الشرّ يسكنُ بيننا

لطالما كانت ثريّا، إبنتي، تجيدُ حوك الأكاذيب، ولَم أعرف السبب وراء حبّها لاختراع قصصٍ لا تمتُّ للحقيقة بأيّة صلة. كنتُ أصدّقُها حين كانت صغيرة، فلَم يخطر أبدًا ببالي أنّ مخلوقة بهذا الحجم يُمكنُها امتلاك هكذا قدرة على الخداع. لكن مع الوقت، صرتُ قادرة، إلى حدّ ما، على التفريق بين ما هو كذب وصدق. وحده أبوها كان يقعُ في الفخ ولَم يتعلّم الدرس، بل بقيَ يُدافعُ عن ابنته، وبشراسة.

أخذتُ ثريّا عند طبيبة نفسيّة مُختصّة بالأطفال، وبعد جلسات عديدة، قالَت لي الأخصّائيّة إنّ لا خطب بابنتي. كانت هي الأخرى قد وقعَت ضحيّة فتاة صغيرة تعرفُ كيف تتلاعب بالناس وبما يخرجُ مِن فمها. عندها أدركتُ أنّني جلبتُ إلى الدنيا مخلوقة وصفتُها بالشرّيرة، بل ما هو أكثر مِن ذلك، بالممسوسة. قد أبدو مُتطرّفة بالحكم على صغيرتي، إلا أنّ لا أحد يعرفُ ولده أكثر مِن الأم.

لَم أنجِب مُجدّدًا كما كنتُ أنوي أن أفعل، وذلك بسبب خوفي مِن أن يأتي ولدي الثاني مثل أخته وتفلتُ الأمور مِن يدَيّ، خاصّة أنّ زوجي كان ينعتُني بالمجنونة حين أحدّثُه عن مخاوفي بما يخصُّ إبنتنا.

مرَّت السنوات، وتمكّنتُ مِن معرفة ما يدلّ على كذب ثريّا، إذ لاحظتُ أنّها تمسكُ بخصلة مِن شعرها وتداعبُها عندما تؤلّف القصص. لَم أقل شيئًا لأحد طبعًا، فذلك كان سلاحي الوحيد لمواجهة ما قد تنوي إبنتي فعله. وكنتُ مُتأكّدة مِن أنّها ستبلغُ حدّ التمرّس بالكذب عندما تكبر وتصير تعرفُ أكثر بالناس والحياة. وما بدأ كأكاذيب ولاديّة، صارَ مع الوقت، فِتَنًا مشغولة بإتقان.

خلَفت ابنتي الجيران ما بينهم، باختراع أقاويل لَم تحصل. وسادَ جوّ مِن التشنّج في المبنى بعدما صارَ الكلّ يتفادى الكلّ. لكنّ ذلك لَم يشفِ غليل ثريّا، فهي كانت قادرة على ما هو أكثر مِن ذلك. حاولتُ إعادة التناغم بين جيراني، ودَعوتُهم جميعًا إلى بيتنا لأقومُ بدور المُصلحة، خاصّة أنّني كنتُ أعرفُ هويّة التي بخَّت السمّ في الطوابق الأربعة، إلا أنّ اجتماعنا باء بالفشل. ولو كنتُ قادرة على ذلك، لقلتُ للجميع إنّ ابنتي هي الرأس المُدبّر، لكنّني خفتُ عليها... ومنها. فلا أحد كان يعلمُ لأيّ مدى كانت ثريّا مستعدّة لبلوغه، إلى أن دخَلَت ريما حياتنا.

كانت ريما إبنة أخي التي ترعرعَت في أمريكا. وشاءَت الظروف أنّها عادَت إلى البلد بعد أن مرِضَ أخي وأعرَبَ عن نيّته بإرسال إبنته إلينا لتتعرّف إلى جذورها، بسبب حنين كبير إستحوذَ على قلبه. ويا لَيتَني رفضتُ طلَبَ أخي، لكنّني لَم أجد عذرًا مُقنعًا لعدم استقبال تلك المُراهقة.

كانت ريما مِن سنّ ثريّا تقريبًا، أي في السادسة عشرة، وكانتا إبنتَين وحيدَتَين، لِذا وُلِدَت بينهما مودّة سريعة صارَت بوقت قصير شبيهة برابط أخويّ. صلَّيتُ كي يكون لريما تأثير إيجابيّ على ابنتي، لكن أمنياتي لَم تتحقّق.

 


فابنتي الشرّيرة إستغلَّت قلّة معرفة إبنة خالها باللغة، وعدَم اعتيادها على بلدها الأم، لتُعلّقُها بها وتُقنعُها بأنّها بأمان معها. لِذا صارَت إبنة أخي تثقُ ثقة عمياء بابنتي، وهو خطأ فادح وقَعَ بالرّغم مِن تنبيهاتي المُبطّنة لريما، ومحاولاتي العديدة لعدَم تركهما لوحدهما لفترة طويلة. والذي لَم يُساعدُني على تفادي الكارثة، كان موقف زوجي المُعادي لي بما يخصّ إبنتنا. فمع الوقت، أصبَحَ زوجي كعدوٍّ لدود لي عندما يتعلّقُ الأمر بثريّا ويُحاربُني باستمرار. فبالنسبة له كانت ثريّا مخلوقة مثاليّة أقرب إلى الملاك.

