بين ليلة وضحاها، أصبحَت والدتي إنسانة مؤمنة جدًّا وتفتخرُ بنفسها لأنّها، وحسب قولها، وجَدَت الله وفهمَته وفهمَت السّبل للوصول إلى رضاه التام. وبالرغم مِن كبر كلامها والمبالغة الواضحة في تقواها، صدّقَها العديدون وباتوا يكنّون لها احترامًا فائقًا، خاصّة أهل الحَيّ حيث نسكن. وسرعان ما صارَت أمّي امرأة كلمتها مسموعة ويؤخَذ بنصيحتها. كنتُ أعرفُ أنّ والدتي تضخّم إيمانها، فهي كانت إنسانة ذات حياة عاديّة جدًّا، فكيف لها أن تعبد الله وتتبع تعاليمه وهي تشتمُ وتلعنُ وتنقلُ الأقاويل مِن جارة إلى أخرى؟ وبالرّغم مِن شكوكي، حاولتُ تصديقها لأنّها كانت أمّي وكنتُ ابنتها، ولأنّنا تعلّمنا وتعوّدنا أن نصدّق أهلنا، حتى عندما نراهم يفعلون عكس ما يقولون.
مع الوقت، لبِسَت والدتي الدّور إلى درجة أنّ صوتها تغيّر وحركاتها باتَت أكثر نعومة وخفّة، واستفَدنا، ولو بعض الشيء، مِن تلك الهالة العظيمة التي كانت تحيطُ نفسها بها. فمثلاً لو أرادَت إستعارة أيّ غرض أو حتى المال مِن جيرانها، كانوا يُسرعون إلى تلبية طلبها لأن إنسانة مثلها ستعيدُ حتمًا ما ليس لها. وأعترفُ أنّ أمّي لم تُخطئ يومًا بإعادة ما استقرضَت، لكنّها أخطأت بأشياء أخرى أكثر فظاعة.
فبعد أن قويَ إيمان أمّي بحوالي الثلاث سنوات، وبعد أن أصبَحَ الكلّ كالخاتم بإصبعها بدءًا بأبي، إكتشفتُ شيئًا أو أشياءً غيّرت المعطيات كلّها. كنتُ قد تذكّرتُ ما كانت تقولُه لنا المدرّسة بشأن الناس وتصرّفاتهم الغريبة، ومفاده أنّ الذين يتكلّمون ليلاً نهارًا عن النظافة هم بالفعل وسخين، والذين يتباهون بإيمانهم أمام الناس ويطبلون آذانهم بالدين، هم في الحقيقة بعيدون كل البعد عن الله. فالنظيف والمؤمِن ليس بحاجة للتكلّم عمّا بنظره بديهيّ وطبيعيّ، والعكس يكون محاولة لإخفاء شيء بشع للغاية.
لِذا صِرتُ أراقب عن كثب والدتي، ليس لكشف شيء، بل لفهم سبب انتقالها مِن ربّة منزل عاديّة إلى أيقونة إيمان. صحيح أنّ بعض الناس يستعيدون إيمانًا فقدوه لفترة، لكن ما كانت تفعلُه أمّي كان أقرب إلى التمثيل، ولو لَم تكن والدتي لوجدتُ الأمر مضحكًا للغاية. ومع الوقت تأكّدتُ مِن أنّها تكذب على الجميع، إذ لم يكن هناك ما يدلّ على إيمانها، فهي لَم تكن تمارس دينها إلا أمام الناس، بمَن فيهم والدي. أمّا أمامي، فكانت تنسى نفسها وتعود إلى طبيعتها.
غضبتُ منها كثيرًا، فبسببها فقدتُ ثقتي بالتي ولدَتني وباتَ كلّ ما تقولُه كذبًا. لم يفهم أبي سبب انقلابي على أمّي، وبقيَ يحثّني على عدم معاندة "إنسانة بهذه الشفافيّة والرقّة". المسكين...
لم أقصد أن يحصل ما حصَل، فأنا كنتُ لا أزال مراهقة ثائرة على امرأة أبدعَت بالكذب والتمثيل. صِرتُ أكره أن أسمعَها وهي تتكّلم عن الله وتفسّر للحضور كلمته، وأمقُتُ مشاهدتها تلوي رقبتها وتخفتُ صوتها. لِذا، أخذتُ أفتّش عمّا سيُساعدني على كشف وجهها الحقيقيّ.
صِرتُ ألحق بأمّي أينما تذهب، ليس لأرافقها بل لأراقبها. ولم أكن قادرة على لعب دور التحرّية سوى في فرصة نهاية الأسبوع ولكنّ ذلك كان أفضل مِن لا شيء.
