عانقتُ زوجي رياض بقوّة حين زفَّ لي خبَر إيجاده بيتًا في الجبَل، فكان ذلك حلمي منذ صغري. فالحقيقة أنّني ابنة مدينة ولَم يكن لدى أهلي جذور إلا في المدينة، على خلاف أهل رفاقي في المدرسة الذين كانوا يقضون فرَصهم في بيت القرية أو الجبَل العائليّ. هناك كانوا يلتقون بأقاربهم وأصحابهم، ويقضون وقتًا مُمتعًا يتحوّل إلى قصص وأخبار وذكريات تدومُ العمر كلّه.
أخذَني رياض إلى ذلك البيت ووجدتُه تمامًا كما أرَدتُه، أيّ وسط حرج مِن الصنوبر حيث تُعشِشُ العصافير، وعلى سقفه قرميد أحمَر اللون وشبابيك خُضر وباب خشبيّ قديم الطراز. الداخل كان جميلاً وواسعًا، فأعطَيتُ زوجي موافقتي وأخذتُ أتخيّل أين سأضَع الأثاث الذي سيستقبلُنا خلال الصيف وسائر العطلات. والذي زادَ مِن حماسي، هو أنّ قلب القرية كان على مسافة دقائق قليلة مشيًا على الأقدام، أيّ أنّني أستطيعُ شراء حاجاتي مِن الدكّان والعودة إلى البيت مِن دون استعمال سيّارتي. جيراني كانوا قليلي العدد، فقد كان هناك فقط منزلان بجواري تفصلُنا عنهما أرض واسعة وفسيحة.
إشترَيتُ بسرعة البيت مِن مالي الخاص الذي ورثتُه مِن أبي، رحمه الله، قبل أن يسبقَنا أحدٌ، وباتَ الموضوع يشغلُ بالي ليلاً نهارًا لكثرة حماسي للذهاب إليه. خُيّلَ لي أنّني لا أزالُ أملكُ الوقت لِصنع ذكريات وكأنّني فتاة صغيرة. لَم أكن أدري بعد أنّ الذكريات التي يصنعُها البالغون تختلِف كثيرًا ولا تكون بالبساطة نفسها والجمال... خاصّة إنّ كانوا سيسكنون في ذلك البيت وفي تلك القرية!
جاءَت أخيرًا عطلة العيد فحضّرتُ الحقائب وانتظرتُ زوجي، وقدنا مسافة طويلة حتى وصَلنا إلى ما أسمَيتُه "بيتنا في البراري" تيمّنًا بمسلسل تلفزيونيّ شهير. وفي تلك الليلة نمتُ والبسمة على وجهي، فكنتُ قد حقّقتُ حلمي أخيرًا.
في الصباح رحتُ ورياض نمشي في الجوار، لنصل إلى قلب القرية التي كانت تضمُّ دكّانًا وفرنًا وجزّارًا وكاراجًا، وأخيرًاصالونًا لتصفيف الشعر. جلنا على جميع المحلات وعرّفنا على أنفسنا، واشترَينا حاجاتنا قبل أن نعود سعيدَين إلى البيت.
في اليوم التالي، لبستُ ملابس الرياضة ورحتُ أتفقّد "أرضنا"، فدخلتُ الحرج وتمشَيتُ بين الشجر وكنتُ بغاية السعادة. وسمعتُ فجأة صوت يهمسُ لي مِن بين الصنوبَر:
ـ لا عمَل لكِ هنا... عودي إلى المدينة!
حاولتُ معرفة مصدر وصاحب أو صاحبة هذا الكلام، لكنّ الشخص اختفى في الحرج. للحقيقة، غضبتُ مِن هذا الكلام، فتمنَّيتُ أن يُرحّب الجميع بنا بدلاً مِن حثّنا على الرحيل. أخبرتُ رياض عن الأمر وهو طمأنَني قائلاً:
- لا بدّ أنّه عجوز ما يعيشُ مُنعزلاً أم هو مُختلّ عقليًّا، فكلّ قرية لدَيها مجنونها. ألَم ترَي كيف سُرَّ بنا أصحاب المحلات؟
قلتُ لنفسي إنّ مَن سُرَّ بنا هم مَن استفادوا منّا مادّيًّا، لكنّني كنتُ أُريدُ رضى باقي السكّان! لِذا عمدتُ إلى التعرّف على أصحاب البيتَين المُجاورَين على أمَل أن تنمو بيننا مودّة ولو بسيطة. دقَّيتُ باب البيت الأقرَب لي، ففتحَت لي امرأة شابّة ولطيفة المظهَر أدخلَتني بعد أن عرّفتُها بنفسي. إتّضحَ لي أنّها الكنّة وتعيشُ وزوجها وولدَيهما مع حماتها، ويهتموّن جميعًا بالأرض وتربية بعض الحيوانات المتنوّعة. تحدّثتُ مع الكنّة وحماتها عن بيتي وانتقالي إليه ونوعيّة عمَلي وعمَل زوجي في المدينة. الحديث كان سلِسًا وانتهى بسرعة وكذلك زيارتي. كنتُ راضية عن نفسي فقرّرتُ أن أقصد البيت الثاني في اليوم التالي.
