كنتُ قد فتَحتُ محلّي قَبل أشهر قليلة، حين دخَلَت سارة إليه لتُصفِّف شعرها عندي. لن أنسى أبدًا كيف مشَت إلى الكرسيّ وجلسَت عليه، فكان الأمر وكأنّها أميرة جالِسة على عرشها. شعرها كان أسود اللون، ومُنسابًا على كتفَيها وظهرها وصولًا إلى خصرها. للحقيقة، لَم يسبق لي ورأيتُ شعرًا بهذا الجمال. بقيتُ أنظرُ إليها مِن خلال المرآة إلى أن سألَتني إن كنتُ أنوي تصفيف شعرها أم لا. تلبّكتُ واعتذرتُ وبدأتُ بالعمَل. هي ابتسَمت ثمّ أضاءَت سيجارة وشرِبَت القهوة التي حضّرَها لها العامِل لدَيّ.
ومنذ ذلك اليوم، صِرتُ أنتظرُ يوم الخميس بفارغ الصبر، حتّى تأتي سارة إلى محلّي ويتسنّى لي رؤيتها ولَمس شعرها الرائع.
لَم أعرِف عنها شيئًا سوى اسمها الأوّل، وأنّها تسكنُ بجوار الصالون لأنّها تأتي مشيًا على الأقدام وتذهب بالطريقة نفسها. لَم أرَ في إصبعها خاتم زواج، فسمَحتُ لنفسي أن أحلمَ بأن أصيرَ زوجها وهي امرأتي ونأتي بأولاد يُشبهونها، وذلك بالرغم مِن أنّها كانت تبدو وكأنّها تكبرني بحوالي الخمس سنوات إن لَم يكن أكثر. لَم يهمّني فارِق السنّ على الإطلاق، فالنساء لا تكبرنَ أبدًا، بل تكتسِبنَ جمالًا مصدره الخبرة والنضوج. كنتُ آنذاك في الخامسة والعشرين وكانت لدَيّ أحلام كثيرة!
وكما تتوقّعون، بتُّ أتوقُ لرؤية سارة وكأنّها صارَت المحوَر الأساسيّ لحياتي، فتجاهَلت وجود كلّ الصبايا اللواتي تأتَينَ إلى محلّي لوحدهنّ أو مع أمّهاتهنّ. إستغرَبَ الجميع لماذا لَم أختَر أيًّا منهنّ كَوني جاهزًا للزواج، ولَم أُعطِهم تفسيرًا لهذه التساؤلات، فكيف لي أن أتزوَّج في حين اعتبَرتُ سارة أفضَلهنّ وأجمَلهنّ؟ لكنّني لَم أفاتِح سارة بمشاعري تجاهها، إذ خِفتُ أن أخسرَها لو أنّها لَن تُبادلني حبّي، وتختفي إلى غير عودة.
لكنّها بالفعل اختفَت ومِن دون سبَب! تصوّروا كيف كنتُ، أيّ كالمجنون أنتظرُ لساعات مجيئها وأخرجُ إلى الشارع ترقّبًا لها، وأسأل الجميع إن كانوا يعرفون أيّ شيء يخصُّها. وفي آخِر المطاف، إستوعَبتُ أنّها ذهبَت إلى الأبد.
مرَّت حوالي السنة حتّى قرَّرتُ أن أتزوّج لأنّ قلبي كان يتألَّم بحثًا عن الحبّ، فتقدّمتُ لفتاة جميلة وعاقِلة، إبنة إحدى زبوناتي التي فعلَت جهدها لإقناعي بابنتها. عشتُ مع هذه الأخيرة سنوات هادئة وأنجَبنا ولدَين سويًّا، وازدهَرَ صالوني لدرجة أنّني اشترَيتُ المحلَّين الموجودَين إلى جانبي، وصارَت الزبونات تأتي مِن جميع أنحاء البلاد. كنتُ سعيدًا، لكن بالمعنى التقليديّ فقط، أيّ أنّ الشعلة التي كانت في داخلي خمُدَت إلى درجة الانطفاء شبِه كلّيًّا... قَبل أن تدخُل سارة حياتي مِن جديد!
