سبحان الله كيف أنّ أولاد العائلة نفسها يولدون ويكبرون مُختلفين تمامًا عن بعضهم البعض. وخير مثال على ذلك أختي حنان التي لَم يكن اسمها يليقُ بها إطلاقًا. فهي كانت رمز الشرّ والمكر والكراهية. حاولتُ مرارًا إيجاد سبب لطباعها، إلا أنّني لستُ طبيبة نفسيّة لأفهم خفايا النفس البشريّة.
عانَينا جميعًا مِن تصرّفات حنان حين كنّا صغارًا، إذ أنّها أرادَت بسط سيطرتها علينا وإلا استعملَت سبلاً مؤذية جسديًّا ونفسيًّا بحقّنا. حاوَلَ والدانا التدخّل لتوقيفها عند حدّها، لكنّهما خافا منها خاصّة عندما كبرَت وصارَت أكثر تمرّسًا بالشرّ والتخطيط. وأعترفُ أنّني قبِلتُ بأوّل عريس تقدَّمَ لي لأبتعِدَ عن حنان ولأعيشَ بسلام مع أيّ كان عداها. لحسن حظّي أنّ الذي تزوّجتُه كان إنسانًا صالحًا ومُحبًّا.
تزوّجَت أخواتي الواحدة تلوَ الأخرى... ما عدا حنان طبعًا. فمَن هو الذي سيُريدُ ربط حياته بالشيطان؟ أسِفتُ على والدَيّ اللذَين كانا سيبقيان لوحدهما مع حنان، لكن في آخر المطاف، لا بدّ أنّ لهما مسؤوليّة ما في شخصيّة ونفسيّة ابنتهما البكر.
أنجبتُ ولدي الأوّل وأمِلتُ أن يُؤثّر وجود طفل في العائلة على قساوة حنان، فمَن يدري، قد يتحرّك فيها شعورها بالأمومة ويخفُّ شرّها وكرهها للبشريّة بأسرها. لكنّها بالكاد نظرَت إلى صغيري بل أبدَت انزعاجها مِن بكائه قائلة: "أسكتيه أو خذيه مِن هنا وارحلي معه! ". إمتلأت عَينايَ بالدموع، ونظرتُ إلى أمّي التي رفعَت عينَيها إلى السماء وهمَسَت لي: "ما عساني أفعَل؟". بعد ذلك، صارَ والدايَ يأتون إلى بيتي لرؤية حفيدهما تفاديًا للمشاكل.
كانت حنان قد دخلَت الجامعة وحصلَت على شهادة قيّمة وتعمَل في شركة كبيرة كمديرة. وكما قد يظنّ المرء، هي كانت قاسية للغاية مع باقي الموظّفين لدرجة أنّهم كانوا يرتعبون منها. إلا أنّ طباعها كانت مُفيدة لِسَير العمَل، ولهذا السبب استطاعَت المُحافظة على مركزها وليس بفضل محبّة الناس لها. وحين كانت تعودُ في المساء إلى البيت، كانت تصبُّ على والدَيها ما تبقّى فيها مِن أذيّة لَم تستطِع تصريفها في الشركة. هل سكَتَ أبوَاي عن تصرّفاتها بسبب خوفهما منها فقط أم لأنّها كانت تصرِفُ على البيت مالاً وفيرًا؟ ربمّا المزيج مِن الإثنَين، فزوجي وأزواج بناتهما الباقيات كانوا ذوات دخل محدود.
حياة حنان كانت تسيرُ حسب مُخطّطها، فهكذا أشخاص لا يتركون شيئًا للصّدَف لكثرة حاجتهم للسيطرة على كلّ شيء، كلّ ساعة ودقيقة مِن حياتهم، فلو أفلتَت منهم زمام الأمور، لضاعَ منهم سبب وجودهم.
لكنّ الحياة لا تسيرُ في خطّ مُستقيم والاحتمالات لا تُحصى، وهذا ما حدَثَ أخيرًا لحنان، فتزعزَعَ كلّ الذي عمِلَت على بنائه. هل تدخَّلَ القدَر أم أنّ الصّدف وحدها إجتمعت لِخلق هذا الواقع الجديد؟ لستُ أدري تمامًا.