وهكذا اضطرِرتُ لإرسال ثريّا وريما إلى مُخيّم صيفيّ، بعدما هدَّدَني زوجي بافتعال مُشكلة كبيرة معي إن بقيتُ أرفضُ. عندها، أخذتُ أقارنُ بين مخاوفي التي لَم يكن لها أساس فعليّ، وبين الذي كان مِن الممُكن أن يحدث لعائلتنا لو نفَّذَ زوجي تهديده. ووجدتُ أنّني قد أكون أبالغُ في تقديراتي. ذهبَت البنتان إلى المُخيّم، ولَم يسَعني فعل شيء... إلا الدّعاء بأن ترجعا بخير.

لكنّ مصيبة حلَّت في ذلك المُخيّم، تمامًا كما توقّعتُ. إلا أنّني لَم أتصوّر أن تصل إبنتي إلى هذا الكمّ مِن الكذب والشرّ. فبعد عشرة أيّام على رحيل البنتَين، وصلَني اتصال مِن إدارة المخيّم مفاده أنّ علينا القدوم وبسرعة. إستغربتُ الأمر، فكنتُ أطمئنّ هاتفيًّا على إبنتي وابنة أخي يوميًّا، وكانت ثريّا تؤكّد لي أنّ كل شيء على ما يرام.

وصَلنا المُخيّم بعد ساعَتين واستقبلَنا المدير عند المدخل. كانت ملامح الإحراج والهمّ بائنتَين على وجهه. أدخلَنا بسرعة إلى مكتبه وقال لنا بعد أن أقفَلَ الباب باحكام:

 

ـ لدَيّ خبر غير سار... فلقد حَدَثَ أمرٌ مؤسف للغاية للآنسة ريما.

 

ـ يا إلهي! تكلّم!

 

ـ لقد... لقد اعتدى أحد عاملينا عليها... جنسيًّا.

 

ـ ماذا؟!؟ أين ريما؟ أين ذلك السافل؟ هل استدعَيتم الشرطة؟

 

ـ لا... فالأمر معقّد... يقولُ العامل إنّ ريما هي التي أرادَت ذلك وهي تنفي الأمر طبعًا. لِذا استدعَيتُكما قبل اتّخاذ التدابير اللازمة.

 

ـ أين ابنتي ثريّا؟ أين البنتان؟

 

ـ سأستدعيهما بالحال.

 

دخلَت ثريّا والمسكينة ريما التي انفجرَت بالبكاء عند رؤيتنا وركضَت ترتَمي في أحضاني. علِمتُ منها أنّ العامل إنقضَّ عليها حين دخلَت غرفة الصيانة. وعندما سألتُها لماذا راحَت إلى مكان لا عمل لها فيه، أجابَت: "ريما طلبَت منّي انتظارها هناك لنلعب لعبة الإختباء."

نظرتُ إلى إبنتي، ورأيتُها تداعب خصلة مِن شعرها، فعلِمتُ على الفور أنّ لها دخل مُباشر بالذي حصَلَ لابنة خالها. لكن كان عليّ التأكّد مِن نظريّتي قبل كلّ شيء، لِذا، طلبتُ رؤية العامل على انفراد.

أخرجوا الرجل مِن غرفته بعد أن كانوا قد حبسوه فيها بانتظار قرار الإدارة، وأدخلوه غرفة أخرى حيث كنتُ موجودة. وعندما صرنا لوحدنا قلتُ له:

 


ـ أنا خالة المسكينة التي اعتدَيتَ عليها، وهي في عهدتي، فأهلها في الغربة. قل لي ما حصَلَ بالتفاصيل، أريدُ الحقيقة!

 

ـ لن تصدّقيني، فلَم يُصدّقني أحد.

 

ـ إحكِ لي.

 

ـ أنا لَم أعتَدِ على تلك الفتاة، بل هي التي أعطَتني موعدًا في غرفة الصيانة بعد ما كانت تتركُ لي رسائل تُمرّرُها تحت باب غرفتي. وفي تلك الرسائل، كلام حبّ وشغف وشوق. وعندما وجدتُها في غرفة الصيانة حسب الموعد الذي أعطَتني إيّاه، تصوَّرت طبعًا أنّها ستطبّقُ كل ما تكلّمَت عنه في الرسائل. صحيح أنّها مانعَت، إلا أنّني ظننتُ أنّها تتدلّع. لَم أتوقّع أن تقول إنّني اغتصَبتُها.

 

ـ أين تلك المكاتيب؟

 

ـ لقد أتلفتُها كما طلَبَت ريما منّي أن أفعل في آخر كلّ رسالة، فهي كتبَت أنّ عليّ محو أي أثر لعلاقتنا بسبب أهلها وإدارة المُخيّم فقد أُطرَد إن وجَدَ أحد المكاتيب. أقسمُ لكِ يا سيّدتي أنّني أقولُ الحقيقة!

