آخِر شيء كنتُ أتمنّاه هو العمَل في مؤسّسة تُعنى بالمُسنّين. إلّا أنّ تَركي عمَلي السابق في ذلك المشفى أثًّرَ على توظيفي كمُمرِّض في المشافي الباقية، لأنّ المُدير الذي اختلَفتُ معه أذاعَ خبَرًا زائفًا عنّي. وبذلك لَم يبقَ لي سوى نافذة ضيّقة للعمَل وتأمين ما يلزم لولدَيّ اللذَين كانا يعيشان مع أمّهما بعد الطلاق. وكما كلّنا نعلَم، مصاريف الأولاد باهظة، وقد رفضَت زوجتي السابقة أن تعمَل تحت ذريعة أنّني مُجبَر أن أصرف على عائلتي. وهي نسيَت أنّها كانت السبب في طلاقنا، إذ أنّها ملَّت منّي ومِن غياباتي ليلًا لقيامي بدوامي المسائيّ لدى المرضى. وقد شككتُ بوجود رجُل آخَر في حياتها، إلّا أنّني لَم أجِد أيّ دليل حسّيّ على ذلك.
بدأتُ بالعمَل في المؤسّسة، وتعرّفتُ على المُسنّين الذكور الذين كانوا موجودين في القسم المُخصّص لهم، وتبيّنَ لي أنّ المسؤوليات التي تنتظرُني كانت جمّة، بسبب سنّهم وحالتهم الصحّيّة التي لن تتحسّن بصورة قطعيّة.
مهامي كانت مُختلفة، مِن تنظيف المُسنّين وإعطائهم الدواء والحقَن، إلى مُتابعة تمارينهم الفيزيائيّة وتسليَتهم كَي لا يشعروا بالوحدة والإحباط. وكان مُدير المؤسّسة واضِحًا معي: فلا مجال للتلكّؤ أو الاهمال، إذ أنّ خطأ واحدًا قد يودي بحياة هؤلاء ويتأثّر بذلك الجميع بصورة جدّيّة. لَم يُخِفني كلامه، فكنتُ رجُلًا مسؤولًا ومُحترِفًا، وأكنُّ مودّة خاصّة لكلّ مَن يتألَّم أو يُعاني، ربّما لأنّني رأيتُ أمّي تذوبُ أمامَ عَينَيّ وأنا صغير بسبب مرَضها. وبالرغم مِن سنّي اليافِع، ساعدتُها وواكَبتُها حتّى فارقَت الحياة. وقَبل أن تغمض عَينَيها بدقائق معدودة، رأيتُ فيهما نظرة حبّ وامتنان ملأَت قلبي بالدفء. ومنذ ذلك الحين وأنا أبحث لدى مرضايَ عن تلك النظرة التي تعني أنّني بالفعل أحدَثتُ فرقًا في مُعاناتهم.
لكن دعوني أشرَح لكم أكثر عن المؤسّسة: كانت تحتوي على أقسام عدّة هي: قسم المنامة أو العَيش حيث يقضي المُسنّون وقتهم، قسم اللهو المؤلّف مِن صالات للترفيه مِن مُشاهدة التلفاز إلى ألعاب جسديّة وفكريّة، المطعم الذي يُقدِّم الوجبات ثلاث مرّات في اليوم، قسم التمريض والاستشفاء حيث أعمَل، وأخيرًا حديقة واسعة وجميلة يتنزّه فيها الجميع مِن إناث وذكور، إمّا لوحدهم أو بصحبة موظّفين أو مُمرّضين حسب الحالة.
وفي أحَد الأيّام، أحسَّ أحَد المُسنّين بألَم في صدره، فنُقِلَ إلى قسمي حيث عايَنَه الطبيب وأجرِيَت له التحاليل ليتبيَّن أنّه أُصيبَ بأزمة قلبيّة.
كنّا مُجهزّين للاعتناء به وفي معظم الحالات ما عدا العمليّات الجراحيّة الكبيرة.
