كم هو مهّم أنّ يساعد الأهل على تنمية ثقة أولادهم بنفسهم لكي يتمكنّوا مِن مواجهة العالم الخارجي القاسي أحياناً والجميل أحياناً أخرى. ولكنّني لم أحظَ بهكذا دعم مِن أحد لبل كبرتُ وأنا أسمع: "لن تفلحي بشيء" أو" يا ليتكِ كنتِ على الأقل جميلة" أو حتى"أنظري إلى أختكِ وتمثليّ بها فهكذا تكون الفتيات." وبعد هكذا كلام حسبتُ نفسي فاشلة وغير قادرة على إنجاز أيّ شيء مهما كانت سهولته. وعلاقتي بالآخرين تأثّرَت كثيراً فكيف لي أن أخاطب الناس أو أتفاعل معهم إن كنتُ لا أؤمِن بقدرتي على مشاركتهم أفكاري أو ميولي؟ لِذا فضّلتُ الانعزال مع كتبي التي كانت تدُخلني إلى عالم الخيال الشاسع المليء بالأحداث التي لم أكن لأعيشها يوماً في عزلة غرفتي. ولكثرة هذه القراءات إستطعتُ بعد سنوات أن أكتب بدوري قصصاً فريدة مِن نوعها مليئة بالمغامرات المثيرة وأشعاراً جميلة. ولكنّني لم أطلع أحداً عليها وأبقيتُها ترقض في دفتر أخبأتُه تحت فراشي خوفاً مِن أن يقرأه أهلي ويسخروا منّي.
ولكنّ جيهان أختي كانت قد لا حظَت أنّني أدوّن أشياءً في ذلك الدفتر وأُسرع في ضبّه كلّما دخَلَت غرفتي. وبعد أن إنتظَرت الفرصة المناسبة أخذَت تفتّش عنه حتى أن وجَدَته أخيراً. وفي اليوم ذاته عندما عدتُ مِن الجامعة أخَذَتني جانباً وقالت لي:
ـ ما هذا الكلام الجميل!
ـ ماذا تعنين؟
ـ أعني كل ما كتبتيه في دفتركِ.
ـ مَن سمحَ لكِ؟
ـ سمحتُ لنفسي... وإن كان الأمر يزعجكِ إلى هذه الدرجة أستطيع أخذ رأي أهلنا بالموضوع.
ـ لا! أرجوكِ لا تفعلي! ماذا تريدين مقابل سكوتكِ؟
ـ إسمعي... هناك شاب وسيم إسمه زاهي... يدرس معنا في الجامعة... أنا مُعجبة به كثيراً...
ـ أعرف مَن يكون... كل الفتيات معجبات به أيضاً.
ـ إلاّ أنتِ! أنتِ لا تعجَبين بأحد ولا أحد يُعجَب بكِ!
ـ لماذا تقولين هذا؟
ـ لأنّكِ لستِ جميلة... أنظري إلى ثيابكِ وشعركِ... ولكنّ ذلك ليس مهماً... المهّم هو زاهي.
ـ وما دخلي أنا؟
ـ كما تعلّمين يدرس زاهي الأدب والشعر... وعندما قرأتُ قصصكِ وأشعاركِ خطَرَت لي فكرة ذكيّة جدّاً... مثلي!
ـ وما هي يا ذكيّة؟
ـ ستكتبين لي شعراً لزاهي وكأنّني كتبتُه بنفسي... سيقرأه وسيغرم بي!
ـ بهذه السهولة؟
ـ أجل... فأنا جميلة وجذّابة وسيظنّ أنّني أيضاً شاعرة.
ـ ولكنّ ذلك ليس عمل نزيهاً...
ـ دعيني مِن أخلاقكِ العالية الآن وإفعلي ما أطلبه منكِ!
