كانت لأمّي ميول فنيّة قويّة كبتَتها لسنوات طويلة، بسبب مُحيطها العائليّ ومِن ثمّ رفض أبي أن يكون لها مُستقبل كممثّلة. وهذا الموضوع ولَّدَ في قلبها مرارة كبيرة تترجَمَت بامتعاض طال مَن كان مِن حولها، وعلى الأخصّ زوجها. فهي صارَت، مع مرور الزمَن، تُعاملُه بقساوة وجفاف، الأمر الذي دفَعَه إلى تمضية مُعظم وقته خارج المنزل.
لكنّ والدتي صبَّت حنانها عليّ، بعد أن وجَدَت فيّ نسخة مُصغّرة عنها. كنتُ ابنتها الوحيدة بعد أن قرَّرَت أنّ لا جدوى مِن الإنجاب مُجدّدًا مِن رجل لا يفهمُها ولا يُقدّرُ مواهبها، وكنتُ قد أبدَيَتُ ميلاً لرقص الباليه الكلاسيكيّ.
لا أعرفُ كيف كانت ستكون حياتي اليوم لو أنّ حبّي للرّقص بقيَ مُجرّد هواية، ولو أنّ والدتي لَم تُقرّر تحقيق أحلامها مِن خلالي، لكنّ أمورًا كثيرة لَم تكن لتحصل.
أخذَتني والدتي إلى أفضل معهد لتعليم البالية في البلد، وكنّا نقطعُ مسافات كبيرة مرّتَين في الأسبوع لأتلّقى دروسًا كانت، وحسب أمّي، ستوصلني إلى النجوميّة. كانت مُدرّستي ممتنّة جدًّا منّي وأكّدَت لنا أنّ لدَيّ مُستقبلاً لامعًا أمامي. كنتُ حقًّا موهوبة، والذي زادَ مِن مهارتي، كان دَعم أمّي الدّائم لي. أبي، مِن جهّته، إعتبَرَ الأمر سلوى وحسب، تمامًا كطموحات زوجته التي سبَقَ وسحقَها.
مرَّت السنوات وصِرتُ آخذُ الدّور الرئيسيّ في كلّ الحفلات التي كان يُنظّمها المعهد، وكانت والدتي تصّفقُ لي عاليًا وتقولُ للحاضرين بفخر: "هذه إبنتي! إحفظوا إسمها جيّدًا لأنّكم ستسمعونَه كثيرًا."
دخلتُ الجامعة لأتخصّص بالمحاماة، شغَفي الثاني، ولَم يعدُ لي الوقت الكافي للتركيز على الرقص، الأمر الذي أزعَجَ أمّي كثيرًا. فهي خافَت أن يذهَبَ كلّ ما فعلناه سدىً. لِذا، وجَدَت لي معهدًا في أوروبا يُمكّنُني مِن احتراف الرّقص عالميًّا. السّفَر لَم يكن مِن ضمن مشاريعي، خاصّة بعدما تعرّفتُ إلى شاب ونوَيتُ معه الزواج لاحقًا.
لكنّ الحبّ كان بالنسبة لوالدتي "مقبرة الأحلام"، وهي لَم تشأ أن يحصل لي ما حصَلَ لها، لِذا أقنعَت أبي بأن يُرسلني إلى خارج البلاد. كيف توصّلَتَ إلى حمله على القبول؟ بسبب علاقة كان يُقيمُها مع إحدى النساء، وبعد أن هدَّدَته بفضحه أمام الناس، الأمر الذي كان سيُدمّر سمعته. حاولتُ بكلّ الوسائل المُتاحة لي أن أواصل حياتي كما خطَّطتُ لها، إلا أنّني اضطرِرتُ للخضوع لرغبة والدَيَّ. فحبيبي كان لا يزال تلميذًا جامعيًّا ولا يملكُ بعد الإمكانات لتأسيس عائلة. ودّعتُه والدموع تنهمرُ على خدَّيَّ وسافرتُ إلى أوروبا.
إستقرَّيتُ في مبنى مُخصّص لطالبات المعهد، وتشاركتُ غرفة مع صبيّة قادمة مِن ألمانيا، الأمر الذي صعَّبَ عليّ التواصل معها. لِذا، قرَّرَتُ التركيز على الرّقص، بعد أن وجدتُ أنّه الشيء الوحيد الذي تبقّى لي.
