كالعديد مِن الفتيات، حلِمتُ بأن أصبح مضيفة طيران، أوّلاً ليتسنّى لي السفر مِن بلد إلى بلد، وثانيًا بسبب الهالة التي تحيط بتلك المهنة. فمِن المعروف أنّ المضيفات جميلات جدًّا وتُعتبَرنَ واجهة شركة الطيران لا بل البلد نفسه. وأنا كنتُ صبيّة جميلة تريد رؤية الدنيا بأسرها وتتباهى بنفسها.
واجهتُ صعوبات جمّة لإقناع أهلي بأن أنضمّ إلى طاقم طائراتنا الوطنيّة، لكنّني استطَعتُ الحصول على موافقتهم بعد أن برهنتُ لهم أنّ حوادث الطيران نادرة جدًّا نسبة للتي تحصل مع السيّارات على الطرقات، وبعد أن وعدتُهم بأنّني سأحافظ على جديّتي مع الركّاب وعلى القيَم التي تربّيتُ عليها منذ صغري.
بعد أن قدَّمتُ طلبًا عند شركة الطيران، نجحتُ بالإختبار الأوّليّ وبالثاني الذي يُخوّلني دخول معهد إعداد المضيفات. هناك، وخلال شهرَين، تعلّمتُ أسس المهنة وكيفيّة إسعاف الركّاب الذين قد يُصابون بأزمة قلبيّة أو بحالة هلَع أو حتى إن احتاجَت سيّدة إلى التوليد في الطائرة أثناء الرحلة.
وحين رآني ذويّ بالزيّ، إمتلأت عيونهم بالدموع، إذ كنتُ بغاية الجمال والأناقة. كنتُ فخورة بنفسي وغارَت منّي صديقاتي لكوني مِن المحظوظات القليلات اللواتي ستجلنَ حول العالم.
يومي الأوّل كان صعبًا جدًّا، فالعمل الحقيقيّ لا يُشبه بشيء التمرينات التي خضَعنا لها. فلا أحد يُمكنه توقّع ما قد يحدث أثناء الرحلة، وشكرتُ ربّي لأنّ مسؤوليّاتي كانت محدودة جدًّا، فقد كنت برفقة مضيفة ومضيف متمرّسَين يقومان بالأعمال الجديّة. وهكذا إكتفَيتُ بمساعدتهما والتعلّم منهما في آن واحد.
أكثر أمر الذي أفزعَني خلال يومي الأوّل، كان مرورنا بمطبّات هوائيّة عنيفة. فبالرّغم مِن تماريننا في مُحاكي الطيران، كان الواقع مُفزعًا للغاية. إلا أنّني فهمتُ سريعًا أنّ الأمر إعتياديّ وأخذتُ أطمئن الركّاب وأريحهم نفسيًّا.
عندما حطَّت الطائرة وذهبتُ إلى الفندق لأقضي ليلتي حتى أطير في اليوم التالي إلى بلدي، شعرتُ بامتنان كبير خاصّة بعدما جلتُ وتسوّقتُ في بلد لم أكن لأزوره بحياتي. عُدتُ إلى أهلي محمّلة بالهدايا، ونسيَ الجميع مخاوفه بشأن مهنتي الجديدة.
لم تكن لدَيّ صديقات كثيرات، فلَم ألتقِ في رحلاتي بزميلات المعهد سوى نادرًا لكثرة عدد طائرات الشركة، ولم أكن أعلم مَن سيكون في الطاقم إلا قبل الإقلاع بقليل. لكنّني كنتُ أتمتّع بشعبيّة كبيرة عند الجميع، خاصّة عند المضيفات القديمات اللواتي بذَلنَ جهدهنّ لتدريبي على أفضل وجه.
مرَّت السنوات بفرَح وتعب ولم أندَم يومًا على اختياري مهنتي. صحيح أنّني عانَيت الكثير لكَوني مضيفة طيران، كالأوقات المتعبة وفرق التوقيت بين بلد وآخر، أو إزعاج قد ينتج عن الركّاب، لكن تمكّني مِن زيارة مدن وبلدان عديدة كان مصدر سعادتي.