بعد ولادة ابني الثاني، عُرِضَ على زوجي السفَر إلى الخليج بداعي العمَل، وهو طلَبَ منّي العَيش عند أهلي ليطمئنَّ باله. تمنَّيتُ لو أنّ حماتي كانت تسكنُ بالقرب منّي لألجأ إليها، إلا أنّ بيتها كان يقَع في أقصى الجنوب وفي قرية معزولة. حاولتُ إقناع زوجي بأنّني أستطيع تدبّر نفسي وولدَيَّ لوحدي، إلا أنّه هدّدَني بِرفض فرصة العمَل والبقاء معي على حالنا، أي بدخل بالكاد يكفينا. رضختُ للأمر الواقع، وحملتُ أمتعتنا وولدَينا لأسكن في "وكر الشيطان" كما أسمَيتُه، بعد أن ودّعتُ نصفي الآخر وتمنَّيتُ منه استدعاءنا إليه حين يتسنّى له ذلك.
وكما توقّعتُ، كان استقبال حنان لنا بشعًا للغاية بعد أن عمِلَت جهدها لِخلق المُناخ الذي أرادَته في البيت، وبعد أن صارَ والدايَ راضخَين تمامًا لها. ماذا جئتُ أفعل "عندها" مع مخلوقَين صغيرَين يُحدثان الضجة في كلّ دقيقة مِن النهار والليل؟ لَم أعِرها أيّ أهميّة، على الأقل ظاهريًّا، وعزمتُ على التصرّف بشكل طبيعيّ. حدَّدَت لنا أختي القواعد التي عليّ وعائلتي إتّباعها، ورفضتُ طبعًا الانصياع لتلك القوانين، فلَم نكن في مدرسة داخليّة أو مُعسكر! وهي، بدورها، قرّرَت أن تفعل جهدها لِحملنا على الرحيل، وقد كانت بارعة في ذلك.
الأشهر الأولى التي كانت بمثابة العَيش في الجحيم، قضيتُ وقتي خلالها أبكي سرًّا وأدعوا الله لانتشالي مِن ذلك المكان الرهيب... إلى حين... وقعَت حنان في الحبّ! أجل، لقد قرأتم جيّدًا، فلقد كان لتلك الشرّيرة قلبٌ! لَم أتصوّر أبدًا أنّها قادرة على الشعور بأيّ شيء سوى الكره والبغض، وإذ بها تستسلِم أخيرًا لِمشاعر جميلة ونبيلة.
الحقيقة أنّ حنان تعرّفَت صدفة إلى رجل وفي ظروف قريبة جدًّا مِن طباعها. فذات يوم، دخلَت أختي مرآب المجمَّع التجاريّ بسيّارتها باحثةً عن مكان للركن. ولكثرة السيّارات، دارت مرّات عديدة في المرآب لتجد أخيرًا المكان الوحيد الخالي. لكن في تلك اللحظة بالذات، ركَنَ محلّها شخصٌ وأطفأَ المُحرّك وترجّلَ، ليجِد أمامه امرأة غاضبة لأقصى حدّ وتقولُ له أشياءً رهيبة للغاية. هو حاوَلَ تهدئتها، إلا أنّها زادَت غضبًا فابتسَمَ لها قائلاً: "لن أُزيل سيّارتي مِن مكانها، لكنّني سأدعوكِ لشرب فنجان قهوة في المكان الذي تختارينَه. ما رأيكِ يا جميلة؟". خرِسَت حنان فجأة، فكانت تلك أوّل مرّة في حياتها تسمعُ فيها إطراءً مِن أيّ كان. فابتسمَت بدورها وأجابتَه: "لكن، أين سأركنُ سيّارتي لأشرب معكَ القهوة؟". وفجأةً، خرجَت سيّارة مِن مكانها واستطاعَت حنان الركن محلّها.
