لم أحبّ سهيل زوج أختي يوماً. فمنذ ما وقَعَت عينيّ عليه شعرتُ بإنزعاج كبير ولكنّني أرجعتُ السبب إلى مزاجي آنذاك بعدما علِمتُ أنّني خسرتُ بعض المال في البورصة. وأسرعتُ بالترحيب بالرجل الذي كان لا يزال صديقها. وعادَ ذلك الشعور إليّ حين علِمتُ أنّه لا يملك فلساً واحداً وإستنتجتُ طبعاً أنّه يسعى وراء مالنا. فأخذتُ نهاد جانباً وقلتُ لها:
ـ هل أنتِ واثقة مِن سهيل؟
ـ أجل يا أخي... لما هذا السؤال؟
ـ لأنّه فقير ونحن أغنياء.
ـ أنا على علم بِوضعه فلم يخفِ عنّي شيء وأكّدَ لي أكثر مِن مرّة أنّه لن يقبل أن أساعده... على كل حال لن أحصل على شيء إلاّ... أعنّي بعد أن...
ـ بعد أن يموت أبونا؟
ـ أجل... وأدعو له بالعمر الطويل... أنتَ تعلم أنّ الثروات لا تهمنّي... ما أبحث عنه هو الحبّ والحنان... وحبيبي يسعى وراء الشيء نفسه... سترى أنّني على حق.
ـ أرجو ذلك مِن كل قلبي... أنتِ أختي الصغيرة ولا أريدكِ أن تتأذّي.
وشاركَني والدَيّ المخاوف نفسها وعملتُ على إطمئنانهما خاصة أنّ والدنا كان يعاني مِن مشاكل في القلب وعليه تجنّب أيّ توتّر. وقَبِلَ الجميع بِسهيل وأقَمنا لهما فرحاً جميلاً لأنّه لم يكن قادراً على ذلك لوحده ولأنّنا أرَدنا أن نحفظ ماء الوجه أمام أقاربنا وأصدقاءنا.
وإنتقَلَت نهاد إلى منزلها الزوجيّ المتواضع وبقينا بالطبع على صلة معها وأخذتُ على عاتقي السهر على أن تكون سعيدة وألاّ ينقصها شيء. ولكن سرعان ما شَعَرَت أختي بالفرق الشاسع بين حياتها قبل الزواج وبعده وبالرغم مِن سكوتها عن الأمر لاحظَ زوجها إمتعاضها ما ولّدَ لدَيه نقمة علينا وعلى كل مَن كان أغنى منه. وبدأ يُسمعها كلاماً مؤذياً وينتقد كل ما تقوله أو تفعله تحت ذريعة أنّها متشاوفة وخاصة عليه.
ورغم إنكارها لذلك بقيَ مصرّاً أنّها نادمة على الزواج منه. وإتّضحَ لأختي أنّ سهيل إلى جانب غيرته كان كسولاً فلم يجتهد ولو مرّة لِتحسين أحواله التي كانت تسوء يوم بعد يوم حتى أن بَلَغَت الحضيض. عندها جاءَت إليّ نهاد باكية وشاكية فأعطَيتُها بعض المال لِتشعر بتحسّن وتستطيع متابعة حياتها. ولكنّ زوجها إعتبَرَ ذلك إهانة لرجولته وتشاجرَ معها وعنّفَها ولم نعرف بالأمر إلاّ لاحقاً. فلو علِمنا ما فَعَله لأوقفناه عند حدّه أو أجبرناه على تركها وأعدناها إلى منزلنا مرفوعة الرأس. وبسبب سكوتها دخلنا جميعاً لعبة دنيئة أعدّها لنا صهرنا الفاشل. وبدأ سهيل يمارس على زوجته سياسة الرعب حتى أن أصبَحَت تحت سيطرته الكليّة تنفّذ كل ما يطلبه منها وإلاّ إنهالَت عليها الشتائم والضربات وكانت المسكينة تخفي كدماتها تحت طبقات كثيفة مِن المكياج.
وبعد أن تأكّدَ أنّها فقدَت القدرة على الوقوف بوجهه أشركَها بمخطّط يهدف إلى سلبنا مالنا. وعلِمتُ بتفاصيل ما حدَثَ بينهما لاحقاً منها شخصيّاً. ففي ذات ليلة قال لها:
ـ لا أستطيع المتابعة بهكذا ظروف!
ـ ماذا تعني؟
ـ كيف تقبلين أن نعيش في القلّة بينما يستمتع أخوكِ بكل هذا المال؟
ـ حاولَ مساعدتنا ولكنّكَ غضبتَ مِن ذلك و... وضَرَبتني.
ـ أجل... لأنّها كانت كما قلتِ مساعدة... أي حسنة ولن يقبل أيّ رجل بذلك... هذا المال مالكِ أيّ حقّكِ... وعليكِ المطالبة به.
ـ أنتَ تعلم أنّني لن أنال شيئاً طالما أبي على قيد الحياة... أم أنّكَ تريده أن يموت؟
ـ لا... لن أذهب إلى هذا الحدّ... هناك طرق أخرى...
ـ عن أيّ طرق تتكلّم؟
ـ أعنّي أنّنا نستطيع الضغط عليه وعلى أخيكِ... هناكَ أفكاراً كثيرة تدور في رأسي لم تتبلوَر بعد... سأخبركِ بها عندما أكون جاهزاً... ولكنّ أيّاكِ أن تتفوّهي بكلمة واحدة وإلاّ أقسم بالله أنّني سأقتلكِ وأقتلهم جميعاً!
