تزوجت رجلاً غامضاً...

تعرَّفتُ إلى سمير عبر الانترنِت، حين كنتُ ألَعب لعبة تضمُّ لاعبين يشتركون مع بعضهم البعض. لَم يكن لدَينا معلومات حقيقيّة عن الآخَرين، إذ أنّ كلًّا منّا كان يستعمِل اسمًا مُستعارًا وصورة مأخوذة عن أبطال المانغا اليابانيّة. لكن في إحدى المرّات، دخَلَ شخص بريدي الخاصّ طالِبًا التعرّف إليّ. إستغرَبتُ الأمر، فما الذي أعجبَه بي في حين أنّه لا يعرِف شيئًا عنّي؟ أجابَني الذي اسمه سمير أنّ طريقة لعبي كانت مُميّزة وتدلُّ على مُستوى ذكاء عالٍ، وهذا بالذات ما يجذِبه في الصبايا والسيّدات. شكرتُه بتهذيب إلّا أنّني بالفعل لَم أكن مُهتّمة بالموضوع، فكان هدَفي اللعب وليس التعارف.

لكنّ سمير بقيَ مُصِرًّا، وظلَّ يُرسِلُ لي الكلام الجميل إلى حين بدأتُ أعتاد عليه وانتظرُ كلمة منه يوميًّا. في البدء كنتُ أسأل نفسي كيف يبدو، ما هي ملامحه وطوله، وإن كان وسيمًا أم لا. لكن مع الوقت، تلك التفاصيل لَم تعد تهمُّني لأنّني بتُّ قريبة مِن شخصه وعقله وقلبه. وبما أنّني كنتُ آنذاك في السابعة عشرة مِن عمري وأتمتَّع بخيال رومانسيّ واسِع، قرّرتُ أنّ ذلك الشاب سيكون مَن أقضي معه العُمر كله... قَبل أن أراه! فكما العديد، كنتُ قد سمِعتُ بتلك العلاقات الناجِحة التي انتهَت بالزواج، بين شخصَين أحَبّا بعضهما مِن دون أن يرى الواحِد منهما الآخَر. لكنّني لَم أسمَع بملايين العلاقات الأخرى التي باءَت بالفشل للسبب نفسه!

جاءَ أخيرًا اليوم الذي حدَّدتُه لمُقابلة سمير، أيّ بعد أكثر مِن ستّة أشهر مِن تبادل الرسائل الخطّيّة. وحتى ذلك الحين، لَم أرَه أو أسمَع صوته، فهو لَم يشأ أن يبعَثَ لي صورته، بالرغم مِن وعدي له بأن أرسِل له صورتي في المُقابل. ولحظة دخَلَ سمير المقهى حيث كنتُ بانتظاره، فهمتُ لماذا هو أبقى شكله مخفيًّا عنّي: فكان لدَيه آثار حرق كبير في جهة مِن وجهه، الأمر الذي شوَّهَه بشكل فاضِح. لَم أستطِع إخفاء مُفاجأتي، وهو حزِنَ كثيرًا وقالَ: "هذا ما كنتُ أخشاه. هل تُريديني أن أرحَل؟"

خجِلتُ مِن ردّة فعلي، فدعوتُه للجلوس قُبالتي، وبدأتُ أحكي عن أشياء بسيطة حين هو قاطعَني:

ـ أنا مُتأكّد مِن أنّكَ تُريدين معرفة ما حدَثَ لوجهي.

 

ـ أجل... أعني... إن كنتَ تُريدُ إخباري.

 

ـ بالطبع، فلا أُريدُكِ أن تُركّزي على تشوّهي فقط خلال لقائنا الأوّل. لكن اسمَحي لي بأن أقولَ إنّكِ صبيّة جميلة للغاية، وإنّني سعيد جدًّا بلقائكِ.

 

ـ شكرًا على الاطراء.

 

ـ إنّها الحقيقة... وأخشى أن تجدَني هكذا صبيّة قبيحًا مُقارنة بها.

 

ـ لا... أبدًا... لكنّني تفاجأتُ وحسب، فأنتَ لَم تُثِر أبدًا موضوع... حرقكَ.

 

ـ لتهربي منّي قَبل أن يتسنّى لي التعرّف إليكِ؟

 

ـ لستُ فتاة سطحيّة.

