لم أفهَم سبب كرهي للرّجال إلا بعدما خضَعتُ لجلسات مع الطبيب النفسيّ. فقد توضَّحَ لي أنّني كبحتُ ذكريات أليمة لأحمي نفسي مِن الأذى. هكذا هو العقل الباطني، يختارُ ويحذفُ ما يشاء ليستمرّ صاحبه بأقلّ ضرر ممكن.
لكن ما تذكّرتُه كان بشعًا للغاية، ولولا حاجتي لتلك الجلسات للعَنتُ الساعة التي دخلتُ فيها العيادة. فحتى ذلك الحين، كنتُ قد اقتنعَتُ بحياة خالية مِن الرّجال الذين يُشعروني بالإشمئزاز بمجرّد اقترابهم منّي. كنتُ قد وصلتُ إلى سنّ الثلاثين مِن دون أن أحسّ بالحاجة إلى حياة عاطفيّة أو جنسيّة، وكأنّ الأمر لا يعنيني قط.
لكن بالرّغم مِن نفوري الواضح مِن الرّجال، حصَلَ أنّني وقعتُ في الحب. إستغربتُ كثيرًا ولم أفسّر تلك المشاعر بأنّها عاطفيّة بل وضعتُها في خانة الصّداقة. لكن بعد فترة، إضطرِرتُ للإعتراف بأنّ ما أشعرُ به تجاه خليل كان فعلاً حبًّا عميقًا. هو عَرَض عليّ الزواج واحترتُ في أمري، وفضَّلتُ طبعًا الإبتعاد عن ذلك الشخص حتى لو كلّفَني ذلك فقدان وجوده بالقرب منّي. لكن عندما أطلعتُ خليل على نوايايَ، غضِبَ جدًّا منّي:
ـ ما هذا الكلام؟ لقد أمضَيتُ أشهرًا طويلة أحاول التقرّب منكِ وتخطّي عتبة الصّداقة... لا أفهمُ موقفكِ هذا ولا أقبلُه. أعلم أنّكِ تحبّيني، فما الدّاعي لهَدم ما لدَينا؟ أهو أنتحار عاطفيّ؟ قولي لي ما يُزعجُكِ ويُقلقُكِ وسأساعدُكِ.
ـ المشكلة هي أنّني لا أعلم ما يُصيبُني... لكن كلّ ما أريدُه هو أن تبتعدَ عنّي وتتركَني وشأني، حتى لو اضطرِرتُ للعَيش مِن دونكَ. صحيح أنّني أحبّكَ، لكن ليس كزوج. أنا آسفة.
إلا أنّ خليل لم يكن مِن الذين يستسلمون بسهولة، ولم يتركني وشأني بل بقيَ مصرًّا على الإقتران بي إلى أن أقنعَني بالقبول أخيرًا. كنتُ أعلم أنّ علاقتنا الزوجيّة لن تنجح، وكنتُ على حق.
فمنذ أوّل ما وجدنا أنفسنا لوحدنا في غرفة الفندق بعد الفرَح، أطلَعتُ خليل على رفضي ممارسة الحب. لَم يتفاجأ زوجي كثيرًا، لأنّه كان يتحضّر لشيء مِن هذا القبيل وقرَّرَ الانتظار حتى أصبحُ جاهزة نفسيًّا.
لكنّ ذلك لم يحصل، لأنّني كنتُ فعلاً غير قادرة على السماح لأيّ رجل بلَمسي، حتى لو كان زوجي أمام الله والناس.
إستمرّ الوضع بيننا هكذا أكثر مِن ثلاثة أشهر حاوَلَ خليل خلالها شتّى الطرق لإراحتي نفسيًّا وطمأنَتي، لكن مِن دون نتيجة، لا بل صرتُ أخافُ منه وكأنّه مصدر أذىً لي. حتى حبّي له تبدَّلَ وحلّ مكانه إشمئزاز حاولتُ إخفاءه كي لا أجرَح شعوره. كنتُ مدركة أنّ ما أحسُّ به لم يكن له أساس، وتمنَّيتُ ألف مرّة لو لَم أقبل بالزواج منه. كنتُ أرى إلى أيّ درَجة بلَغَ عذاب زوجي وعدَم فهمه لإبعاده عنّي، وصارَ جوّ البيت متشنّجًا إلى أقصى درجة.