وجلسنا سويّاً لأكتب لها ما أملَته عليّ. كنتُ مُنزَعجة جدّاً لأنّني كنتُ مُعجبة أيضاً بزاهي ولكن على عكس أختي لم أجرؤ يوماً حتى على الإعتقاد أنّه قد ينظر إليّ لكثرة وسامته ولكثرة عدم ثقتي بنفسي. وفي الشعر الذي كتبتُه له وضعتُ كل أحاسيسي واصفة له شعوري الحقيقيّ. وكما توقّعَت جيهان أحبّ زاهي الشعر بعدما بعَثَته له مع زميلة لها وأسرعَ بالردّ عليها بشعر آخر.
وأصبحَت مهمّتي أن أراسل ذلك الشاب شبه يوميّاً وبتُّ أطوق لرسائله وكأنّه يكتب لي. أمّا جيهان فكانت مسرورة جدّاً خاصة بعدما دعاها زاهي للخروج معه لكي يتعرّف على التي سَرَقَت قلبه بكلماتها الحنونة. وحضّرَت أختي نفسها لذلك يوم المهّم لها وخَرَجَت للقائه وكنتُ حزينة جدّاً لأنّني شعرتُ أنّ زاهي كان مِن حقّي أنا. ولكن عدم ثقتي بنفسي كانت تقف بيني وبين أيّ شيء قد أتمكّن مِن إنجازه. ولكنّ شقيقتي لم تكن فالحة في التعاطي مع إنسان حسّاس كزاهي لِذا جاءَت إليّ وطلَبَت منّي أن أعلّمها بضعة جُمَل لتحفظها وتستعملها وهي برفقته. عندها قلتُ لها:
ـ وإلى أين ستؤدّي بكِ هذه الخدعة؟
ـ لا أدري... ما يهمنّي هو أنّني فزتُ بالذي لُقِّبَ بروميو الجامعة...
ـ وهل تنوينَ الإرتباط به؟
ـ لستُ واثقة مِن ذلك... للحقيقة أجده مملاً بعض الشيء... فهو مرهف الإحساس وأنا أفضّل الشبّان ذات حيويّة أكبر...
ـ لم أعد أفهمكِ...
ـ أعني أنّني معه الآن ولكنّني لا أنوي المكوث هكذا طويلاً... فقط ريثما يعلم الجميع أنّني أقوى فتاة في الجامعة!
ـ ليس مِن الجيّد اللعب هكذا بعواطف الناس... هذه خطيئة كبيرة.
ولكنّ جيهان كانت تعلم كيف تمارس الضغوطات عليّ وتابعتُ مساعدتها حتى أن علِمتُ مِن الرسائل أنّ زاهي ينوي فور تخرّجه الارتباط رسميّاً بأختي. وكنتُ أعلم أيضاً أنّها ستدمّر فؤاده وآماله ولم أكن مستعدّة لأن أدَع ذلك يحصل خاصة أنّني كنتُ أعتبر نفسي مسؤولة عن ذلك لأنّني كنتُ التي نمَّت وغذَّت عواطف هذا الشاب تجاه أختي. لِذا قرّرتُ أن أخبر زاهي بالحقيقة واتجهتُ إلى حيث كان جالساً أثناء الإستراحة ووقفتُ أمامه وقلتُ له:
ـ أنتَ لا تعرفني... إسمي أمَل وأنا شقيقة جيهان... لدَيّ ما أقوله لكَ.
ـ بلى أعرفكِ... ما الأمر يا أمَل؟
وأخذتُه جانباً ورويتُ له القصّة مِن أوّلها. في البدء لم يصدّقني لذا أسمعتُه عدة مقتبسات مِن الرسائل التي كتبتُها له. عندها سكَتَ مطوّلاً وسألَني لماذا فعلتُ ذلك ولماذا أعترفُ له بالحقيقة. أجبتُه:
ـ لقد تعوّدتُ أن أرى جيهان كإنسان متفوّق خاصة عليّ... منذ صغري ويقال لي أنّها كاملة على عكسي... ولطالما خشيتُ نظرة أهلي لي المليئة بالازدراء والتهكّم... لماذا الأمر هكذا في عائلتنا؟ لستُ أدري... ولكنّ ضميري لا يسمح لي أن أدَع أختي تتلاعب هكذا بمشاعركَ خاصة أنّني...
