للمرّة الألف، أخَذَ وليد زوجي هاتفه ودخَلَ إمّا إلى غرفته أو إلى الحمّام لدى استلامه رسالة. وككلّ مرّة، سكتُّ لأنّني خفتُ أن يصرخَ بي وينعَتنَي بالمجنونة، وبأنّ غيرتي المُفرطة ستُدمِّر زواجنا. إلّا أنّني كنتُ مُتأكِّدة، بالرغم مِن عدَم وجود أيّ دليل حسّيّ لدَيّ، أنّه يتلقّى الرسائل مِن امرأة أخرى أو نساء أخريات. فالزوجة أو الحبيبة تشعرُ بتلك الأشياء، وتعلَم أنّ شيئًا مُريبًا يجري في حياة الذي تُحبُّه. إضافة إلى ذلك، لَم أكن أُريدُ أن أخربَ عائلتي المؤلّفة مِن ولدَين، وأجِدَ نفسي مُطلّقة ومحطّ أنظار وكلام الناس، حتّى لو عنى ذلك تحمّل خيانة زوجي لي. وما كان يؤلمُني الأكثر، كان أنّ وليد حسِبَ نفسه أذكى منّي أو صاحب حقّ في ما يفعله. فلو كان مكاني، لأجبَرَني على إعطائه هاتفي، وتفحَصَّه مليًّا وأخَذَ التدابير بحقيّ لو تبيّنَ أنّني أُكلِّمُ رجُلًا آخَر.
ولأتحمَّل ما يجري، أخذتُ أهتمّ بولدَيّ وبأهلي أكثر، وصارَت لدَيّ هوايات، لإشغال بالي بأمور أخرى والشعور بأنّ حياتي لها معنىً خارج نطاق الرابط المُقدَّس الذي دنَّسَه وليد. والحقيقة أنّني استطعتُ في مُعظم الوقت نسيان الموضوع، ما عدا في أوقات المساء، حين يكون ولَدانا نائمَين وليس لدَيّ ما أفعله وأكون جالسة في الصالون مع زوجي أو في السرير. عندها كنتُ أشعرُ بغضب كبير ثمّ بيأس عميق يملأ قلبي، وأجِدُ صعوبة بإيجاد النوم والراحة. تبًا لكَ يا وليد، ما الخطب بي؟ فأنا كنتُ ولا أزال صبيّة وجميلة، ورِفقتي مُمتعة وأهتمّ بنفسي خارجيًّا وداخليًّا. أمّا في ما يخصّه، فهو لَم يكن بمستوايَ العلميّ والفكريّ، ولا يهتمّ سوى بعملَه ويُهمِلُ صحّته ومظهره، تحت عذر أنّه رجُل ولا عَيب في الأمر. مَن قالَ ذلك؟!؟ ما هذا المُجتمع البالي الذي يضع كلّ الضغط على المرأة ويترك الرجُل على سجيّته؟!؟ مُجتمَع ذكوريّ بامتياز وضَعَ الرجُل فيه قوانينه ونصَّبَ نفسه الحاكم والمُنفِّذ.
وهكذا صِرتُ امرأة تعيسة بعد أقل مِن ستّ سنوات على زواجي، لِذا قرّرتُ أنّ الوقت حانَ لاستعمال شهادتي الجامعيّة، بعد أن ذهَبَ ولدايَ إلى المدرسة. أجل، كنتُ جاهِزة لدخول مُعتركَ العمَل، وبحماس! إعترَضَ وليد على الأمر صارخًا:
ـ ليس لدَينا نساء عاملات في عائلتنا!
ـ سأكون أوّلهنّ إذًا!
ـ ماذا سيقول عنّي الناس؟ إنّني لستُ قادِرًا على الصرف على زوجتي؟ وماذا عن واجباتكِ المنزليّة؟
ـ لا يهمّني رأيَ الناس ولن أهمِلَ واجباتي، أعدُكِ بذلك. على كلّ الأحوال، مِن الأفضل لي أن أعمَل، فهكذا لن أُزعجكَ بغيرتي المُفرطة وتخيّلاتي بشأن هاتفكِ، أليس كذلك؟
إقتنَعَ زوجي بما قلته، فهو فهِمَ الرسالة، ووجَدَ أنّ زوجة غائبة أو تعِبة بعد يوم طويل أفضَل له.