كانت والدتي تخرج مِن البيت في الصّباح، بعد أن تكون قد حضّرَت الإفطار ثمّ جالَت على البيت لترتيبه... وبعد ذلك، العمل على تحضير وجبة الظهيرة. ثمّ كانت تقف وسط الشارع كي يراها الجميع ويُلقي عليها التحيّة، قبل أن تتابع طريقها واضعة رأسها في الأرض، كما تفعل النساء الشريفات. إن صادفَت أحدًا في الشارع، كانت تردّ السّلام عليه بصوت بالكاد يُسمع، وكان الكلّ ينظر إليها مبتسمًا لأنّها كانت مثالاً أعلى للتقوى والشرف.
كانت أمّي تقصد صديقاتها لتشرب الشاي معهنّ وتبقى برفقتهنّ حوالي الساعة، ومِن ثمّ تدخل دكّانة البقّال وتخرج بأكياس مليئة بالفواكه والخضار. ومِن بعدها تمرّ على الخيّاطة لوضع ملابس للتصليح. كانت أمّي في طريق العودة تتوقّف أيضًا عند بعض الجارات، أي أنّها كانت تقوم بأشياء عاديّة جدًّا. لكنّني كنتُ متأكّدة مِن أنّها تخفي شيئًا، فلَم أكن لأصدّق حركاتها المُبتذلة هذه، فكما قلتُ سابقًا، أعرفُها أكثر مِن أيّ شخص آخر كَوني ابنتها.
خلال لحاقي المنتظم بأمّي ، لَم أكتشف أيّ أمر مريب، وشعرتُ لفترة قصيرة بالذنب. هل يُعقَل أن أكون قد ظلمتُها، وأنّ شكوكي كانت مبنيّة على اشمئزاز سببه عدَم قبولي لإيمان إعتبرَتُه غريبًا ومزيّفًا، في وقت كان بالفعل نابعًا عن مشاعر صادقة ونبيلة؟
إلا أنّ صدفة بحتة كشفَت الستار عن واقع مرير.
كنتُ قد تغيّبتُ عن المدرسة بسبب ألَم حاد في أحد أسناني إستدعى ذهابي إلى طبيب الأسنان. طلبتُ مِن أمّي مرافقتي، إلا أنّها رفضَت لأنّني كنتُ "كبيرة كفاية للقيام بأموري الخاصّة وعليّ تعلّم الاتّكال على نفسي". نهضتُ مِن الفراش، وتحضرّتُ وذهبتُ إلى موعدي وفي قلبي خوف مِن معدّات طبيب الأسنان. وبعد أن أنهى الأخصّائي تصليح سنّي، عدتُ إلى البيت. لكن في طريقي، رأيتُ أمّي تمشي في حيّ لا تقصدُه عادة لأنّ ليس لدَيها ما تفعلُه هناك، كونه حيًّا سكنّيًا راقيًا لا تعرفُ أحدًا فيه. حاولتُ مناداتها، إلا أنّها لم تسمعني وهي داخلة في ردهة أحد المباني الضخمة.
لم يخطر ببالي اللحاق بها، لأنّني كنتُ تحت تأثير المخدّر وأودّ العودة إلى البيت لأستريح. وبعد حوالي الساعتَين، عادَت والدتي إلى البيت وسألتُها كيف كان نهارها، فبدأَت تروي لي قصص صديقاتها والبقّال وكلّ مَن التقَت بهم، لكنّها لم تذكر لي مشوارها إلى ذلك الحَي. لماذا أخفَت عنّي تلك المعلومة؟ عندها فهمتُ أنّ ما أريدُ اكتشافه عنها لا يحصل خلال فرصة نهاية الأسبوع، بل خلال الأسبوع وبالأخصّ يوم الأربعاء.
وكي أتأكّد مِن نظريّتي، إنتظرتُ وصول يوم الأربعاء بفارغ الصبر لأدّعي المرَض ولا أذهب إلى المدرسة. وفي ذلك اليوم بالذات، علِمتُ حقيقة أمّي.
كنتُ قد تحضّرتُ للّحاق بها فور خروجها مِن المنزل بارتداء ملابسي تحت قميص النوم. وفور مغادرتها، قفزتُ مِن الفراش وخرجتُ خلفها. ملاحقتها لم تكن صعبة، فأمّي لم تكن تشكّ بأنّ فتاة في السّادسة عشرة قد تقوم بما لا يتصوّره عقلها، فهي كانت حتى ذلك اليوم تفعل ما تفعلُه بكلّ راحة ضمير... كما لو كان لدَيها ضمير!