ـ أنّكِ ماذا؟
ـ لا شيء... هذا ليس مهمّ... أريد منكَ أن تحفظَ لنفسكَ ما قلتُه لكَ تجنّباً لإنتقام جيهان... لا أظنّ أنّني قادرة على مواجهتها.
ـ لماذا تعتقدين ذلك؟ أليس لديكِ أيّ شخصيّة؟
ـ لا أدري... لم أفكرّ بإمكانياتي يوماً... ولكن عندما أكتب أعلم أنّني أستطيع قول وفعل أيّ شيء أريده.
ـ ربما حان الوقت لِتخري مِن عالمكِ الخياليّ إلى العالم الحقيقيّ... ليس الأمر بهذه الصعوبة... أنتِ فتاة جميلة وحسّاسة...
ـ أنا جميلة؟ لا! لستُ جميلة!
ـ بلى... ولقد لَفتِّ نظري منذ قدومكِ الى الجامعة وذلك قبل أن ألاحظ جيهان... ولكنّكِ كنتِ دائماً منعزلة فاعتقدتُ أنّكِ لا تريدين أن يزعجكِ أحد.
ـ عليّ الرحيل الآن. الوداع.
وبدأتُ بالركض كي لا يرى إحمرار وجهي وذهبتُ أختبئ بأحد الصفوف. كان قد وقعَ عليّ خبر إعجاب زاهي بي كالصاعقة وأدركتُ أنّني لو كان لديّ ثقة بالنفس أكبر لكنتُ قد عشتُ مع زاهي قصّة حبّ جميلة بدلاً أن أختبئ وراء مكايد أختي. وفي اليوم التالي علِمتُ مِن جيهان أنّ زاهي أعرَبَ لها عن نيّته في فسخ العلاقة لأسباب لم يفصح لها عنها. ولم تتأثّر أختي كثيراً بالخبر بل إرتاحَت لأنّ شاب آخر كان يعجبها. وعندما ذهبتُ إلى الجامعة أتى زاهي إليّ وقال لي أنّ علينا أن نحاول الخروج سويّاً لنرى إن كنّا سننسجم مع بعضنا كما فعلنا عبر الرسائل. وبدأنا نتواعد وعلِمَت جيهان بالأمر وغضِبَت إلى أقصى حدّ:
ـ كيف تجرؤين على أخذ زاهي منّي؟
ـ أوّلاً لم يكن يوماً لكِ بل لي لأنّه أحبّكِ بسبب المكاتيب التي كنتُ أكتبها له وثانياً لم تحبّيه بل أرَدتِ إثبات قدراتكِ امام الجميع وثالثاً لستُ مُجبرة على أخذ التعليمات منكِ فلستِ أفضّل منّي بشيء!
ـ ما هذا الكلام الخطير والمفاجئ! ومنذ متى لدَيكِ كل هذه القوّة؟
ـ منذ اليوم وإلى الأبد! سئمتُ منكِ ومِن تحطيم أهلي لمعنويّاتي! ولن أسمح لأحد بعد الآن أن يقلّل مِن شأني... أفهمتِ؟
وسكتَت جيهان ثم قالت:
ـ حسناً... ولكن إهدأي! لقد أخفتِني!
ومنذ ذلك اليوم تغيّرَت ميازين القوّة بيننا وإكتشفَتُ نفسي مِن جديد وتحسّنَت علاماتي في الجامعة وعلاقاتي مع كل مَن كان مِن حولي. وحتى حياتي العاطفيّة تغيّرَت فأصبحتُ قادرة على التعبير شفهيّاً بمشاعري وكل ذلك بفضل مساعدة زاهي لي. فبقيَ يقول لي كم يجدني جميلة وجذّابة وكم أنّ أفكاري مهمّة وصائبة. يا ليتَ فعلَ أهلي ذلك معي عندما كنتُ صغيرة فكنتُ قد ربحتُ السنين التي ذهبَت سدىً وأنا مختبئة في الظل.
حاورتها بولا جهشان