وأمام هذا التهديد المباشر حَفَظَت نهاد السرّ والغصّة بِقلبها. وبعد أسبوعَين على حديثه مع أختي أخبَرَها أخيراً ما ينوي فعله وأمَرَها بأن تنفّذ تعليماته بحذافيرها. وعندما جاءَت إلينا نهاد تطرق بابنا ليلاً ظنّنا طبعاً أنّ مكروهاً حصلَ لها أو لزوجها لأنّها دخَلَت المنزل تصرخ وتبكي. وبعد أن هدّأناها قالت لنا أنّ سيّارة سهيل وقعَت في الوادي المجاور وبسبب كسور في رجلَيه بقيَ في داخلها بينما إستطاعَت هي الخروج مِن المركبة لِطلَب النجدة.
وركضتُ مع أبي وأختي إلى المكان المذكور ولكن عندما وصَلنا لم نجد أحداً فنظرنا إليها بإندهاش. وقبل أن يتسنّى لنا فهم ما يحصل شعرتُ بألم فظيع في رأسي وفقدتُ وعيي. وعندما إستفقتُ وجدتُ نفسي مقيّداً بكرسيّ في ما يشبه مستودعاً وأبي بالوضع نفسه في الجّهة المقابلة لي. وبعد أن سألتُه إن كان بخير بسبب قلبه المريض وإطمأنّيتُ عليه حاولتُ إستيعاب ما حصل. ولم أجد تفسيراً منطقيّاً حتى أن فُتِح الباب وظهرَ صهرنا ضاحكاً:
ـ ما أجمل شكلكما!
ـ سهيل؟ أنتَ وراء هذه المكيدة؟
ـ أجل ولكن ليس لوحدي... نهاد شريكتي... لِذا لستُ خائفاً منكما... أعلم أنّكما لن تفضحا الإبنة الوحيدة حبّاً بها وخوفاً على سمعتكما...
ـ ماذا تريد؟ هل تنوي قتلنا؟
ـ قتلكما؟ لا! لستُ غبيّاً! كل ما أريده هو حقّي.
ـ ليس لديكَ حقوق عندنا!
ـ بلى... زوجتي ثريّة ولكنّنا نعيش كالفقراء.
ـ بسببكَ! أنتَ رجل فاشل وكسول! مال أبي مِن عرق جبينه وأنا أعمل ليلاً نهاراً للحفاظ عليه.
ـ هذا ليس مِن شأني... نهاد! تعالي!
ودخَلَت أختي والدمع يملأ عينَيها ووقفَت تنظر إلينا بِحزن عميق وتردّد:" أجبرَني على ذلك... أجبَرَني على ذلك." وبعدما أمَرَها أن تصمت طلبَ منها أن تأتي له بالأوراق وأضافَ:
ـ يا عمّي العزيز... ستوقّع على وكالة عامة تخوّل إبنتكَ التصرّف كما تريد بثروتكَ المنقولة والغير منقولة. الكاتب بالعدل الذي أعرفه سيقسم مقابل بعض المال أنّكَ وقّعتَ على الأورق بكامل إرادتكَ وسيأتي حتى بشهود زور على ذلك.
عندها أجابَ أبي:
ـ سأفعل ما تشاء... لا تؤذي أولادي... أرجوكَ.
وفُتِحَ الباب ولكن الذي دخل لم يكن أختي بل رجال شرطة. لن أستطيع وصف شعوري في تلك اللحظة لأنّني لم أتوقّع أبداً حدوث ذلك خاصة أنّ لا أحد كان يعلم بمكان وجودنا. ولكنّ نهاد لم تستطع متابعة الخطّة فقرّرَت أن توشي على زوجها وذلك منذ اللحظة الأولى. وكانت الشرطة على علم بكل شيء وتتابع الأحداث لكي تقبض على سهيل بالجرم المشهود.
وقِيدَ الندل إلى السجن ورافقتهمك أختي للإدلاء بما تعرفه ويُكَتب التقرير. ورافقنا شرطيّ إلى منزلنا حيث أخبرنا والدتي بالذي حصل وكادَت المسكينة أن تفقد وعيَها مِن شدّة الإضطراب. وبعد ساعات طويلة وافتنا نهاد إلى المنزل وعانقنا بعضنا وبكينا سويّاً.
وحين جاء موعد المحاكمة تقدّمنا جميعاً للشهادة ضدّه ولم يتطلّب وقتاً كبيراً ليأخذ القاضي قراره بإدانة سهيل وسجنه مدّة طويلة. وعندما جاؤوا ليأخذوه بعيداً صَرَخَ لنا أنّه سينتقم منّا عندما يخرج ولكنّني أجبتُه بكل هدوء: "وسنكون بإنتظاركَ."
ومضَت على تلك الحادثة بضعة سنوات كانت خلالها قد سافَرَت أختي إلى فرنسا بعدما أقنعتُها أن تبتعد عن البلد خوفاً مِن زوجها. أمّا بالنسبة لي فلستُ خائفاً منه وأعتقد أنّه لن يحاول فعل أيّ شيء فلطالما كان جباناً وخير دليل على ذلك هو أنّه إستعمل زوجته بعد أن بقيَ يضربها ويشتمها لإيقاعنا بفخّه الذي كان سيفشل على كل حال. ولو كان فعلاً رجلاً لعمِلَ المستحيل ليؤمِّن لزوجته حياة كريمة مُثبتاً لها أنّه قادر على إعالتها لوحده.
حاورته بولا جهشان
