لقد جرّبَني الله بأعزّ ما لدَيَّ، ومَن أنا لأناقش إرادة مَن خَلَقَ السماء والأرض والنجوم والبحار والأشجار والكائنات، ومِن ثمّ عبده الإنسان؟
لقد جرّبَني الله ونزَفَ قلبي على ولدَيَّ، لكنّني بقيتُ صامدًا مِن أجل زوجتي وإبني البكر. بقيتُ أبتسم طوال خمس عشرة سنة بوجه إبنيَّ وهما يتألّمان، لأنّني علِمتُ أنّ القدير اختارَهما ليكونا ملاكَين يُنيران السماء حين تكون مظلمة.
لقد جرّبَني الله وهذه قصّتي:
حين وُلِد التوأمَين، فرحنا كثيرًا لأنّ بمجيئهما كانت قد اكتملَت عائلتنا التي كان قد انضمّ اليها إبننا البكر قبل ثلاث سنوات. إلا أنّ الأطبّاء شخصّوا لرامي ويوسف مرضًا نادرًا لِدرجة أنّ أهل الطبّ لم يتكبّدوا عناء البحث عن علاج له. وقيل لنا إنّهما سيموتان قبل بلوغهما السنة مِن عمرهما. وقَعَ الخبر علينا كالصاعقة، وأخذَنا ننظر إلى ولدَينا بحزن دائم، بانتظار حدوث الفاجعة.
هل أنّ الأطبّاء تسرّعوا بالتنبّؤ بموت الصغيرَين أم أنّ مصيرهما لم يكن قد كُتِبَ بعد؟ فهما لم يموتا بعد سنة، وإعتقدنا طبعًا أنّ معجزة حدَثَّت وأنّ الخطر زال نهائيًّا، لكنّ المرَض كان فعلاً موجودًا وكان يأخذ وقته لتعذيب جسدَيهما.
لن أطيل الشرح عن الآلام الفظيعة التي مزّقَت عظامهما وأعضاءهما طوال سنوات عديدة، لأنّ قصّتي ليست رسالة حزن بل فرح وإيمان. فخلال جلسات قضَيتُها لوحدي أفكّر بالذي يحصل، لم أجد إلا جوابًا واحدًا لتساؤلاتي: إن كانت تلك مشيئة الله، فمِن المؤكّد أنّه يُريد امتحان إيماني وإيمان أفراد عائلتي، حتى المرضى منهم. لِذا أخذتُ قرارًا صعبًا جدًّا وهو قلب الحزن والألم إلى فرح يوميّ، وتقبّل كامل للذي يجري وكأنّه هديّة مِن الله.
كانت زوجتي الأكثر صعوبة بالإقتناع، فعاطفتها فاقَت كلّ شيء آخر، واتهَمَتني بأنّني بلا قلب ولا أكترث لما يصيب توأمَينا لأنّني رجل وكل الرجال سواء. وراحَت تحاضرني عن عاطفة الأم وتفانيها وتضحياتها. إستمعتُ إليها حتى هدأت ومِن ثمّ قلتُ لها:
ـ هما ولدَاي تمامًا كما هما ولدَاكِ، ولن تحبّيهما أكثر وسترَين ما أقصدُه... مِن اليوم وصاعدًا، سأهتمّ أنا بهما وأنتِ بابننا البكر الذي يحق له أن يعيش حياة طبيعيّة، ولو بعض الشيء. سأواكبهما حتى يومهما الأخير وأجعل مِن مشوارهم الأليم إبتهاجًا حقيقيًّا.
ـ أنتَ حقًّا مجنون.
قضيتُ وقتي في المستشفيات وعيادات الأطبّاء، فصحّة ولدَيَّ كانت تسؤ بشكل يوميّ. مِن أين وجدتُ المال لعلاجاهما؟ بمؤازرة الله طبعًا بعد أن قلتُ له: "أنتَ قرّرتَ أن يمرضا، إذًا سأتكّل عليكَ لمساعدتي في إيجاد المال". وهذا فعلاً ما حصل. فبالرّغم مِن أنّني كنتُ عاملاً بسيطًا مِن دون تغطية صحيّة لي ولعائلتي، ومِن دون أيّ مورد باستثناء راتب ضئيل، كنتُ دائمًا أتلقّى مساعدة غرباء أو محسنين ظهروا في طريقي في الوقت المناسب. لن أذكر التفاصيل حفاظًا على سريّة هويّة هؤلاء الناس، إلا أنّني مدين لهم مدى حياتي لأنّهم أعطوني الفرصة للإستفادة مِن بقاء ولدَيَّ على قيد الحياة أطول وقت ممكن لأهيّئهما للرّحيل بسلام تام.
وهكذا كنتُ أجلس مع رامي ويوسف طوال ساعات أقرأ لهما في كتابنا الكريم، وأروي لهما عن عظمة الخالق وحكمته. كانا يعلمان أنّهما سيموتان، لأنّني أخبَرتُهما بذلك بالرّغم مِن ممانعة زوجتي. لكن كان لا بّد لهم مِن أن يفهموا أنّه مِن الضروريّ تقبّل وضعهما وفهمه لتخفّ أوجاعهما، وإلا قضوا حياتهما القصيرة بالاستنكار والرّفض ومقاومة وضع لن يتغيّر.
