أتقاسمُها مع أختي ندى، وهي واسَتني قائلة إنّني سأجدُ عريسًا أفضَل منه قريبًا. للحقيقة، كلامها وتصرّفها معي وقت محنتي أعطى بعض الدفء إلى قلبي، فلَم نكن يومًا مُقرّبَتَين. وهذا الأمر ساعدَني في الأيّام التي تلَت على عدَم الغوص بالكآبة. أمّي هي الأخرى وقفَت بجانبي، فشعرتُ بالذنب على موقفي منها ومِن أختي في ما مضى، واستوعَبتُ أنّ أفراد عائلتنا هم الذين يقفون بجانبنا في آخِر المطاف. عاوَدتُ حياتي الطبيعيّة بسرعة، بعد أن أقنَعتُ نفسي بأنّني أفضل حال مِن دون جاد، إلى حين وجدتُ صدفةً في خزانة ندى... فستان فرَح! حمِلتُ الفستان ودخلتُ به الصالون لأسأل الموجودين بمن فيهم أختي:

 

ـ لماذا لَم أعرِف بالخبَر السعيد؟ ومَن العريس يا أختي العزيزة؟

 

نظَرَ أبي إلى أمّي، وأمّي بدورها إلى أختي، وعمَّ الصمت. كرَّرتُ سؤالي ثمّ فهمِتُ مِن تلقاء نفسي. فشيء في داخلي قال لي إنّ هذا السكوت سببه شيء بغيض للغاية، بغيض لدرجة أنّه لا يجب أن يحدُث. رمَيتُ الفستان في وجه ندى صارخة:

 

ـ مَن هو العريس، أيّتها الفاسِقة؟!؟ مَن؟!؟ تكلّمي وإلّا!

 

ـ لستُ خائفة منكِ، فلا داعٍ للتهديد... عريسي هو جاد، أجل، هو نفسه. وجَدَ جاد أنّني أفضَل منكِ فأحبَّني وقرَّرَ الزواج منّي.

 

ـ ماذا فعلتِ له كَي تُقنعيه؟!؟ لا تُجيبي، فأنا أعرفُ ما تفعلينه مع الرجال أيّتها الـ...!

 

ـ هاهاها! لا يهمّني رأيكِ بي، بل فقط رأي جاد حبيبي. على فكرة، شكرًا على ذوقكِ الرفيع في ما يخصّ الشقّة والفرش، أنا مُتأكّدة مِن أنّني وعريسي سنعيش سعيدَين هناك!

 

أقسمُ أن لولا فرضيّة دخولي السجن لكنت قتلتُها! لَم يتدخّل أحَد خلال حديثي مع أختي، فأدركتُ أنّهم جميعًا مُتواطئون. دخلتُ الغرفة وملأتُ حقيبة ورحَلتُ مِن ذلك البيت الوسِخ. رحتُ إلى جدّتي، إمرأة عجوز وطيّبة، وأخبرتُها ما حدَث لي فبكَت معي. فهي الأخرى عانَت مِن أبي الذي جلَبَ العار لها وللعائلة ولذلك ابتعَدت عنّا لسنوات.

في تلك الأثناء، تمّ عقد قران الحبيبَين وزادَ حزني وضياعي، فلَم أكن أُصدّق ما يحصل وخلتُ نفسي حقًّا في كابوس لعين. عاشَ خطيبي السابق وأختي في الشقّة التي بقيَ جاد يدفعُ أقساطها، وهنّأهما الناس، وهما تصرّفا وكأنّهما لَم يفعَلا أيّ شيء سيّئ على الاطلاق، أيّ وكأنّني لَم أكن موجودة في حياتهما أصلًا.

فقَدتُ رغبتي بالعَيش، وخلّصَني مِن كآبتي أحَد أقرباء جدّتي الذي يسكنُ في الخارج. فذلك الرجُل العجوز عَلِمَ بما حدَثَ لي، فطلبَني إليه بعد أن دبَّرَ لي وظيفة بينما أسكنُ معه في بيته. رحتُ إلى ذلك البلَد مِن دون حماس، واتّضَحَ لي أنّه أفضل شيء حصَلَ لي على الاطلاق. فهناك عشتُ حرّة وسعيدة في بلَد يحترمُ المواطِن ويُعطيه حقوقه كاملة. لَم أعُد أعلَم ما يحدث في بلَدي، سوى ما يختصّ بجدّتي الحنونة، لكنّ الأخبار تصِلُ بسرعة وإلى أطراف الكرة الأرضيّة.

ولا أخفي أنّني وجدتُ لِذّة بما حدَثَ لجاد وأختي، مع أنّه أمر بالفعل دراماتيكيّ ومُقرِف، لكنّني كنتُ بعيدة إلى أقصى حدّ منهم جميعًا، واستطعتُ التمتّع على سجيّتي.

فالواقِع أنّ أختي وجدَت في أحَد الأيّام جاد بوضع غير أخلاقيّ... مع أمّنا! أجل، مع أمّنا! حصَلَ شجار عنيف لأقصى درجة، وكادَت ندى أن تقتل أمّها، فركَضَ أبي بعد أن جاءه اتّصال مِن أختي، لكنّه لَم يفعَل شيئًا، بل هزَّ برأسه قائلًا: "إنّها مسألة نساء، فلا دخَلَ لي بكلّ ذلك". ماذا؟!؟ لاحِقًا، طرَدَت أختي زوجها مِن البيت، ورفعَت عليه دعوى طلاق وسكنَت لوحدها لفترة. ثمّ، ولا أدري كيف ولماذا، وافَتها أمّي ومِن ثمّ أبي وعاشوا كلّهم سويًّا. هلّ أنّ فسقهم لمَّ شملهم، أم أنّها كانت لعبة أعدّوها للاستيلاء على الشقّة بعدما إستوفيَ ثمنها بالكامِل؟ لستُ أدري وكلّ شيء جائز مع هكذا قوم.

على كلّ الأحوال، المُذنب الأوّل كان جاد، فهو الذي تركَني مِن أجل أختي، وهو الذي خانَها مع أمّها. يا لوساخته ووساختهم جميعًا! وكَم أنا سعيدة بوجودي بعيدة عنهم! لَم أعرِف ما حدَثَ لجاد، فقد يكون هرَبَ بعيدًا هو الآخَر ليُخفي عاره عن الناس. أشكرُ ربّي ألف مرّة أنّني لَم أتزوّجه ولم أُنجِب منه لأكتشِف لاحقًا حقيقته!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button