لاحظتُ على أختي تغيّرًا ملحوظًا في شكلها وتصرّفاتها، وأعترفُ أنّني خفتُ عليها إذ أنّني لَم أرَها يومًا سعيدة. هل كانت قد فقدَت عقلها يوم اقتربَت مِن ولدَيّ وبدأَت تُلاعبُهما وهي تبتسِم، أم أنّها أعدَّت لنا خطّة شرّيرة؟ كنتُ بعيدة كلّ البعد عن تخيّلها مُغرمة برجُل! لكن بعد أسابيع، زفَّت لنا حنان خبَر زواجها القريب، وكيف أنها تعرّفَت إليه وصارا ثنائيًّا سعيدًا في فترة قصيرة. عانقتُها بقوّة لأنّني بالفعل سعدتُ مِن أجلها، وتنفَّسَ والدايَ الصعداء بعد أن عانا منها مدّة تُقارب الثلاثين سنة. فكانت حنان ستُغادرُ البيت أخيرًا! تحضّرنا لاستقبال العريس وأهله لعقد القران... لكنّ الرجل غيّرَ رأيه في آخر لحظة. مسكينة يا حنان!
لن تتصوّروا أبدًا مدى حزن أختي وضياعها. فبعد أن رأَت بعَينَيها أنّ الحياة يُمكنُها أن تكون جميلة، سُلِبَ منها كلّ ذلك فجأة. أنا مُتأكّدة مِن أنّها ندِمَت على تخلّيها، ولو لفترة، عن طباعها البشع وحبّها للتسلّط والطغيان، لكنّها أسِفَت أكثر على عدَم تمكّنها من استعادة تلك الشخصيّة الفظّة والشرّيرة.
لكن بفضل دخول الحبّ قلبها، وبالرغم مِن ترك حبيبها لها، صارَت حنان غير قادرة على فعل الشرّ بالرغم مِن مُحاولاتها العديدة. كان المشهد مُحزنًا للغاية، صدّقوني، فهي كانت تصرخُ فينا عاليًا ومِن ثمّ تجهش بالبكاء. للصراحة، كنتُ أفضُّلها كما كانت سابقًا، كما عرفتُها دائمًا. لكنّ "حنان الجديدة" كانت غريبة عنّا تمامًا واحترنا كيف نتعاملُ معها. حتى في عملها، بدأَت أختي تقترفُ الأخطاء الواحد تلوَ الآخر، وباتَ مركزها في خطر بعد أن أحسَّ الموظّفون بأنّها ضعُفَت وبدأوا يستغلّون الظرف للانتقام منها. وكيف ألومهم؟
أُصيبَت حنان باكتئاب قويّ، ووصَفَ لها الطبيب قضاء فترة مِن الزمَن لوحدها في مكان هادئ، لِذا إستأجرَت منزلاً صغيرًا في منطقة جبليّة وراحَت إليه مع حقيبتها. خفتُ أن تقترفَ بنفسها شيئًا رهيبًا، فأوصَيتُها بالاتّصال بي يوميًّا. هزَّت حنان برأسها ورحلَت.