 

ـ لَم أكن مُتأكِّدًا مِن ذلك. حسنًا... سأقولُ لكِ كيف تشوَّهَ وجهي، وإن كنتِ لا ترغبين بمواصلة علاقتنا بعد ذلك، سأتفهّم الأمر. منذ بضع سنوات، شبَّ حريق في المبنى الذي أسكنُ فيه، وفي الشقّة المُجاوِرة بالتحديد حيث تعيش عائلة مؤلّفة مِن أب وأمّ وولدَين صغيرَين. رأيتُ الدخان يدخل مِن تحت بابي، ففتحتُه لأرى المَمَرّ مليئًا بدخان كثيف مصدره تلك الشقّة. بعد دقائق، خرَجَ الأب ومعه الأم وولَد واحِد، لكنّ الولَد الثاني بقيَ في الداخِل. الثنائيّ وابنهما كانوا على وشك الاختناق، فدخلتُ الشقّة حيث كانت تتعالى النيران، واستطعتُ رؤية ذلك الولَد الذي كان يصرخُ ويبكي مِن شدّة خوفه. أمسكتُه وحملتُه إلّا أنّ النيران شبَّت قربي وقرب وجهي بالأخصّ، فاحترَقَ. لكنّني لَم أتوقّف عن الجري بالولَد إلى حين وصلتُ إلى خارج الشقّة وسلّمتُه لوالدَيه الشاكرَين. بعد ثوانٍ، وصَلَ فوج الاطفاء وسَيطروا على الحريق بسرعة. وبعد فترة، ترَكتُ مسكني لأنّه كان يُذكِّرني دائمًا بالذي حصَل. هذه قصّتي يا عزيزتي، قصّة رجُل أرادَ إنقاذ حياة بريئة على حساب نفسه، وأنا أعرفُ أنّ تشويهي سيُدمِّر حياتي العاطفيّة. فمَن يُريدُ انسانًا بهذا الشكل؟

 

ـ أنا أُريدُه، فأنتَ بطَل ويجدرُ بكَ أن ألّا تخجلَ مِن تشويهكَ، بل أن تحمِله بفخر وكأنّه وسام شرَف.

 

ـ أهذا حقًّأ رأيكِ بي؟

 

ـ أجل.

 

تتالَت اللقاءات بعد ذلك، ثمّ تعرَّفَ سمير على أهلي، لكنّني لَم ألتقِ بذويه لأنّه كان يتيم الأبوَين، وكلّ أقاربه يعيشون في الغربة. سألَ أبي عنه في جوار مسكنه الجديد الذي انتقَلَ إليه بعد حادثة الحريق، والكلّ قال عنه إنّه انسان لطيف ومُهذّب. تزوّجنا وعشتُ في شقّة صغيرة مع زوجي البطَل، وصِرتُ أقولُ للجميع إنّ الانترنت هو أفضل وسيلة للتعرّف على الشريك، وحثَّيتُ صديقاتي على المُحاولة بدورهنَّ.

لكن مع الوقت، بدأتُ أشعر أنّني لستُ حقًّا سعيدة مع سمير، فهو لَم يكن كما تصوّرتُه، أيّ رجُل رومانسيّ لا يُريدُ سوى سعادتي. فاتّضَحَ أنّه انسان عاديّ للغاية، يذهبُ إلى عمَله ليعودَ منه ويأكل ويشاهد التلفاز ثمّ ينام، بعد أن يُطالبُني بالقيام بواجباتي الزوجيّة. أين ذهَبَ ذلك الشاب المُحِبّ والذي يعرفُ كيف يختار كلماته الجميلة والتعابير الشاعريّة؟ أين راحَت وعوده بتأمين حياة رائعة لي؟ فقد كان راتبه بالكاد يُغطّي الفواتير وبعض الطعام، ولَم نذهب إلى أيّ مكان ولو بسيطًا. وما هو أهمّ، هو أنّ نوبات غضب كبيرة كانت تنتابُه حين كان يشعُر بأنّه ليس مُسيطرًا على الأمور في ما يخصُّني أو يخصّ أيّ كان، وينزعِجُ مِن كلّ شيء مهما كان بسيطًا، وأعترِفُ أنّني أحسَستُ بالخوف منه ومِمّا يمكنه فعله حين يكون بهذه الحالة.