كان اسم المريض فهد، وعلِمتُ منه أنّه حصَلَ على اسمه بعدما بقيَت أمّه تفقدُ أجنّتها، فقرّرَت أن تُعطيه اسم حيوان قويّ ليعيش. وهو أضافَ بفخر: "واتّضَحَ أنّني بالفعل فهد! أنا قويّ للغاية ولدَيّ عزيمة لا تُقهَر! سترى بأيّة سرعة سأتعافى!". لكن بسبب سنّه المُتقدِّم، إذ كان في الخامسة والثمانين مِن العُمر، طالَ وجوده عندنا في القسم، فوجدتُه يومًا وهو يُحاول ترك الغرفة:
ـ ماذا تفعل يا عمّ فهد؟!؟ لا يُمكنُكَ المُغادرة! فأنتَ لا تزال ضعيفًا وبحاجة إلى علاج!
ـ عليّ العودة إلى قسمي... عليّ العودة، فلا وقت لدَيّ! أنتَ لا تفهم! إنّها بانتظاري!
ـ عمّن تتكلّم؟ مَن هي؟
ـ سميرة... سيأخذونها منّي بعد أيّام!
ـ إهدأ، عُد إلى سريركَ وأخبِرني كلّ شيء.
ـ حسنًا، لكن اعلَم أنّني لن أبقى هنا! سميرة... هي حبّ حياتي، حبيبة قلبي منذ خمسين سنة، بل أكثر، فأنا لَم أعُد أعلَم شيئًا عن الزمَن والوقت.
ـ وأين هي سميرة؟
ـ هنا! في المؤسّسة!
ـ لستُ أفهم... هل أنتَ في المؤسّسة منذ خمسين سنة؟!؟
ـ تبدو لي غبيًّا! بالطبع لا. فنحن في الأصل جيران حيث نسكن وكنتُ مُعجبًا لا بل مُغرمًا بها... إلى حين هي تزوّجَت وحطّمَت قلبي.
ـ تزوّجَت؟ ألَم تكونا مُتحابّين؟
ـ لا، فلقد احتفظتُ بحبّي لنفسي لأنّني خفتُ أن ترفضَني، ففضّلتُ أن أحبّها عن بُعد، هكذا كانت الأمور آنذاك. لن تفهَم!
ـ إذًا هي تزوّجَت... وبعد ذلك؟
ـ بقيتُ عازبًا لأنّني علِمتُ أنّني لن أحِبّ سواها. ثمّ هي سافرَت إلى قارّة أخرى مع زوجها، وهناك أنجبَت وربَّت. مضَت سنوات طويلة لكنّني كنتُ أتتبَّع أخبارها مِن خلال أخوَتها، إذ كنتُ صديقهم. وعلى مرّ السنوات، هم إمّا ماتوا أو ابتعدوا عن مكان سكَني أو نسوني فانقطَعَ الاتصال بيني وبينهم.
ـ أكمِل...
ـ كانت حياتي حزينة، إذ أنّني أدركتُ أنّ تحفّظي ومخاوفي منعاني مِن عَيش قصّة حبّ عظيمة، فانطوَيتُ على نفسي وركّزتُ على عمَلي. وسرعان ما صارَت لي أعمال خاصّة بي، وبتُّ مُقتدِرًا لدرجة الثراء. كانت لي مُحاولات غراميّة، على أمَل أن أجِد مَن يُنسيني سميرة، لكن مِن دون فائدة. كان قلبي، ولا يزال، ملكها.
ـ لكنّها لَم تعرِف أبدًا بشأن مشاعركَ تجاهها... أمر مؤسِف. أكمِل من فضلكَ.