صارَت أيّامها مليئة بالصّلاة، الأمر الذي ملأ قلبهما بسلام تغلّبَ على الألم. فالجدير بالذكر أنّ مرضهما يأكل الجسد مِن الداخل بصمت وإصرار.
...وفقَدَ رامي نظَرَه، ومع أنّه لم يرَني أبكي لمِا حصَلَ له، فهو شعَرَ طبعًا بضياعي وقال لي: "لا تحزن يا أبي، فلا أزال أراكَ بقلبي". ذُهلتُ لهذا الكم مِن الحكمة، فهو لم يكن قد بلَغَ بعد العاشرة مِن عمره. ساعدَه يوسف على التغلّب على الوحدة التي أُغرَقه فيها الظلام، وتابَعنا مشوارنا مع الله بايمان أقوى مِن قبل. وذات يوم سألتُ رامي إن كان الضرر يُحزنه فأجابَني مبتسمًا: "بالعكس يا أبي... هكذا لا أرى الشر والرذيلة، هكذا أشعر بأنّني مُبارَك". مرّة أخرى أدهَشني نضوجه وشعرتُ بأنّ الله يتكلّم مِن خلاله.
وفي تلك الأثناء كان إبني البكر يُتابع حياته كأيّ ولد آخر، بعد أن فعلنا جهدنا حتى لا يتأثّر بالمرض والحزن، لكّنه كان يجلس معنا حين يُنهي واجباته المدرسيّة للإستماع إلى الصلاة والكلام عن الدين. وبعد أن أنهى دراسته، بعثتُه إلى أقارب لنا في مدينة أخرى ليلتحق بالجامعة. لم أكن أريده أن يكون موجودًا حين يُغادر أخواه الدنيا، فهكذا ذكرى لا تُمّحى مدى الحياة.
حين غادَرَ إبننا وعادَت زوجتي تتفرّغ للتوأمَين، وجَدَت أنّني بقيتُ على وعدي لها، ولمسَت فعلاً مدى صفاوة قلب رامي ويوسف وكَم أنّهما يتلذّذان بكلّ ثانية مِن حياتهما التي كُتِبَت قصيرة لهما.
وفي إحدى الليالي قالت لي: "كَم أنت عظيم يا زوجي، فلم أكن لأفعل نصف ما فعلتَه وتفعله لولدَينا... لدَيكَ القوّة والحنان والصبر... مِن أين أتَيتَ بها؟". لم أجب بل نظرتُ إلى الأعلى مشيرًا إلى أنّ الله هو دعمي وسنَدي الأوحد.
ساءَت حالة التوأمَين بشكل يُشير إلى أنّ النهاية قريبة. قال لنا الأطبّاء إنّ لا لزوم لهما للذهاب إلى المشفى، وإنّه مِن الأفضل أن يقضيا أيّامهما الأخيرة وسطنا.
جلستُ وزوجتي في غرفتهما مدّة ثلاثة أيّام متتالية ولم نغادر جانبَهما لأيّ سبب. وطوال تلك المدّة كنتُ أروي لهما عن الذي ينتظرهما في الجنّة، وكيف أنّ آلامهما ستختفي بلحظة، وكم أنّهما سيكونان سعيدَين في مكان لا مثيل له. وعدتُهما أنّني وأمّهما سنفعل جهدنا لنبقى صالحَين، حتى نتمكّن مِن ملاقاتهما عندما يحين وقتنا، وهما عرفا أنّنا سنبقى على وعدنا.
في آخر ليلة لهما صلّيتُ بكلّ قوّتي، طالبًا مِن الله أن يرحلا مِن دون وجَع، فالذي مرَّا به كان كافيًا. وهو، مرّة أخرى، إستجابَ لي.
أغمَضَ رامي عَينَيه أوّلاً ولحقه يوسف بعد ساعة. سادَ صمتٌ رهيبٌ لم اعرفه ممكنًا. لم نبكِ، فالمشهد كان مليئًا بعاطفة أخّاذة: ملاكان نائمان وعلى وجهَيهما بسمة رضا. أجل، كانا راضيَين بما كتَبه لهما الله ولم يشتكيا يومًا أو يتذمّرا.
ومنذ رحيلهما لم نشعر يومًا بأنّهما بعيدَين عنّا، بل العكس، فوجودهما يملأ البيت وأحيانًا يُخيّل إليّ أنّني أسمع ضحكتهما.
أحبّ ظنّ أنّني اجتزتُ اختبار الله لي، لكنّني لن أعرف ذلك حقًّا إلا عندما يحين الوقت لأغادر الدنيا، فإمّا أن ألاقي ولدَيَّ أو أن أذهب إلى مكان حيث عذابي الأكبر سيكون إخفاقي بالمهمّة التي أسنَدها إليّ خالقي.
وحتى ذلك الحين، أواصل الصلاة مِن أجل كلّ أفراد عائلتي، الموجودين والغائبين منهم، ومِن أجل السلام في قلوب الناس أجمعين.
حاورته بولا جهشان