فذات يوم، وبعد أن اختفَت سارة حوالي العشرين سنة، رأيتُها تدخل صالوني برفقة صبيّة جميلة. تعرّفتُ عليها على الفور بالرغم مِن السنوات الطويلة التي فصلَت بيننا، بسبب جمالها وأناقتها وشعرها الرائع الذي بقيَ طويلًا وكثيفًا. إبتسَمت لي سارة وقالَت لي:
ـ هذه ابنتي، وأريدُكَ أن تهتمّ بشعرها كما فعلتَ بشعري.
ـ سارة! أعني سيّدة سارة... أين اختفَيتِ؟؟؟ أعذريني لكنّني لَم أرَكِ في صالوني منذ مدّة طويلة جدًّا... خفتُ أن يكون قد حصَلَ لكِ مكروه!
ـ ها أنا واقفة أمامكَ، هل أبدو وكأنّ مكروهًا حصَلَ لي؟
ـ بالطبع لا... فأنت تبدين رائعة كعادتكِ.
ـ هل لكَ أن تهتمّ بتسريحة شعر ابنتي؟
ـ أجل، أجل... يا للشعر الكثيف والطويل! كَم أنّها تُشبهُكِ!
بعد ذلك اليوم، عدتُ أنتظرُ سارة لتأتي كعادتها القديمة في موعدها المُحدَّدَ لكن مع ابنتها، وأعترِفُ أنّ مشاعري تجاه تلك المرأة الجميلة إستَيقظَت مِن جديد وباتَت حاضِرة في بالي ليلًا نهارًا. أسِفتُ أنّني صِرتُ رجُلًا مُتزوّجًا وإلّا كنتُ حُرًّا في عَيش حياتي كما يحلو لي، أي بين ذراعَي سارة الرائعة. للحقيقة، لَم أُبالِ إن كانت هي مُتزوّجة، إذ لدَيها ابنة، ففي قرارة نفسي كانت سارة لي مهما كانت ظروفها.
في البيت، تأزّمَت الأوضاع بيني وبين زوجتي، لأنّني لَم أعُد كما هي عهدَتني بل تحوّلتُ إلى إنسان غاضِب طوال الوقت معها ومع ولدَينا، وكأنّني أُحمِّلهم ذنب الوقوف بيني وبين سارة. ولا أخفي أنّ لفترة قصيرة، والحمدلله، خطَرَ ببالي أن أُطلِّق لو اتّضَحَ أنّ سارة مُطلّقة أو أرملة أو مُستعِدّة لِتَرك زوجها.
لِذا إغَتمتُ فرصة قدوم ابنة سارة لوحدها إلى صالوني لأسألها كلّ ما أريدُ معرفته عن أمّها، وأخذ قراري في ما يخصّ مصيري ومصير عائلتي:
ـ أين أمّكِ اليوم، فلقد أتَيتِ مِن دونها... أهي مع أبيكِ؟
ـ لا... فهما مُطلّقان.
ـ مُطلّقان؟!؟
تفاجأَت الصبية بِنبرة صوتي لدى لفظ تلك الكلمة وبالبسمة التي تلَتها. ثمّ تابَعتُ:
ـ أتعلمين شيئًا؟ لو كانت الظروف مُغايرة آنذاك، كان بإمكاني أن أكون أباكِ.
ـ غريبٌ كلامكَ... ماذا تقصد؟
ـ لا شيء... أعني أنّ سارة كانت تأتي إلى صالوني قَبل ولادتكِ... أيّ مِن حوالي العشرين سنة وكنتُ... أعني... مُعجبًا جدًّا بها.
ـ في أيّة سنة حدَثَ ذلك؟
عندما قلتُ لها في أية سنة بالتحديد، هي ضحكِت وقالَت:
ـ كان لأمّي زوج آنذاك... زوج أوّل وليس أبي.
ـ حقًّا؟
ـ أجل، وكانا يسكنان في الشارع الموازي لصالونكَ.