كانت الأمور مُختلفة في الخارج، إذ أنّ المدرّسين كانوا أكثر صرامة وتطلّبًا، وكانت هناك مُنافسة شديدة بين التلميذات. فالموضوع كان جدّيًّا للغاية والضغط الجسديّ والنفسيّ لا يُطاق. فكّرتُ كثيرًا ومرارًا بترك كلّ شيء والعودة إلى البلد، إلا أنّني كنتُ أعلم أنّ والدتي ستُرسلني إلى مكان آخر. لِذا، فضلّتُ البقاء حيث أنا... والمواصلة.
سهلَت الأمور عليّ مع الوقت، إذ أنّني تصادَقتُ مع "آنّا" زميلتي في الغرفة، وتعلّمتُ بعض الكلمات باللغة الألمانيّة وهي تعلّمَت الإنكليزيّة معي، وصرتُ أرافقُها أينما ذهبَت ونلتقي بأصدقائها الألمان الذين كانوا مَرحين للغاية. كانت آنّا موهوبة أكثر منّي بالرّقص، فبينما كنتُ أتقنُ تنفيذ الخطوات، كان لدَيها هي الرقّة والخفّة وشيء إضافيّ كان يحملُ كل مَن رآها ترقص على التركيز عليها وحدها. لَم يُزعجني الأمر بتاتًا، فلَم أعتبر نفسي يومًا نجمة، بل أمّي هي التي اعتقدَت ذلك.
لكنّني كنتُ أجمل مِن آنّا، الأمر الذي لَم يغِب عن نظر حبيبها. فالفتيات الشرقيّات تتمتّعنَ بجاذبيّة كبيرة مُقارنة بالأوروبيّات. لِذا، بدأ "هانس" يُلاطفُني ويمدحُني ويُفتّش عن وسيلة للجلوس بالقرب منّي كلّما التقَينا بالشلّة. لَم أبادله إهتمامه إحترامًا لصديقتي ولأنّني، للصراحة، لَم أُعجَب به على الإطلاق.
لكنّ آنّا لَم تتقبّل رؤية حبيبها يحوم حولي وظنَّت أنّني قد شجّعتُه على ذلك، واعتبرَت الأمر "خيانة مزدوجة." ولو سألَتني عن الأمر، لأجَبتُها بكلّ وضوح وكان قد زال سوء التفاهم. إلا أنّ صديقتي كبَتَت مشاعرها، ما أدّى إلى باقي الأحداث.
في البدء، أسمعَتني آنّا مُلاحظات لَم أفهم معناها، ثمّ توقّفَت عن أخذي معها للقاء الشلّة. إستغربتُ الأمر، فحججها لَم تكن مُقنعة، إلا أنّني لَم أصرّ على مرافقتها.
لكن في إحدى الأمسيات، عادَت آنّا مِن لقاء مع حبيبها غاضبة للغاية وبدأَت تصرخُ بي بالألمانيّة، إلا أنّني لَم أفهم كلمة مِن الذي قالَته. حاولتُ تهدئتها، لكنّها كانت كالمجنونة. وقالت لي بنبرة جدّيّة للغاية: "ستدفعين الثّمَن." ومنذ تلك الليلة، إنتقلَت آنّا للنوم في غرفة فتيات أخريات.
حتى أثناء الدروس، لَم تعد صديقتي تقترب منّي، بل صارَت تبقى مع زميلات لها، وكنّ تتهامَسنَ عليَّ طوال الوقت. كان بودّي معرفة سبب هذا الإنقلاب المفاجئ، إلا أنّ آنّا لَم تُعطِني الفرصة.
فبعد أيّام قليلة، عندما كنتُ أنزلُ سلالم المعهد، جاء أحد ودفعَني مِن الوراء. وعند وصولي أسفل السلالم، كان جسمي قد تكسَّرَ بأكثر مِن مكان. بقيتُ في المشفى مدّة الخضوع لعمليّتَين، الواحدة بالرّجل والأخرى باليد، وكنتُ في حالة نفسيّة يُرثى لها. كنتُ أعلمُ ما كانت تعنيه إصابتي، فقَبل أن يُعطيني الأطبّاء تقريرهم، كنتُ أعرفُ أنّني لَن أستطيع الرقص مجدّدًا.
لَم أتمكّن مِن اتّهام آنّا بدفعي أسفل السلالم، لأنّها ادّعَت أنّها كانت لا تزال في صالة الرقص مع زميلاتها. كنتُ واثقة مِن أنّ لها دخلاً بما حصَلَ لي، ولَم أعرف سبب نقمتها عليّ إلا عندما جاءَت تزورُني في المشفى وقالت لي مُبتسمة:
ـ هل ظننتِ للحظة أنّني سأسامحُكِ على أخذ حبيبي منّي؟ فهو اعترفَ لي بحبّه لكِ أيّتها الساقطة! لقد صادقتُكِ وعرّفتُكِ على شلّتي كي لا تشعري بالوحدة، وهكذا تُكافئيني؟
ـ أقسمُ لكِ أنّني لَم آخذ أحدًا منكِ! لَم أرِد حبيبكِ يومًا ولَم أعطِه أيّ اهتمام!