إلا أنّني تمَسَّكتُ بفكرة البطَل الشجاع الذي أنقَذَ طفلًا مِن الموت، فكان ذلك كلّ ما تبقّى لي، لأنّني كنتُ صبيّة حالِمة، وهذه كانت نقطة ضعفي التي استغلَّها سمير ليصِل إلى قلبي ويحمِلني على قبوله كيفما كان.

وذات يوم، ناداني أبي لأزورَه لأنّه كان مُتوعِّكًا صحّيًّا ويُريدُني أن أُسلّيه. لبَّيتُ الدعوة طبعًا لكن لدى وصولي، وجدتُه بكامِل عافيَته. وعندما سألتُه عمّا يجري قال لي:

ـ أرَدتُ رؤيتكِ للتكلّم معكِ على انفراد يا حبيبتي.

 

ـ ما الأمر؟ هل حصَلَ مكروه لأحَد؟!؟ مَن مات؟؟؟

 

ـ لا أحَد... لا عليكِ.

 

ـ ما الأمر إذًا؟؟؟

 

ـ زوجكِ... هو بخير، لا تخافي! إلّا أنّه كاذِبٌ كبير.

 

ـ ما هذا الكلام؟!؟

 

ـ أقصُد حادِثة الحريق الذي قصَّها لكِ ولنا مرّات لا تُحصى.

 

ـ أكمِل!

 

ـ لقد إلتقَيتُ صدفةً بصديق قديم لي، وأثناء تحدّثنا، أخبَرتُه طبعًا أنكِ تزوّجتِ، فسألَني صديقي مَن يكون ذلك العريس فقلتُ له اسمه. ثمّ سألَني إن كان لدَيه حرق في وجهه، فأجبتُه بِ"نعم". عندها، أخذَني جانبًا وقال: "أبعِد ابنتكَ عنه بسرعة، فذلك الشخص افتعَلَ حريقًا في شقّة جيرانه بعد خلافات عديدة معهم، فكسَرَ قفل بيتهم وأضرَمَ النار فيه. ونتيجة لذلك، إحترَقَ وجهه وفرَّ إلى جهّة مجهولة. أنكَرَه أهله وساهَموا في تكاليف ترميم شقّة هؤلاء الجيران المساكين الذَين كانا لدَيهما طفلان، ولَم يسمَع الأهل أيّ خبَر عن ابنهم بعد ذلك الحين". تصوَّري مُفاجأتي يا إبنتي وخوفي عليكِ، وذهبتُ مِن دون أن أقولَ لكِ إلى تلك المدينة حيث وقَعَ الحريق، وعلى هاتفي صورة لِسمير بصحبتكِ يوم الزفاف أرَيتُها لأصحاب الشقّة التي احترقَت، فأكّدا لي أنّه بالفعل الشخص نفسه الذي دمَّرَ مسكنهما. والسبب كان أنّ طفلَيهما كانا صغيرَين آنذاك، ويُحدِثان ضجيجًا أزعَجَ سمير الذي صارَ يصرخُ عليهما ويُهدِّد بإسكات الصغيرَين عنوةً أو حَمل العائلة بأسرها على ترك الشقّة والمبنى. وفي أحَد الأيّام، حين كانوا جميعًا خارج المدينة، هو نفّذَ تهديده. وقد عرفوا مَن هو الفاعل ليس فقط بسبب شكوكهم وتهديداته لهم، لكن أيضًا مِن الكاميرات موجودة في المبنى.

 

ـ يا إلهي! كنتُ أشعرُ أن شيئًا ليس على ما يرام بتصرّفات سمير! ما العمَل يا بابا؟!؟ فهو قد ينتقِم منّي إن تركتُه! أو... يقتلني!

 

ـ لا عليكِ... لقد قدّمتُ بلاغًا به لدى الشرطة تحت اسم مجهول، وهم سيقبضون عليه اليوم على الأرجح في مكان عمَله. إبقي هنا ولا تعودي إلى بيتكِ قَبل أن يصبح في قبضة العدالة.

 

وبالفعل تمَّ القبض على سمير وحوكِمَ وسُجِنَ. عندها أوكَلَ والِدي مُحاميًّا وحصَلتُ على الطلاق بسرعة، وشكَرتُ ربّي أنّني لَم أحمَل منه. سمير الآن وراء القضبان، وأخشى أن يننقِمَ منّي لأنّني طلّقتُه، لكنّ أبي طمأنّني بأنّه سيحميني منه مهما كلّفَ الأمر... فهو البطَل الحقيقيّ!

 

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button