وجدتُ وظيفة في شركة تجاريّة، وكنتُ سعيدة للغاية بالرغم مِن الراتب الضئيل الذي كنتُ سأتقاضاه. تعِبتُ كثيرًا بين عمَلي والبيت وولَدَيّ، لكنّه كان تعَبًا خفيفًا على قلبي. وليد، مِن جانبه، كان مسرورًا بغيابي وغرَقي في النوم باكِرًا، الأمر الذي أفسَحَ أمامه المجال لفعل ما يُريدُه. في كلمة، كنّا قد بلَغنا توازنًا يُسعِد الجميع. ستقولون لي إنّ قصّتي شبيهة بألوف القصَص، لكن تمهّلوا، هي لَم تبدأ بَعد.
فبِسبب شخصيّتي الهادئة وعدَم قدرتي على الاختلاط بسرعة، صِرتُ إنسانة غير مرئيّة في الشركة، آتي في الصباح وأرحَل عند آخِر الدوام وبالكاد أتبادَل الكلام مع أحَد، بل أقومُ بواجباتي وحسب. وهذا الأمر سهَّلَ عليّ معرفة كلّ ما يدورُ مِن حولي مِن أحاديث عن العمَل وعن حياة الموظّفين الشخصيّة. وحده مُديري، رجُل في العقد الخامس مِن عمره، كان يُحدّثُني ويسأل عن سَير العمَل، ويجدُني مُثيرة للاهتمام بفضل مهارتي بالذي أقومُ به مِن دون تباهي بل بضمير وتأنٍّ. للحقيقة، شعرَتُ وكأنّني بمثابة ابنة له لكثرة اهتمامه ومُساعدته لي، فشعرتُ بالأمان بالعمَل معه. أنا أيضًا تعامَلتُ معه بِرفق، بسبب إعاقةٍ في رِجله سبَبُها رصاصة تلقّاها منذ سنوات كثيرة، عندما كان شرطيًّا، أجبرَته على تَرك عمَلٍ أحبَّه. بعد ذلك، هو استدارَ نحو الأعمال، واستلَمَ شركة ابن عمّه وأدارَها بمهارة بعد أن اشتراها منه.
مرَّت الأشهر مِن دون حدَث يُذكَر، إلى حين سمعتُ مُحادثة بين موظّفَتَين دارَت حول مُديرنا. كانت المرأتان واقفتَين أمامي في غرفة الاستراحة مِن دون أن تنتبِهنَ لوجودي، فسمعتُ كلّ شيء:
ـ كم أنّه مُقرِف! يقشعِرّ بدَني عندما أُفكِّر بالأمر!
ـ أفهمُكِ... مَن كان ليقول إنّ ذلك الرجُل الذي يبدو عاقِلًا وشريفًا هو قادِر على هكذا أفعال؟!؟
ـ لأنّه ذئب في ثياب نعجة! كلّهم سواء! وهل تعرفين رجُل لا يشكو مِن شيء؟
ـ زوجي رجُل عاقِل وشريف حقًّا! لا تجملي الكلّ، مِن فضلكِ!
ـ حسنًا... ما عدا زوجكِ! لا تُغيّري الحديث، لا أحَد يُبالي بزوجكِ الملاك!
ـ هل الكلّ على عِلم بما يجري؟
ـ لستُ مُتأكّدة... يكفي أن نقولَ لهم ما يجهلونَه، هيّا بنا!