بعد أن مرَّت هنا وهناك، دخلَت والدتي الحَي المذكور وبدأ قلبي يدقّ بسرعة، خاصّة عندما اختفَت داخل مبنىً كبير. دخلتُ خلفها لأكتشف أنّه مخصّص للمكاتب والشركات، الأمر الذي صعّب عليّ مهمّتي. إلا أنّني وجدتُ الناطور وسألتُه عن السيّدة التي دخلَت لتوّها، لأنّ محفظتها سقطَت منها وأريد إعادتها لها. حاول الرجل إقناعي بإعطائه المحفظة ليُسلّمها لها بنفسه، إلا أنّني رفضتُ حرصًا على إيصال الأمانة بِيَدي. عندها أخبرَني أنّها صعِدَت إلى مكتب السيّد هاني في الطابق الرابع، كما تفعل كلّ أسبوع. وكنتُ أودّ أن أسأله عمّن يكون ذلك الرجل، لكنّني لم أشأ أن يبدو تصرّفي مشبوهًا.
قرَعتُ باب المكتب، ففتَحَ لي رجل سألَني عمّا أريد فأخبرتُه قصّة المحفظة. عندها نادى أمّي باسمها فركضَت إلى الباب بلباس خفيف ومِن دون حجابها، حاملة كأسًا مِن الكحول بيَد وسيجارة باليَد الأخرى. كان مِن الواضح أنّها نسيَت مبادئ الدين وكلّ المبادئ العالميّة التي تتعلّق بالشرف.
حين رأتني أمّي واقفة أمامها إحتارَت بأمرها، ثمّ بدأَت تصرخ بي وتهدّد بدلاً مِن أن تخجل مِن نفسها، وأمرَتني بالعودة إلى البيت واعدة بتلقيني درسًا لن أنساه. مِن جهّتي، بقيتُ مسمّرة أمام ذلك المشهد ووقاحة التي ضبطُّها بالجرم المشهود. ولحظة أدَرتُ ظهري لأعود أدراجي، سمعتُ الرّجل يقول لوالدتي: "لن أدفَعَ لكِ، فلَم أستفِد مِن زيارتكِ".
عندها نزلتُ السلالم باكية، فالرجل كان زبون أمّي التي كانت تمارس الدّعارة. هل يعقل هذا؟!؟ أمّي الحنونة والتقيّة التي تصلّي وتصوم وتتكلّم عن الدّين مِن الفجر إلى الغروب كانت غانية؟!؟ ماذا عن أبي الصّالح الذي كان يفعل جهده لتأمين ما يلزمُنا مِن دون أن يشتكي يومًا؟ لماذا لم تجد أمّي عملاً إن كانت بحاجة إلى المال؟ فهي متعلّمة وباستطاعتها تدبير ما يُمكّنها مِن شراء ما تريدُه نفسها.
عندما عادَت أمّي إلى البيت لم تقل لي شيئًا، وأنا فعلتُ كذلك، ولكن كان مِن الواضح أنّها كانت غاضبة منّي إلى أقصى درجة وكأنّني كنتُ التي تبيع جسدها للرّجال.
ومنذ ذلك اليوم بتنا عدوّتَين لدودَتَين. هي خافَت أن أفضَح أمرها وأنا اشمأزَيتُ منها لأقصى درجة. بالطبع لم أكن أنوي إخبار أبي بالأمر فقط لأجنّبه الحزن والعار، لكنّني لم أكن مستعدّة لقبول ما يجري. لِذا قلتُ لأمّي:
ـ إسمعي، لا أريد مناقشة ما رأيتُه فهو واضح كفاية... سرّكِ معي وسيبقى عندي شرط أن تكفّي عن ممارساتكِ وعن إدّعاء العفّة والتقوى. وفي حال علِمتُ بأنّكِ كرَّرَتِ بغاءَكِ ولو مرّة واحدة ، سأفضحكِ ليس فقط أمام أبي بل أمام الناس كلّها.
هدأت أمّي بعد ذلك. هل استوعَبت فظاعة ما فعلَتَه أم أنّها خافَت حقًّا منّي؟ كلّ ما أعرفُه هو أنّها لَم تعد تبارح المنزل إلا للضرورة ولَم تعد تتكلّم بالدين طوال النهار.
بعد سنوات، تزوّجتُ وانتقلتُ للعَيش بعيدًا عن والدَيّ، ولم أعد أعرف ما يجري هناك، لكنّني لم أعد أثق بإنسانة إستعملَت الدّين غطاءً للبغاء، فلَيس هناك أفظع مِن ذلك.
مضى على زواجي عشر سنوات، وعندما أرى أبوَيّ أجدُ والدي مبتسمًا وسعيدًا وأمّي هادئة ولطيفة. وأحبّ أن أعتقد أنّ الأمور تجري بطريقة سليمة، وأنّني ساهمتُ بإيقاف فجور أمّي عند حدّه... أم تراني مُخطئة وهي وجَدَت بابتعادي فرصة للعودة إلى الخطيئة؟
حاورتها بولا جهشان