 

عرفتُ على الفور أنّ صاحبة الرسائل هي إبنتي وليست ريما، لكنّني لَم أفهم سبب إيقاعها لابنة أخي في فخ بهذا الشرّ.

تفاجأ المدير وزوجي بي حين قلتُ إنّنا لن نشتكي على العامل. أخَذنا البنتَين وعُدنا بهما إلى البيت ومِن ثمّ عرَضتُ ريما على طبيب نسائيّ الذي فحَصَها وقال إنّ الفتاة لا تزال بتولاً، فالعامل لَم يمسّ بكارتها. وارتاحَ قلبي وقلب الفتاة المسكينة. أقنعتُ ريما بأنّه مِن الأفضل ألا نزجُّ الشرطة بالموضوع، فذلك سيخلقُ قضيّة كبيرة وسيظهرُ إسمها وإسم أبوَيها في التقارير الصحفيّة. وبعد يومَين، بعثتُها إلى أهلها بعدما جعلتُها تقسمُ لي بعدَم إخبار أحد بالذي حصَل.

بعد رحيل ريما، أخذتُ ثريّا جانبًا وقلتُ لها:

 

ـ أعلمُ تمام العلم أنّك كتبتِ تلك الرسائل للعامل. لا أدري ما كانت دوافعكِ، إلا أنّكِ تسبَّبتِ لابنة خالكِ بمشكلة نفسيّة ستبقى ترافقها إلى الأبد. صحيح أنّها لا تزال بتولاً، إلا أنّ هذا هو نتيجة الصدفة البحتة. تصوّري ما كان سيحصلُ لها لو اغتصبَها كليًّا! كذبكِ واحتيالكِ تحوّلا إلى شرّ لا مثيل له، وأخافُ أن تبلغي حدًّا قد يصل ربّما إلى الجريمة. لا أعرفُ لماذا أنتِ هكذا ووحده العلم يستطيع مُساعدتكِ. إسمعيني جيّدًا... إلى حدّ الآن كنتُ مُتساهلة معكِ، لأنّني ظننتُ أنّكِ ستكتفين ببعض الأكاذيب، لكنّني لن أسمح لكِ بتدمير حياة أحد، أفهمتِ؟ ستخضَعين مجدّدًا للعلاج النفسيّ، لكن هذه المرّة ستمكثين في مؤسّسة خاصّة إلى حين تُدركين ما تفعلينه.

 

ـ لن يسمحَ لكِ أبي بإرسالي إلى أي مكان. فأنا مُسيطرة عليه كليًّا.

 

ـ لا يا آنسة، أنتِ لا تُسيطرين على أحد! أنتِ فتاة لا حوّل وقوّة لكِ سوى لسانكِ المؤذي! حضّري نفسكِ.

 

لزمَتني الكثير مِن الحجَج والبراهين لأقنع زوجي بإرسال ثريّا إلى مؤسّسة خاصّة بالأمراض العقليّة. أخبرتُه حقيقة ما فعلَته بِريما وبالرّغم مِن أنّه نفى بقوّة أن يكون لثريّا دخل بالقضيّة، كان يعرفُ ضمنًا أنّها فاسدة. فبعد أن اكتشَفَ أنّها أيضًا خطيرة، قبِلَ معي على مضض... بعد أن هدّدتُه بتركه لوحده معها إلى الأبد.

ذهبَت ثريّا إلى المؤسّسة ليس مِن دون أن تُقاوم بكلّ قواها. إلا أنّها رضخَت للأمر الواقع أخيرًا. كنتُ قد أطلَعتُ الأطبّاء هناك على قدرتها المهولة على الكذب والتضليل، وأخبرتُهم بالتفاصيل بالذي هي قادرة على فعله، غير ناسيةً حادثة المُخيّم. وهم أكّدوا لي أنّهم مُعتادون على هكذا حالات.

صِرتُ أزورُ إبنتي بانتظام، وفي كلّ مرّة كانت ثريّا تؤكّدُ لي أنّها أصبحَت أفضل مِن قبل، وتتوسّل إليّ كي أعودُ بها إلى البيت. لكنّني لَم أصدّقها بل انتظرتُ تقرير الذي يُعالجونها.

قضَت ثريّا سنتَين كاملَتيَن في المؤسّسة، وحين دخلَت البيت إنفجَرت بالبكاء طالبة السّماح على أفعالها. كانت قد تغيّرَت بالفعل بعدما فهمَت مشكلتها وأبعادها. إلا أنّني أٌبقي عينًا ساهرة عليها، فلستُ مُطمئنة كليًّا، وقد تكون إبنتي قد نجحَت بغشّ الأخصّائيّين. فبالرّغم مِن أنّ سنة بكاملها قد مضَت على عودتها، إلا أنّني أراها بين الحين والآخر تداعبُ خصلة مِن شعرها. هل ذلك لأنّها اعتادَت على هذه الحركة، أم لأنّها عادَت إلى كذبها وشرّها، على الأقل تحت شكل أفكار تتخمّرُ في رأسها بانتظار تطبيقها يومًا ما؟

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button