لَم أُصدِّق أذنَيّ مع أنّني لَم أفهَم عمّا تتكلّمان، فلحِقتُ بهنّ إلى قاعة المكاتب وادّعَيتُ أنّني أعمَل، لكنّني كنتُ أسترِق السمَع لمعرفة المزيد. هل غشَّني مُديري لهذه الدرجة؟ كان الأمر جائزًا، فلَم تكن لدَيّ خبرة عميقة بالناس والحياة، ألَم أتزوّج مِن رجُل خائن وكاذِب؟
إستمرَّ الحديث عن المُدير مع باقي الموظّفين، وفهمتُ أنّ ذلك الرجُل الذي وثِقتُ به كان بالحقيقة يهوى الفتيات اليافعات ويستدرجهنّ للقيام معهنَّ بأعمال لا توصَف، ثمّ يُهدِّدهنّ إن تكلَّمنَ بأن يستعين برفاقه القدامى في الشرطة. يا إلهي! كيف يفعل إنسان أمورًا كهذه ويدّعي الإيمان والأخلاق؟!؟ حزِنتُ كثيرًا، ليس فقط على ضحاياه، بل على اعتباره أبًا لي، في مكان عمَل شعرتُ فيه وكأنّني غريبة وغير محبوبة، فقرّرتُ تَرك وظيفتي لأنّني لَم أعُد قادِرة على رؤية ذلك الرجُل بالعَين نفسها. ليكن الله بِعَون زوجته وأولاده الشباب، فالفضيحة هي أسوأ ما يُمكن أن يُصيب المرء. دخلتُ مكتب المُدير واستقالتي بِيَدي، لكنّني لَم أُعطِه السبب الحقيقيّ لِرحيلي، بل تحجَّجتُ بظروف عائليّة. إلّا أنّه قال لي:
ـ أنا أُراقبُكِ منذ فترة، ومِن الواضح أنّكِ لستِ سعيدة بزواجكِ... أعرفُ تلك النظرة الحزينة التي أراها في عَينَيكِ، وأرى أنّ لولا ولدَيكِ لقضَيتِ الليل في الشركة كي لا تعودي إلى البيت. إنّه يخونُكِ، أليس كذلك؟
ـ يا إلهي... كيف تعلَم كلّ ذلك؟!؟
ـ أنظري إلى عَينَيّ وسترَين النظرة نفسها.
ـ زوجتُكَ تخونُكَ؟
ـ منذ سنوات! إلتجأتُ إلى العمَل، فوحده يُنسيني مُصيبتي. زوجتي امرأة شرِسة ومعدومة الأخلاق، تريدُ الرحيل لكنّها باقية مِن أجل ما أملُك، فلدَيّ أراضٍ ومبانٍ ورثتُها مِن والِدَيّ وأتركُها لِبَعد تقاعدي ولأولادي، فأريدُ أن أُساعِدهم في بناء مُستقبلهم. وزوجتي تُريدُني أن أبيعَ كلّ شيء الآن، ليتسنّى لها أن ترحَل مع مالي.
ـ ألا تُفكِّر بأولادها؟!؟
ـ هم ليسوا أولادها، بل أولادي مِن زوجتي الأولى، رحمها الله. والزواج مُجدّدًا كان غلطة جسيمة إذ أنّ تلك المرأة سيّئة لدرجة لا توصَف، فهي أساءَت مُعاملة أولادي بطريقة خفيّة، لَم أعرِف بها إلّا منذ أشهر قليلة حين صارَ الأولاد يفشون سرّها. سأتركُها قريبًا، إن شاء الله.
ـ إسمَع... هناك أقاويل مِن حولكَ وبشأنكَ... والآن فهمتُ أنّها صادِرة عن تلك الانسانة التي أخبرتَني عنها. كُن حذِرًا للغاية، فالقضيّة بغاية الجدّيّة.
وروَيتُ له ما سمعتُه وهو بكى أمامي مِن كثرة حَسرته على ما آلَت إليه حياته. وبعد أن شكرَني، مزَّقَ استقالتي قائلًا: "لن ترحَلي، فأنتِ الوحيدة الجديرة بالثقة هنا".