كلام العجوز أثَّرَ بي، إذ أنّني كنتُ أنا الآخَر رومانسيًّا لكنّني لَم أحظَ بالحبّ اللازم مِن قِبَل زوجتي، ولوهلة حسَدتُ العمّ فهد على اصراره وتفانيه. ثمّ هو قال:
ـ للحقيقة، كنتُ قد فقدتُ الأمل نهائيًّا، خاصّة بعدما لَم أعُد أعلَم شيئًا عن سميرة. وأشكرُ ربّي ألف مرّة أنّني بقيتُ أسكنُ في البيت نفسه، بالرغم مِن إمكانيّاتي المادّيّة الكافية لشراء أفضل شقّة أو بيت. إلّا أنّ حنيني استمرَّ لحبيبتي وكنت أقضي وقتي أنظرُ مِن نافذة غرفتي إلى شرفة شقّتها.
ـ لكن كيف...
ـ مهلًا أيّها الشاب! مهلًا، ستعرفُ كلّ شيء. وذات يوم... رأيتُ سميرة على شرفتها تمامًا كما كنتُ أراها قبل دَهر! في البدء ظننتُ أنّني أتخايَل أمورًا لا وجود لها، إلّا أنّها كانت حقيقيّة! نادَيتُها وألقَيتُ التحيّة عليها وتبادَلنا الكلام! أتتصوّر فرحَتي؟!؟ هي قالَت لي إنّها فقدَت زوجها وأحبَّت العودة إلى مسقط رأسها، بعد أن صارَ أولادها كبارًا ولدَيهم عائلات خاصّة بهم. إتّفَقنا أن نبقى على تواصل، وفي تلك الليلة لَم أنَم ولو للحظة مِن كثرة فرَحتي! لقد عادَت سميرة لي! لكن في حينها أيضًا لَم أبُح لها عن مشاعري، ظانًّا أنّ الوقت أمامي لذلك، وهذا غلطة أخرى مِن جانبي، وكأنّني لَم أتعلّم شيئًا مِن الحياة. فعلينا الادراك بأنّ الدنيا تأخذنا يمينًا وشمالًا وأينما تشاء وفي كلّ لحظة، وعلينا التصرّف بسرعة قَبل فوات الأوان!
ـ ماذا حدَث؟!؟
ـ وقعَت سميرة أرضًا وكسرَت وركها فأخذوها إلى المشفى... ثمّ إلى هنا بعد أن قرّرَ أولادها أنّ المؤسّسة هي المكان الأفضل لها، لأن ليس بإمكان أيّ منهم الاعتناء بها بسبب وجودهم في الغربة.
ـ وصادَفَ أن جئتَ أنتَ الآخَر إلى هنا؟ صحيح؟
ـ لا! بل جئتُ بإرادتي، فلدَيّ المال الكافي لأعيشَ أينما أُريد!
ـ يا إلهي... جئتَ إلى مؤسّسة للمُسنّين بإرادتكَ؟!؟
ـ وهل تُريدُني أن أفقِدها مِن جديد؟ لكنّ القدَر لعين! فبعد أن اجتمعنا مِن جديد هنا وادّعَيتُ أنّها صدفة بحتة... قرَّرَ أولادها سحبها إلى حيث هم! أي سيأخذونها منّي! ولكثرة استيائي، أصابَتني تلك الأزمة القلبيّة! يجب أن أُغادِر هذا القسم وبسرعة فهي راحلة، وإلى الأبد!
ـ عمّ فهد... إن غادَرتَ الآن، فلن تعيشَ كفاية للّحاق بها.
ـ وماذا تُريدُني أن أفعل؟
ـ هل اعترفتَ لها بحبّكَ؟
ـ لا... فحسِبتُ أنّنا سنعيشُ هنا سويًّا حتّى آخِر أيامنا. على كلّ الأحوال، لقد فاتَ الأوان، هي راحِلة إلى تلك القارة البعيدة!
ـ ليس إذا تزوّجتَها!
ـ أتزوّجها ونحن في هذا السنّ؟
ـ ليس هناك مِن سنّ للحبّ! هيّا، أكتُب لها رسالة تروي لها قصّتكَ منذ البداية، ودَع الأمر لي.