ـ أنتِ كاذبة! على كلّ الأحوال لقد تخلّصتُ منكِ بصورة دائمة، فلا حاجة لكِ بعد الآن للبقاء في المعهد... أو في البلد. الوداع!
كانت آنّا على حقّ، فعدتُ إلى البلد وإلى والدَتي مكسورة جسديًّا ومعنويًّا. وأبشَع ما في الأمر أنّني صرتُ أعرجُ وأستعينُ بعصا خلال تنقّلي. قيل لي إنّ الأمر سيتحسّن مع الوقت، وصلَّيتُ أن يكونوا على حقّ.
عاتبَتني أمّي على عودتي، أو بالأحرى على سقوطي مِن السلالم وكأنّ الأمر كان بإرادتي. أسفتُ لأنّها لَم تشعر بألمي أو بحالتي، بل بقيَت تلمحّ إلى "عدم تقديري لتضحياتها".
أبي مِن جهّته كان يبتسمُ كلّما نظَرَ إليّ وأنا أمشي، وكأنّه ينتقمُ مِن أمّي مِن خلالي. كانت حالتي النفسيّة مُزرية جدًّا، وخطَرَ ببالي أن أبحث عن بعض الراحة عند حبيبي القديم. إلا أنّه كان قد تزوّجَ ويعيشُ بسعادة مع التي أخَذَت مكاني. عُدتُ إلى الجامعة وإلى المُحاماة، لكنّني كنتُ قد أصبحتُ كبيرة على باقي التلامذة، الأمر الذي كان يُذكّرُني بالسنوات التي ضاعَت منّي. لِذا تركتُ الجامعة على أمل أن أفعل شيئًا بنّاءً بحياتي البائسة.
في تلك الأثناء، ترَكَ أبي والدتي، بعد أن وجَدَ زوجةً تُعطيه الحبّ والحنان الذي يحتاجُهما. وهو لَم يتكبّد عناء توديعي، وكأنّه كان مُستعجلاً لِترك حياة وأناس لَم يكن يريدُهم.
ووسط كلّ ذلك العذاب، وحين اعتقدتُ أنّ حياتي تدمَّرَت كلّيًّا، رأيتُ الضوء في آخر النفق:
دقَّت إحدى جاراتنا في المبنى بابنا بصحبة إبنتها التي كانت في السادسة مِن عمرها، وقالَت لي حين فتحتُ لها:
ـ آسفة لإزعاجكِ يا آنسة... إبنتي تهوى رقص الباليه، وخطَرَ ببالي أن أسألكِ إن كان بإمكانكِ تعليمها بعض الخطوات. أقساط المعاهد باهظة الثمَن، ولقد علِمتُ أنّكِ عُدتِ إلى البلد وأنّكِ في الوقت الحالي ماكثة في البيت بسبب...
ـ بسبب عرجتي، نعم. إجلبيها غدًا في فترة بعد الظهر. لا تنسِي شراء الملابس المُناسبة لها.
ـ أشكرُكِ يا آنسة! سأدفعُ لكِ أجرًا بالطبع...
ـ لن آخذ منكِ شيئًا... إذا أمَّنتِ لي تلميذة أخرى.
كنتُ قد قلتُ لها ذلك مِن دون سابق تصميم، بل تلقائيًّا.
وبعد فترة قصيرة، صارَ لدَيّ مجموعة صغيرة مِن التلميذات. كيف لَم أفكّر بالأمر قبل ذلك؟ ربمّا لأنّ الإحداث تتالَت بسرعة وهبطَت المصاعب عليّ بكثرة، الأمر الذي مَنعَني مِن التفكير بوضوح.
اليوم لدَيّ معهد كبير وقد استعَنتُ بمدرّسات لاستيعاب عدد المُنتسبات. أوكَلتُ أمّي بالقسم المُتعلّق بالتسجيل وبَيع الملابس، وهي وجدَت سلوى أنسَتها رحيل أبي.
لَم أجد الحبّ بعد، لكنّني واثقة مِن أنّني على الدرب الصحيح، أي أنّ شفائي الجسديّ والنفسيّ على وشك الحصول. عندها سأفتحُ قلبي وأحبّ مجدّدًا. فالحياة تُعطينا كلّ الفرص التي نحتاجُها لتخطّي المصاعب، وكلّ ما علينا فعله هو التحلّي بالصّبر والأمل.
حاورتها بولا جهشان