بعد ذلك، طلَبَ منّي زوجي الذهاب إلى طبيب نفسيّ لأتعالج، لكنّني غضبتُ منه صارخة:
-لستُ مجنونة! إن لم تكن سعيداً معي فهذه مشكلتكَ وليست مشكلتي... كنتَ تعلم منذ البدء أنّني لا أريدُ الإقتران بكَ أو بأحد على الإطلاق، لِذا عليكَ تقبّلي كما أنا.
نظَرَ زوجي إليّ بحزن قائلاً:
ـ وإن لم أستطع؟
ـ يُمكنكَ تركي.
ـ لكنّني أحبُّكِ، وأريد التعبير لكِ عن حبّي وأريد أطفالاً منكِ!
ـ إبحَث عن أخرى أذًا.
وبعد شهرَين، ذهبنا إلى المحكمة للتوقيع على أوراق الطلاق.
في الفترة الأولى، شعرتُ بارتياح كبير لأنّ عبء الزواج أُزيحَ عنّي، وواصلتُ حياتي وكأنّني لم أتعرّف يومًا إلى خليل. لكن بعد بضعة أشهر، حين وقعَت عينايَ على صورة لي ولزوجي، عادَت إليّ الذكريات الجميلة واشتقتُ لحنان خليل ودفئه.
والذي دفعَني أخيرًا إلى رؤية أخصّائي، إضافة إلى شوقي لخليل، كان اكتشافي لمواعدته إمرأة أخرى، الأمر الذي أثارَ غضبي وغيرتي إلى أقصى درجة.
هكذا إذًا... يُريد خليل نسياني في أحضان غيري؟ لن أقبل بذلك أبدًا!
سألتُ مِن حولي عن إسم طبيب نفسيّ بارع، وأخذتُ موعدًا وذهبتُ إليه غير مُقتنعة بالنتيجة. فماذا سيُخبرني ذلك الرّجل عن نفسي ما لَم أكن أعرفُه؟ هل هو الذي عاشَ حياتي وأحداثها أم أنا؟
لم أُحرِز أيّ تقدّم خلال الجلسات، وكدتُ أستسلم إلى أن عَرَضَ عليّ الطبيب الخضوع لجلسة تنويم مغناطيسيّ. كنتُ قد سمعتُ عن تلك الطريقة المُتّبعة لاستخراج الذكريات المحجوبة والمدفونة في أعماق العقل الباطنيّ، إلا أنّني خفتُ مِن أن أدَع أحدًا يدخل رأسي خلال نومي. لِذا طلبتُ مِن أمّي مرافقتي، فهي كانت الإنسانة الوحيدة التي أثق حقًّا بها ولم يكن لدَيّ أسرار أخفيها عنها.
حين استلقَيتُ على أريكة الأخصّائيّ، نظرتُ إلى أمّي بخوف إلا أنّها طمأنَتني مبتسمة، ومِن ثمّ استسلمتُ لصوت الطبيب وتوجيهاته.
لا أتذكّر ما حصَلَ خلال الجلسة، لكنّني أعرفُ أنّني استفَقتُ منها صارخة وباكية. ركضَت والدتي لتحضنَني، ونظَرَت بخجل إلى الطبيب الذي وبّخها:
ـ كان عليكِ جلب ابنتكِ لي منذ خمس وعشرين سنة، يا سيّدتي... لو فعَلتِ، لكانت الآن سعيدة بزواجها وتتحضّر لجلب صغار إلى الدنيا. على كلّ حال، لم يفت الأوان.
ثمّ استدارَ إليّ وأخبرَني عن الذكريات التي أخرَجَها مِن رأسي:
ـ بدأتُ بسؤالكِ عن أحداث جديدة، ثمّ عُدتُ بكِ في الزمَن تدريجًا حتى وصلنا إلى حقبة أردتِ عدم ذكرها، لكنّني بقيتُ أدفعكِ إلى التذكّر حتى تكلّمتِ عن تجربتكِ الصّعبة في ذلك المبنى المهجور... المبنى الذي يقَع بالقرب مِن محطّة القطار، والذي كان على طريق تسلكينَه مِن بيتكم السّابق إلى البقّال.
ـ المبنى المهجور... نعم، نعم أتذكّره، لكنّني أكره ذلك المكان!
ـ كنتِ تتوقّفين عنده مع صديقاتكِ لتلعَبنَ فيه الغمَّيضة أو الإستخباء.
ـ لا! أكره ذلك المبنى المُظلم والخطر!
ـ خطر، لماذا؟ ألَم يكن فارغًا؟
ـ بلى... لا... لستُ أدري... كان هناك شرّ كبير في داخله.