ـ وإن هي رفضَتني؟!؟
ـ لا أظنّ ذلك... فشيء يقولُ لي إنّها أيضًا تُريدُكَ، لكنّها تنتظِر إشارة منكَ.
أخذتُ الرسالة وأعطَيتُها لموظّفة تعمَل في قسم النساء، بعد أن أخبرتُها قصّة العمّ فهد وسميرة. وبعد أقلّ مِن ساعة، إستلَمتُ رسالة مِن سميرة إلى العمّ. وقفتُ صامِتًا أمامه وهو يقرأها، ورأيتُ ابتسامة عريضة على وجهه قَبل أن يصرخ: "وأخيرًا! وأخيرًا!". فاتّضَحَ أنّ سميرة كانت، ومنذ البدء، تحِبّ فهد بالقوّة ذاتها! ذرَفنا الدموع سويًّا ثمّ بدأنا نُخطّط لمسألة الزواج. وتحسّنَت حالة فهد بسرعة فائقة، الأمر الذي لَم يُفاجئني كثيرًا، فكنتُ أعلمُ مدى تأثير الحالة النفسيّة على حالة الجسَد.
تبادَلَ الحبيبان الرسائل والاتّصالات الهاتفيّة وجاءَت سميرة لزيارته، فتركتُهما لوحدهما لإعطائهما حرّيّة الكلام.
ثمّ تمّ الاتصال بأولاد سميرة لإخبارهم أنّ لا لزوم لِجلَبها إليهم لأنّها ستتزوّج! في البدء ظنّوا أنّها فقدَت عقلها، إلّا أنّ الأطبّاء في المؤسّسة أكّدوا لهم أنّ عقلها سليم لكنّ قلبها مأخوذ بفهد!
أقَمنا للعروسَين حفلًا في الحديقة الجميلة حضرَه كلّ العجزة، وتعالَت الموسيقى وسط الدموع. وحسِدتُهما مِن جديد على سعادتهما، مُدرِكًا أنّ الحبّ يحتاج إلى إصرار وعمَل، ولا يأتي بسهولة. حاوَلتُ مُجدّدًا أن أصحِّح الأمور مع زوجتي، فكنّا نُحِبّ بعضنا في يوم مِن الأيّام، إلّا أنّها أخبرَتني أنّ هناك شخصًا آخَر في حياتها. لَم أزعَل كثيرًا، بل فعلتُ ما كان يجب فعله مِن قَبل، أي أن أُتابِع حياتي وأبحَث عن حبّ أصيل وقويّ، كحبّ فهد وسميرة.
بقيتُ على تواصل مع الحبيبَين لسنوات، إلى حين أُصيبَ فهد بأزمة قلبيّة حادّة وفارَقَ الحياة. سافَرت سميرة إلى أولادها وانتهَت قصّتهما الطويلة ـ القصيرة. لكنّهما استطاعا، ولو لسنوات قليلة، أن يَعيشا قصّة حبّ كبيرة.
أمّا بالنسبة لي، فلا أزال أعمَل في المؤسّسة نفسها، وصِرتُ أحبّ العمَل مع المُسنّين وأستمِدّ منهم الخبرة لأفهم نفسي والحياة أكثر.
ولقد وجدتُ الحبّ أنا الآخَر في شخص الموظّفة نفسها التي استلمَت رسالة فهد لسميرة، إذ أنّ الموضوع هذا قرّبَنا مِن بعضنا، فتبادَلنا مُطوّلًا الكلام حول الغرام والاخلاص... إلى أن وقَعنا في حبّ بعضنا! لكنّني، خلافًا للعمّ فهد، لَم أنتظِر سنوات للبوح بمشاعري، فلقد تعلمت أنّه لا يجب إضاعة الوقت والفرَص، فالقطار لا ينتظِر أحَدًا!
حاورته بولا جهشان