إتّضَحَ أنّ الزوجة، كما ظنَنتُ، تبثُّ الأكاذيب حول مُديري لتضغط عليه بشأن المال والطلاق، فوحدها قادِرة على سحب أقوالها وإعادة الاعتبار له. لكنّ الرجُل لَم يكن غبيًّا، بل لدَيه الأدِلّة اللازمة على خياناتها العديدة له، فلا تنسوا أنّه كان شرطيًّا، إلّا أنّه لَم يستعمِلها حفاظًا على سُمعة عائلته وأولاده. لكنّ الوقت حان لِفَضح الخائنة قَبل أن تنتشِر القصّة التي ألّفَتها زوجته حَوله، فادّعى عليها بتهمة الخيانة الزوجيّة ليُطلّقها مِن دون أن يُعطيها قرشًا واحدًا. هي حاولَت استعمال موضوع الصبايا اليافعات ضدّه، لكن ما عساها أن تفعَل مِن دون أيّ دليل؟ أُعلِنَ الطلاق ليس بعد أن أحدَثَ ضجّة بين الموظّفين الذين فهِموا أين تكمُن الحقيقة، وسامحَهم ذلك الرجُل الطيّب لكنّه بقيَ يُراقبُهم، فهم لَم يتأخّروا على الحكم عليه وصدّقوا أوّل قصّة تُشاع ضدّه. بقيتُ موظّفته المُفضّلة، وحصلتُ على ترقية ليس لأنّني أخبرتُه ما يجري، بل لأنّني بالفعل أقومُ بعمَلي بطريقة مُحترِفة.
وذات مساء، عندما عدتُ إلى البيت مِن الشركة، وجدتُ البيت مُرتبًّا والطعام مطهوًّا والورود تملأ المكان. ظننتُ للحظة أنّه يوم عيد ميلادي لكن لا، ليس قَبل موسَم الصيف! وقَفَ زوجي أمامي وبسمة عريضة على وجهه وهديّة في يده قائلًا:
ـ هديّة جميلة لزوجتي الرائعة. أرجو ألّا تكوني تعِبة يا حبيبتي.
ـ ما الأمر؟ أهذه دعابة؟!؟
ـ لا! لا! بل أُريكِ فقط كَم أُحبُّكِ وكَم أنّني زوج جيّد. هل رأيتِ كلّ ما فعلتُه مِن أجلكِ؟ أنظري مِن حولكِ. ولن أمسُكَ هاتفي بعد اليوم، بل سأرميه بعيدًا!
ـ أجل، رأيتُ كلّ شيء. لكنّني لا أفهم لماذا...
ـ هذا لا يهمّ! فلقد صِرتُ إنسانًا أفضل، أليس كذلك؟ قوليها!
ـ أجل... أعتقدُ ذلك... على الأقلّ اليوم.
ـ وكلّ يوم! أعدُكِ بذلك! كلّ يوم حتّى آخِر أيّامي! لا تزعلي منّي أرجوكِ، أرجوكِ!
ـ ومَن قالَ لكَ إنّني زعلانة منكَ؟ لستُ أفهم!
ـ كان بإمكاننا التكلّم عمّا يُزعجُكِ، فلَم يكن هناك مِن داعٍ لإرسال أحَد.
ـ إرسال أحَد؟!؟ ما الأمر؟!؟
ـ هؤلاء الشرطيّون الذين أتوا إلى مقرّ عمَلي... كانوا جدّيّين للغاية! ماذا عن سمُعتي في العمَل؟ هذا لا يهمّ، فنحن مُتحابّان، أليس كذلك؟
ـ شرطيّون... أيّ... آه! الآن فهمتُ! هاهاها!
ـ الأمر ليس مُضحِكًا يا حبيبتي... فهم كانوا فظّين معي وهدّدوني! لكنّني أكّدتُ لهم أنّني سأتغيّر، أعدُكِ بذلك. أنتِ المرأة الوحيدة في حياتي!
ـ سنرى ذلك... ماذا حضَّرتَ لنا للعشاء؟
حاورتها بولا جهشان