حسدَني الجميع عندما تمّ توظيفي بمحل مجوهرات معروف ليس فقط بسبب اسمه العريق بل أيضاً للراتب العالي الذي كنتُ أتقاضاه. وحصلتُ على هذه الوظيفة بفضل صديق أبي ولكي لا أخذل أحد عملتُ جهدي لأعطي أفضل ما عندي. فإلى جانب إهتمامي بالزبائن وبيعهم ما يطلبونه أخذتُ على عاتقي دراسة الأحجار الكريمة وكل ما يتعلّق بالذهب والمعادن مِن خلال أبحاث أجريتُها على الأنترنت. وهكذا أصبحتُ شبه خبيرة في مجالي ما سرَّ أمال صاحبة المحل إلى أقصى حدّ لأنّه كان دليلاً واضحاً على إنكبابي على عملي بإحتراف.
ومع مرور الأشهر والسنين كبرَت الثقة بي لِدرجة أنّ أصبحَت أمال تأتمِن لي بالمحل حين تسافر لجلب أحجارها مِن الخارج. وفي ذاك نهار قالت لي:
ـ تعلمين كم أنا مرتاحة لإدائكِ يا غادة.
ـ شكراً سيّدتي.
ـ وتعلمين أنّني أنجبتُ صغيري منذ فترة قصيرة وأجد صعوبة بالتوفيق بين عملي والإهتمام بطفلي... خاصة أنّه ولِدَ مع حاجات خاصة... لِذا سأضطرّ إلى طلب المزيد منكِ.
ـ سأقوم بما تطلبينه سيّدتي... أفكرّ دائماً بأنّكِ... وأقول لنفسي أنّه محظوظ بهكذا أمّ.
ـ شكراً... هذه مشيئة الله وعليّ قبولها... لنعُد لحديثنا... لم أعد قادرة على الذهاب كل بداية أسبوع باكراً إلى المصرف لوضع ما جنيناه لِذا سأطلب منكِ أن تقومي بذلك مكاني.
ـ ولكن... هذه مسؤوليّة كبيرة... سيبقى المال معي طيلة فرصة نهاية الأسبوع.
ـ أجل... وستذهبين في صباح أوّل كل أسبوع إلى المصرف... سأقوم بالمعاملات اللازمة... لا أثق إلاّ بكِ... أرجوكِ أن تقبلي.
وقبِلتُ أن أساعدها لأنّني كنتُ أحبّها كثيراً وأعلم أنّها تبادلني هذه المودّة. ولكنّني لم أكن مرتاحة لفكرة نقل هذه المبالغ وإبقائها بحوذتي مدّة يومَين. وبدأنا نفعل ذلك ومع مرور الوقت وجدتُ الأمر أسهل ممّا كنتُ أعتقد. كل ما كان عليّ فعله هو وضعه في خزانة ملابسي تحت الثياب. وحدها أمّي كانت على علم بالأمر لأنّني خشيتُ أن تجد المال صدفة وتشكّ بأمري.
هي الأخرى خافَت عليّ مِن هكذا مسؤوليّة ولكنّني طمأنتُها قائلة:" وما الذي سيحدث للمال؟ هو هنا في البيت معنا وفي خزانتي... ولن يسرقه أبي منّا!". وضحكنا سويّاً ونسيتُ الموضوع. ولكنّ أمّي بقيَت مشغولة البال تذهب كل أسبوع إلى خزنتي لتتفقّد المال. ولكثرة خوفها أفسحَت ما في قلبها إلى أختها بالرغم أنّني جعلتُها تقسم ألاّ تخبر أحد بالأمر:
ـ أخاف على غادة... كل هذا المال في حوذتها عندما تعود ليلاً... ومِن ثمّ في البيت ومِن بعدها معها في الصباح... ماذا لو أعترضَها أحد؟ ماذا لو إقتحَم سارقون البيت؟
ـ عليكِ أن تكفّي عن مشاهدة الأفلام يا أختي... أنا متأكّدة أن لا شيء مِن ذلك سيحدث.
والمسكينة أمّي لم تتخيّل ولو للحظة أنّ أختها ستخطّط مع أولادها على سلبي المال وإقحامي بورطة كبيرة. ففور عودتها إلى بيتها جمَعَت خالتي عائلتها وأخبرَتهم بأنّ مشاكلهم الماديّة على وشك أن تنتهي بفضل غباء أختها. وأقاموا خطة محكمة كانت ستنفّذ بعد أسبوع الأعياد حيث يأتي الكثير لشراء مجوهرات لأحبّائهم فكان على الغلّة أن تكون كبيرة ليستفيدوا قدر الإمكان مِن سرقتي. ومضَت أشهر طويلة واصلتُ خلالها عملي كالمعتاد دون أن أشكّ بشيء لأنّه وبكل بساطة لم يحصل شيء.