لَم ألقَ الترحيب نفسه مِن قِبَل جيراني الآخَرين، أيّ ثنائيّ كبير في السنّ. هما أبقاني عند الباب وسألاني مئة سؤال، ولَمستُ لدَيهما ريبة واضحة تجاهي. شكَكتُ بأنّ الذي كلَّمني في الحرج هو الزوج لكنّني لم أكن مُتأكّدة مِن ذلك. تركتُ العجوزَين واقفَين وعدتُ إلى البيت غير مسرورة. يا إلهي... هل أنّ الحلم الذي حقَّقتُه أخيرًا سينقلبُ إلى كابوس؟ عادَ رياض وشجَّعني مؤكّدًا لي أنّ سكّان القرى لا يتقبّلون الغرباء بسهولة، ويلزمهم بعض الوقت لتعوّد وجودنا بينهم. يا لَيته على حقّ!
إنتهَت العُطلة وعُدنا إلى سكَننا في المدينة وتكلّمنا عن الإنجاب، فكنّا قد تزوّجنا قبل حوالي السنة ولَم نجِد الوقت للتفكير في الأمر بسبب انشغالنا بعمَلينا وبالتفتيش على "بيتي في البراري". فلَم أعُد أرى مِن سبب يمنعُني مِن الإنجاب، فلطالما كنتُ أُحبُّ الأطفال وأُريدُ عائلة كبيرة... على خلافه. فبنظره، ولد واحد يكفي إن كنّا نُريدُ أن نُعطيه كلّ اهتمامنا ووقتنا، ولا يرى مانعًا إن لم يُرزقنا الله أطفالاً على الإطلاق.
وهكذا علِمتُ بعد وقت قصير أنّني أحمِل في أحشائي ثمرة حبّنا، فعانقَني زوجي بقوّة وحملَني ودارَ بي في البيت لكثرة فرحه. تلقَّيتُ تهاني الأقارب والأصدقاء وذرفَت أمّي الدمع لأنّ أبي لَم يكن موجودًا ليُباركَ لي. ترحَّمنا عليه خاصّة أنّه رحَلَ بعد أن فكَّرَ بمستقبل عائلته تاركًا لنا مبالغ كبيرة.
رحتُ وزوجي إلى القرية وقلبي مليء بالفرَح، لأنّ جنيني كان سيقضي أوّل أيّامه، ولو في بطني، في مُحيط سليم ومُناخ نقيّ وهدوء تام. هدوء تام؟!؟
لحظة وصولنا البيت القرويّ، ذهلتُ وزوجي لِرؤية أرضنا مقلوبة في أماكن عديدة وصفّ مِن الشجَيرات مقلوع مِن مكانه. بدأتُ أصرخُ بأعلى صوتي سائلة مَن المُجرم الذي تعدّى هكذا على الطبيعة وعلى أملاكنا. هدّأ رياض مِن غضبي ووعدَني بأن يتقّصى عن الأمر. دخلتُ البيت وبدأتُ البكاء بقوّة، فكان مِن الواضح أنّ سكّان القرية لا يُريدونا بينهم. ما الذي أزعجَهم بوجودنا؟
لكنّني لَم أهدأ بل قصدتُ صباحًا منزل العجوزَين، لأتأكّد مِن أنّهما مَن خرّبَ أرضي. فتحَت لي المرأة فقلتُ لها على الفور:
ـ لَم أفعَل لكما شيئًا سوى أنّني جئتُ أسكنُ بالقرب منكما. إعلمي سيّدتي أنّني حامل، ورؤية أرضي بهذه الحالة قد أثَّرَ عليّ كثيرًا ولَم أنَم طوال الليل.
ـ عمّا تتكلّمين؟!؟ هل فقدتِ عقلكِ؟ لَم نفعَل شيئًا! إذهبي إلى هؤلاء الذين لا يُحبّهم أحَد ولا يُحبّون هم أيضًا أحدًا، فمِن المعلوم أنّهم يكرهون الناس وخاصّة الغرباء.