أُطمئنُكم، لَم تنتحِر حنان بل العكس. فيوم عادَت إلى البيت، هي لَم تعُد لوحدها، بل برفقة كلب كبير! نظرنا جميعًا إليها باندهاش، فهي لطالما كرِهَت الحيوانات وخاصّة الكلاب ووصفَتهم بالمخلوقات القذرة والبشعة. وها هي تجلِبُ ما يُسمّى كلبًا مُتشرّدًا إلى مسكنها! للحقيقة، لمستُ تقاربًا شديدًا بينها وبين ذلك الحيوان، إذ بدا لي وكأنّهما سويًّا منذ زمَن طويل، فهو لَم يُبارِح جانبهما قط وهي كانت تنظرُ إليه بحبّ شديد. سألناها عن الظروف التي أوصلتها إلى إيجاد ذلك الكلب، فقالَت:
ـ إنّه مثلي تمامًا... أفهمُه وهو يفهمُني... فهو علاجي النفسيّ والدواء لِدائي... حين كنتُ في ذلك البيت شعرتُ بالوحدة، إلا أنّني علِمتُ أنّ مِن الضروريّ أن أرجِع إلى ذاتي للخروج مِن كآبتي. وذات يوم، رأيتُ كلبًا مُتشرّدًا نائمًا أمام بابي! إشمأزَّ بدَني لدى رؤيته، فتعلمون جميعكم كَم أكرَه الكلاب، وحاولتُ طرده بالصراخ عليه وبإخافته بعصا المكنسة. إلا أنّه لَم يهرب بل نظَرَ إليّ بتعجّب وكأنّه يسألُني: "ماذا فعلتُ لكِ كي تُعامليني هكذا؟". تركتُه مكانه آملةً أن يرحَلَ مِن تلقاء نفسه. لكنّه لَم يفعل بل بقيَ حيث هو لمدّة يومَين. تجاهلتُه كليًّا وأقنعتُ نفسي بأنّه غير موجود، إلى حين خطَرَ ببالي أنّ ذلك المخلوق لَم يأكل شيئًا بعد. كنتُ جالسة في المطبخ أتناولُ وجبة العشاء، فشعرتُ بالذنب وخرجتُ أُعطيه فضلاتي. ولحظة مددتُ يدي لوضع الطبق أمامه، لعقَ الكلب يدي شاكرًا. إستغربتُ كثيرًا أنّني لَم أشعر بالاشمئزاز على الإطلاق، بل شعرتُ بدفء عميق لأنّني لمستُ حبّه لي. فصرتُ أُطعمُه يوميًّا إلى أن أدخلتُه إلى البيت حين تغيّرَت أحوال الطقس وبدأ المطَر يهطلُ. وهو صعِدَ على الأريكة إلى جانبي وقضَينا الأمسية سويًّا. ومنذ ذلك المساء، هو لَم يُبارِح جانبي فقرّرتُ أن أجلبُه إلى هنا معي. وفي طريق العودة أخذتُه إلى طبيب بيطريّ فحصَه وأعطاه اللقاحات اللازمة. للحقيقة، لا أظنّ أنّني قادرة على العَيش مِن دونه. لا أتوقّع منكم أن تفهموني، فهذا الكلب هو الحبّ بذاته.
وكانت حنان على حقّ، فالكلب أحبَّ ولدَيّ مِن أوّل لحظة، ولعِبَ معهما ونامَ بالقرب منهما وكأنّه يحرسُهما. أنا الأخرى أحببتُه، ففي عَينَيه نظرة بالفعل مليئة بالحبّ والحنان.
هل يُعقَل أن يكون هذا الحيوان هو الذي أنقذَ أختي مِن الكآبة التي تلَت حياةً مليئة بالشرّ والأذى؟ أفضّلُ أن أقول إنّ الحبّ هو الذي فعَلَ ذلك بها. أوّلاً حبّها لذلك الرجل، وثانيًا حبّ الكلب لها وإصراره على أن تُبادله حنانه. إذًا الحبّ هو الحلّ للشرّ. كنتُ أعلَم ذلك لكن شكليًّا، والآن لمستُه فعليًّا.
صارَ "ماكس" فردًا مِن العائلة، وبفضله عمَّ السلام بيننا وقرّرتُ جلب كلب لولدَيّ فور استقرارنا في الغربة، بعد أن رأيتُ تأثيره على كلّ منّا.
ماذا حدَثَ لحنان؟ لن تُصدّقوني! فهي الآن مُتزوّجة مِن رجل تعرّفَت إليه عند الطبيب البيطريّ يوم مرض "ماكس" وأخذَته للمعالجة. وهي تسكنُ مع زوجها وكلابهما العديدة بسعادة تامة. مَن كان يتصوّر ذلك؟ فمِن إنسانة حاقدة وشرّيرة، صارَت حنان فعلاً نبعًا مِن الحنان والحبّ! سبحانكَ يا ربّ!
حاورتها بولا جهشان