ـ كيف تصفين ذلك الشرّ؟
ـ لستُ أدري، أنا تعبة، أريد الذهاب.
ـ ماذا حصَلَ لكِ في ذلك المبنى المهجور؟
ـ رجل... نعم رجل بشع للغاية... كنتُ لوحدي بعد أن تركَتني صديقاتي وأنا أبحث عنهنّ في كلّ مكان.
ـ أخبريني عن الرجل، ماذا قال لكِ؟
ـ قال إنّه يعلم أين اختبأت الفتيات وأخذَني إلى غرفة في آخر المبنى.
ـ وماذا حصَلَ؟
ـ لا أدري... أريد الذهاب... أريد الخروج... لا أحبّ الظلام ولا ذلك الرجل!
ـ هل آذاكِ الرجل؟
ـ أجل... أجل... أريد أن أخرج! ماما! ماما!
نظَرتُ إلى أمّي وسألتُها:
ـ ماذا حصل لي في ذلك اليوم؟
ـ كنتِ في الخامسة مِن عمركِ، وكنتُ أسمح لكِ بالذهاب إلى البقّال شرط أن ترافقكِ صديقاتكِ. لكن في ذلك اليوم، بقيتِ لوحدكِ في المبنى المهجور الذي كان يسكنُه رجل مختلّ نفسيًّا. لم يكن يعلم أحد بوجوده، فهو كان يبقى مختبئًا يتربّص بالسيّدات والفتيات. وللأسف الشديد وقعتِ ضحيّته يا حبيبتي.
ـ تعنين أنّه...
ـ نعم، لقد فعَل.
ـ يا إلهي! وكيف لي أن أنسى حدَثًا كهذا!؟!
ـ بعد عثورنا عليكِ، أخذناكِ إلى المشفى لفحصكِ ومِن ثمّ بدأنا البحث عن مسكن جديد ومدرسة بعيدة لتجنيبكِ كلام الناس. خفنا عليكِ، إلا أنّكِ بدَوتِ لنا بألف خير، لِذا تعلّمنا أنّ ننسى ما حصل.
ـ لكنّه حصَلَ! هل تمّ القبض على ذلك الوحش على الأقل؟
ـ نعم، لكن مِن دون إفادتكِ أخلوا سبيله. لم نكن نريد إقحامكِ في قضيّة قد تسلّط الأضواء عليكِ.
تدخّل الطبيب قائلاً:
ـ كلّ ذلك التستّر حمَلَ ابنتكِ على شَجب ذكرياتها المؤلمة كما لو أنّ شيئًا لم يحصل. نعم، كان يجدر أخذها إلى أخصّائيّ ليشرحَ لها ما حدَث، وحملها على استيعاب الأمور وتقبّلها للتغلّب عليها، والحصول على حياة عاطفيّة وجنسيّة طبيعيّة. لقد باتَ لابنتكِ خوف مِن الرّجال لا تفهمُه بل تتقبّلُه وكأنّه جزء مِن طبيعتها، في حين هو نتيجة صدمة لم تُعالَج بالطريقة الصحيحة. على كلّ حال، سنعمل على تخطّي تلك العقدة، وأنا متفائل جدًّا بالنّجاح.
واظبتُ على الجلسات لأكثر مِن سنة، إلى أن استطعتُ حبّ صنف الرّجال مِن جديد. كنتُ قد تكلّمتُ مطوّلاً مع والدتي بشأن ما أصابَني، وتصالَحنا بعد أن حمّلتُها ذنب عقدتي النفسيّة.
أمّا بالنسبة إلى خليل، فتزوّج وعلِمتُ أنّه سعيد بحياته. أسفتُ طبعًا على عدَم سماعي منه بشأن المعالجة، لكنّني وجدتُ أن فراقي عنه أعطاني حافزًا لمعرفة نفسي. إلى جانب ذلك، أنا الأخرى تعرّفتُ إلى إنسان رائع إسمه فادي ساعدَني أيضًا على إحراز تقدّم نوعيّ، ولقد بدأنا نحضّر سويًّا لقضاء حياتنا مع بعضنا. ومع أنّني لا أعرف ما الذي ينتظرُني ليلة زفافي، إلا أنّني واثقة مِن أنّ الطبّ النفسيّ قد عالجَني كما يجب، وأنّني سأعيش أنوثتي وأُسعِدُ زوجي الذي أحبَّني بلا شروط.
حاورتها بولا جهشان