وجاءَت الأعياد وككل سنة توافدَ الزبائن إلى المحل وأشتروا بكميّات كبيرة وحين جاءَ المساء قالت لي أمال أنّها ممنونة جداً مّما بعناه وأن الرقم يفوق كل السنوات السابقة. ووضَعَت لي الغلّة كلّها في شنطة صغيرة وقالت:
ـ هيّا خذي المال وإذهبي إلى بيتكِ لترتاحي... فلقد عملتِ جيّداً.
ـ ولكن... هذا مبلغ كبير جدّاً... لما لا تبقينه معكِ؟
ـ أوّلاً لأنّني أثق بكِ وثانياً لأنّ ظروفي لا تسمح لي بترك إبني بهكذا ظروف... الأعياد تنهكه... رؤية الناس عندنا في المنزل تثير أعصابه... لا تقلقي فلن يحصل شيء.
وأخذتُ الشنظة وخرجتُ. وكالعادة وضعتُها تحت مقعد سيّارتي كي لا يراها أحد وأنا أقود. ولكن بعد أن أقلعتُ بدقائق ورَدَني إتصال مِن إبنة خالتي:
ـ غادة؟ أين أنتِ الآن؟
ـ غادرتُ المحل منذ دقائق ولا أزال على الطريق... لماذا؟
ـ أمّي ليست بخير وأنا لوحدي في البيت... تعالي بسرعة!
وأسرعتُ طبعاً لأرى ما يحدث ولأقدّم مساعدتي دون أن أفكرّ بأنّني أحمل معي مالاً كثيراً. وركَنتُ سيّارتي تحت المبنى وصعدتُ السلالم بسرعة وقرعتُ على الباب. وفتحَت لي إبنة خالتي وقادَتني إلى أمّها التي كانت مستلقاة على الأريكة وتصرخ مِن الألم. وبينما كنتُ أحاول معرفة سبب وجعها هذا كانت إبنتها قد رمَت مفاتيح سيّارتي مِن النافذة إلى أخيها الذي كان مختبئ في الظلام. وفتَحَ المركبة وأفرغَ محتوى الشنطة بعد أن بحثَ عنها ووضع مكان المال قصائص ورق لكي لا أنتبه إلى شيء. ومِن ثم صعدَ بدوره إلى الشقّة. وحين دخلَ أعطى مفاتيحي إلى شقيقته التي ردَّتها إلى حقيبة يدي.
وعملنا كلنّا على الإعتناء بخالتي حتى أن قالَت أنّها بخير. عندها إستأذَنتُ وعدتُ إلى منزلنا حيث أخبرتُ أمّي ما حصَلَ لأختها. فأخذَت فوراً الهاتف للإطمئنان عليها ولكنّهم قالوا لها أن المرأة بخير وأنّها لم تشعر بشيء بتاتاً ونكروا حتى أن أكون قد مررتُ بهم. عندها فسّرتُ الأمر بأنّهم لا يريدون شغل بال أمّي ونسيتُ الأمر. ووضعتُ الشنطة في خزانتي كالمعتاد وإنتظرتُ يوماً بكامله لأخذ المال لأنّ المصرف كان مقفلاً بسبب الأعياد.
وحين وصلتُ المصرف وفتحتُ الشنطة لإيداع المال وجدتُ قصائص الورق مكانه فصرختُ بأعلى صوتي. ولكنّني عدتُ وتمالكتُ أعصابي خوفاً مِن لفت الأنظار عليّ. وأقفلتُ الشنطة وعدتُ إلى سيّارتي حيث جلستُ وقلبي يدقّ بسرعة. كيف إختفى المال وهو موضوع في بيتنا حيث لم يدخل أحد؟ وبدأتُ بالتفكير بعد أن هدئتُ قليلاً وتذكّرتُ توقّفي عند خالتي. ولكنّني لم أفهم كيف علِموا بوجود المال حين لم يكن يدري أحد بالأمر إلاّ أمّي وكيف أخذوا المال مِن سيّارتي لأنّني لم أنتبه إلى إبنة خالتي وهي تسرق المفاتيح مِن حقيبتي. كنتُ أكيدة أنّهم سرقوني ولكنّني لم أكن أعرف كيف.