ـ تقصدين جيراني الآخرين؟ هم أناس لطفاء للغاية ولا يهمّهم شيء سوى العمَل في الأرض.
ـ تمامًا... ربّما لَم يقُل لكِ أحد أنّهم كانوا يُريدون شراء بيتكِ لِيضمّوا أرضكِ إلى أرضهم.
ـ هكذا إذًا... أشكرُكِ سيّدتي وآسفة للإزعاج.
أخبرتُ رياض عمّا علِمتُه، وهو طلَبَ منّي الكفّ عن التحرّي عن تلك المسألة والاستمتاع بعطلتنا والتزام الراحة مِن أجل الجنين. إلا أنّني ادّعَيتُ الانصياع لنصيحته وصمَّمتُ على مُتابعة التقصّي. ففي آخِر المطاف، كان المُلكُ مُلكي وليس مُلكه.
في اليوم التالي رحتُ إلى الكنّة وحماتها فاستقبلاني جيّدًا كما في المرّة السابقة. لَم أستعمِل اللهجة نفسها معهما بل قلتُ إنّني قادمة بغرَض الزيارة فقط. تبادَلنا الأحاديث ثمّ قلتُ لهما:
ـ تصوّرا أنّني وجدتُ الأرض حول منزلي مقلوبة والأشجار مقلوعة... مَن يفعَل كهذا؟!؟ ليس الكلّ يُحبّ الأرض مثلكم ويهتمّ بها.
ـ تمامًا! علِمنا بالذي حصَلَ لكِ يا حبيبتي وأسِفنا كثيرًا... إنّها حتمًا فعلة هذَين العجوزَين فهما يكرهان الغرباء.
إحترتُ بأمري فكلا الجيران يتّهمان بعضهما. تركتُ بيتهما ورحتُ إلى المسؤول عن البلدة لأشتكي له، وهو وعدَني بالاهتمام بالموضوع. سألتُه إن كان زوجي قد مرَّ به لكنّه أجابَ بالنفي. لماذا وعَدَني رياض بالاهتمام بذلك التعدّي ولَم يفعَل؟ ألأنّ البيت ليس بيته؟ لكنّه كان يعلَم أنّ كلّ ما لدَيّ هو له أيضًا، وهذا ما أكّدَتُه له يوم قرّرنا أن نتزوّج وبعد أن أبدى تردّدًا بسبب ثروتي. فالحقيقة أنّ رياض لَم يكن يملكُ شيئًا سوى الراتب الذي يتقاضاه كلّ نهاية شهر. لكنّ المال لَم يهمُّني يومًا بل فقط الإنسان، وما وجدتُه برياض يُوازي كلّ ثروات العالم. أمّي كانت أكثر منّي تحفّظًا وحاولَت مُمانعة زواجنا، إلا أنّها رضخَت لرغبتي بعد أن تأكّدَت مِن أنّني لن أتراجَع. لكنّها نبّهَتني مِن أن يكون عريسي يسعى وراء ميراثي الضخم. أكّدتُ لها أنّ رياض شخص جيّد للغاية ويُحبُّني حبًّا صادقًا وأنّ الأيّام ستثبتُ لها كم أنّها مُخطئة. وأضفتُ أنّني لستُ ساذجة ولن أكتُبَ شيئًا باسمه أو أوكلُه بمالي. وهذا ما فعلتُه، ليس لأنّني أشكُّ بزوجي، بل لإبعاده عن أيّ شيء قد يُسيء إلى مصداقيّته بين أهلي وأصدقائي. وهو ارتاحَ كثيرًا مِن عبء إدارة مبالغ كهذه وفضَّلَ التركيز على عمَله آملاً بالترقية.
حين عدتُ إلى البيت وجدتُ زوجي جالسًا وبيَده كتابًا يقرأ فيه بهدوء، وهو قال لي لحظة وقفتُ أمامه:
ـ حبيبتي... رحتُ ظهرًا إلى المسؤول عن البلدة وأوكلتُه بالتفتيش عن الفاعل، لا تقلقي، بل استمتاعي بهذا المُناخ النقيّ.
ـ هكذا إذًا... شكرًا حبيبي.
عانقتُ زوجي لأثبتَ له أنّني لَم أكن أعلَم أنّه كذِبَ عليّ للتوّ، لكنّني كنتُ قلقة جدًّا. لماذا هذا الكلام غير الصحيح؟ هل هو إهمال وحسب أم أنّ رياض يُخفي شيئًا عنّي؟
يتبع...