ـ وما حدَثَ للزوج؟
ـ هي طلّقَته... بعد أن أخذَت كلّ ما لدَيه.
ـ ما هذا الكلام عن أمّكِ؟!؟
ـ وفعلَت الشيء نفسه مع أبي، وهو إنسان طيّب وقَعَ تحت سحرها فدفَعَ الثمَن.
ـ أرى أنّكِ لا تُحبّين أمّكِ كثيرًا لتقولي هذا أمامي!
ـ لا... أنا بالفعل أحبُّها، لأنّها في آخِر المطاف أمّي وهي تُعاملني جيّدًا... إلّا أنّ لدَيّ سببًا وجيهًا لقَول ذلك عنها أمامكَ.
ـ وما هو؟ فمِن الواضح أنّكِ تُحاولين تشويه صورتها أمامي!
ـ أنا لا أُحاولَ تشويه صورتها بل أنّ صورتها بالفعل سيّئة. إسمَع، تبدو لي رجُلًا طيّبًا، كزوج أمّي الأوّل وكأبي... فأنصحُكَ بِعدَم التعاطي معها أو معي.
ـ ماذا تعنين؟؟؟
ـ لقد صرفَت والدتي مُعظم المال التي وضعَت يدَها عليه مِن زوجَيها، فذوقها رفيع وتُحبّ كلّ ما هو غالي الثمَن... وهي الآن بصدَد البحث عن مُغفَّل جديد.
ـ أنا مُغَّفَل؟!؟ أهذا ما تعنيه؟
ـ أجل، هذا إن وقعتَ في شباكها بعد ما أقولُه وسأقولُه لكَ.
ـ تابعي!
ـ منذ فترة مرَرتُ وأمّي صدفةً في هذا الحَيّ، وهي رأت كيف كبرَ محلّكَ وكيف هو مليء بالزبونات، فقالَت لي: "تعالي نقصد هذا الصالون في القريب العاجِل، فصاحبه كان مُتيّمًا بي، المسكين، لو ترَين كيف كان يرتبكُ لدى قدومي! هاهاها! سأُحاوِل معه وإن وجدَني كبيرة في السنّ ستُحاولين بدوركِ، هؤلاء المُصفّفون يجنون الكثير مِن المال!
ـ أنا لا أُصدّقُكِ! أيّ أمّ تُعلِّم أبنتها النصب والاحتيال؟
ـ أمّي! إن كنتَ لا تُصدّقني، فاقرأ ما أرسلَته لي على هاتفي أثناء عمليّة غسل شعري قَبل قليل.
وقرأتُ تلك الرسالة التي كانت تقول: "أخبريني... ماذا حدَث وماذا يحدث؟ هل هو سألَ عنّي؟ أو أنّه مُعجَب بكِ؟ كوني لطيفة معه وأنظري إليه بإغراء كما كنتُ أفعل معه... هكذا هم الرجال، لا يلزمهم الكثير للإيقاع بهم. هيّا، وإلّا أخذتُه أنا! ها ها ها!".
أنهَيتُ تصفيف شعر الصبيّة بصمت، وشكرتُها عند رحيلها طالِبًا منها عدَم العودة أبدًا لوحدها أو مع أمّها. حاولَت سارة القدوم إلى الصالون، لكن في كلّ مرّة كنتُ أقولُ لها إنّ دفتر مواعيدي مليء، ولا يسعَني تصفيف شعرها، إلى أنّ فهمِت الرسالة واختفَت مِن جديد... ومِن دون عودة!
شعَرتُ بالخزيّ تجاه زوجتي وولدَيّ، فكنتُ حقًّا مُستعِدًّا لِتَركهم لو اتّضَحَ أنّ سارة هي المرأة التي تصوّرتُها. كنت قد أحبَبتُ فكرة امرأة وليس حقيقتها، وتمسَّكتُ بتلك الصورة، وبنَيتُ حولها حُلمًا كادَ أن يُدمِّر حياتي وحياة أقرَب الناس إليّ.
حاورته بولا جهشان