فهمتُ عندها لماذا أنكروا أنّ خالتي كانت مريضة وأنّني مررتُ بهم في تلك الليلة. وشعرتُ بأنّ العالم بأسره ينغلق عليّ وعلِمتُ أنّني بمأزق كبير جدّاً. وذهبتُ إلى المحل حيث وافَتني أمال بعد أن سلّمَت إبنها إلى حاضنة الأطفال. وخلال النهار لم أنظر إلى المرأة أو أكلّمها لكثرة إرباكي وخجلي منها. ولاحظَت أنّني غير مرتاحة فسألَتني عن الأمر. عندها إنهالَت الدموع على خدودي وبدأتُ أشهق مِن البكاء. وهدّأتني أمال وأمَرَتني أن أقول لها ما يجري فأخبرَتُها القصّة بكاملها مضيفة:
ـ هل ستسجنينَني الآن؟؟؟
سكتَت أمال مطوّلاً ثمّ قالَت:
ـ لا... لقد وقفتِ بجانبي... وتحملّتِ ظروفي الصعبة... وعملتِ ساعات طويلة... أعلم أنّكِ لم تسرقي مالي لأنّكِ عدتِ إلى العمل اليوم فكان بإمكانكِ الفرار... إضافة إلى ذلك لو كنتِ حقّاً الفاعلة لما أخبرتني هذه القصّة بل قلتِ لي أنّ لصوصاً إعترضوا طريقكِ وجرّدوكِ مِن المال... إلى حين نجد طريقة لإستعادة المبلغ سأضطّر لحسم مبلغاً مِن راتبكِ كل شهر لكي أقلّص مِن خسارتي.
وعانقتُها مطوّلاً وشكرتُها على ثقتها بي ووعدتُها أنّني سأحاول تبيان الحقيقة. عندها قالت لي:
ـ لن تستطيعي فعل ذلك لوحدكِ... لدينا زبوناً أعرفه جيّداً يعمل في التحقيقات وأخرى محاميّة... سأتصل بهما.
وبعد يوم واحد كنّا جميعاً مجتمعين لبحث سبل القبض على السارقين والأهم حملهم على الإعتراف لأنّ تماسكهم كعائلة يجعل الأمر صعباً. عندها خطَر على بال المحقّق أنّ مَن فتحَ الشنطة لم يكن بالضرورة يلبس قفّازات فهؤلاء الناس ليسوا محترفين. فإخذَ الشنطة منّا ووضعَها في كيس وأخذَها للتحليل والبحث عن بصمات. أمّا المحاميّة فطلبَت أن تكلّم خالتي وعائلتها لإخافتهم. وهكذا أخذتُ المرأة عند خالتي وحين وصلنا وجلسنا في الصالون مع خالتي وإبنتها عرّفتُ عليها قائلة:
ـ هذه السيّدة هي محاميّة... وستدافع عنّي إن لزِمَ الأمر... لقد رافعَت بقضايا كبيرة ونجحَت في كلّ مرّة... وتريد أن تسألكم بعض الأسئلة لأنّ أحد سرق مِن سيّارتي مبلغاً كبيراً ولستُ مستعدّة أن أدخل السجن... وسأفعل المستحيل لإثبات براءتي.
وكان الخوف بائناً على وجه خالتي وإبنتها ولكنّهنّ لم تقلنَ شيئاً. وغادرتُ مع المرأة خائبة الأمل ولكنّ رفيقتي طمأنَتني:
ـ لا تخافي... بعد رحيلنا ستتشاورنَ وتنتظرنَ عودة الإبن لدراساة الوضع وسأله إن كان يرتدي قفّازات أم لا. فإن وُجدَت بصماته على الشنطة في حين ينكرون مروركِ بهم في تلك الليلة فهذا يعني أنّهم فعلاً السارقون.
وكانت على حق. ففي اليوم التالي إتصَلت بي خالتي باكية وراجية سماحي واعدة بإعادة المال كلّه إن كنتُ مستعدّة لعدم رفع شكوى ضدّهم. عندها سألتُ أمال عمّا يجب فعله فقالت:
ـ خذي المال وأنسي الموضوع... قد تأخذ المحاكمة وقتاً طويلاً وسينهككِ الأمر أنتِ وأمّكِ المسكينة... أنا متأكّدة أنّهم لن يعيدون الكرّة.
وهكذا فعلتُ. وأعدتُ المال لأمال بعد أن قلتُ لخالتي وذويها أنّني لا أريد سماع صوتهم أو رؤية وجههم وإلاّ بعثتُ لهم الشرطة فالشنطة لا تزال في حوذة العدالة. وعملتُ على تهدأة أمّي التي أنهارت بعدما علِمَت ما فعلَته أختها بي ولامَت نفسها لأنّها أخبرَتها بوجود المال. عندها قلتُ لها:
ـ لا يا أمّي... الذنب ليس ذنبكِ... فلو كانت تلك المرأة إنسانة صالحة لحَفِظَت السرّ خوفاً عليّ بدلاً أن تخطّط لسرقتي وزجّي في السجن.
حاورتها بولا جهشان