وكالعديد مِن زميلاتي، تعرّفتُ إلى زوجي على متن الطائرة. كان علاء مهذّبًا ولطيفًا، ولم يكن يريد تمضية الوقت معي كما قد يفعل الكثير مِن الرجال خلال الرحلة، بل أُعجِبَ بي لدرجة أنّه شعَرَ أنّني سأكون يومًا زوجته وأمّ أولاده. وبعد أن تواعدنا وزار أهلي ليطلب يدي منهم، قال لي إنّه لا يُريدني أن أكمل مسيرتي بالطيران، حتى خلال فترة خطوبتنا وليس فقط بعد زواجنا. كنتُ طبعًا أنوي ترك مهنتي بعد عقد قراننا للتفرّغ لبيتي وزوجي، لكن ليس قبل ذلك. وهذا ما قالَه لي علاء:
ـ أخافُ عليكِ، حبيبتي... مهنتكِ خطرة للغاية.
ـ أبدًا... تسقط طائرة مرّات قليلة في السنة عالميًّا، بينما تصطدم السيّارات ببعضها على مرّ الثواني، هل هذا يعني أنّ عليّ التوقّف عن القيادة؟
ـ لكنّ حوادث الطائرات مميتة بنسبة تقارب المئة بالمئة... أنا لا أفرض رأيي عليكِ، بل أكلّمكِ مِن باب الخوف والقلق.
ـ سأفكّر بالأمر لكنّني لن أعدكَ بشيء.
إنزعجتُ مِن طلب علاء لأنّه مسّ بما كنتُ أحبُّه أكثر مِن أيّ شيء، واحترتُ في أمري. وسرعان ما باتَ ذلك الموضوع محطّ نقاش دائم بيننا حتى صرتُ أتفادى الجلوس مع خطيبي. هو لم يكن يستوعب أنّني لم أكن جاهزة بعد للقيام بدور الزوجة والام، وأنّني أردتُ الإستمتاع بحياتي كما هي، على الأقلّ خلال الأشهر القليلة التي كانت تفصلني عن زفافي.
لكنّ عيد مولد خطيبي كان يقترب، وكان ينوي أخذي إلى مطعم جميل للإحتفال مع أصدقائه وأقاربه. ومِن جهّتي كنتُ أخشى أن أكون على متن طائرة في الوقت نفسه، وكنتُ أعلم أنّ عدَم وجودي في تلك المناسبة سيُسبّب لعلاء أسىً عميقًا ويُولّد بيننا شجارًا كبيرًا.
وما كنتُ أخشاه حصل، فوصَلَني جدوَل عمَلي واكتشَفتُ أنّني لم أكن قادرة على الإحتفال مع علاء. إلا أنّ احدى المضيفات القديمات لاحظَت عليّ علامات الحزن، وبعد أن استجوبَتني وعلِمَت السبب قالَت لي:
ـ سأركب الطائرة مكانكِ فليس لديّ ارتباط في ذلك اليوم.
ـ هل يُمكنكِ فعل ذلك؟
ـ يحصل ذلك أحيانًا بين المضيفات، فنحن أخوات في مهنة ليست بسهلة. لا عليكِ، سأتدبّر أمري وستتمكّنين مِن قطع قالب الحلوى مع خطيبكِ.
كنتُ في قمّة السعادة، وعانقتُها بقوّة وقبّلتُها مرَّات عديدة. أمّا هي فضحِكَت وتمنَّت لي تمضية سهرة ممتعة.
زفَّيتُ الخبر لعلاء الذي سرّ بدوره، لكنّه أضافَ أنّ لولا تلك المضيفة لقضى عيده مِن دوني... لكنّنا احتفلنا ونسينا مشاكلنا.
إلا أنّني علِمتُ في اليوم التالي أنّ الطائرة التي كانت على متنها المضيفة تحطّمَت ولم ينجُ منها أحد. صرختُ صرخة كبيرة وركضتُ أبكي دموعي كلّها. كنتُ قد قتلتُ، ولو بشكل غير مباشر، إنسانة طيّبة كان مِن المفروض بها أن تعيش. كيف كنتُ سأواجه الذي فعلتُه؟ ولكثرة ألمي، أُغمِيَ عليّ. وعندما استفَقتُ وجدتُ علاء بجانبي وهو يقول لي: "كان مِن المفروض أن تكوني ميّتة، فاحمدي ربّكِ". ولكن كيف لي أن أحمد ربّي على كَوني قاتلة؟
لم أستوعب الأمر وبالكاد استطعتُ الذهاب إلى دفن المسكينة. لم يجدوا جثمانها بالكامل، لكنّهم أقاموا لها المراسِم اللازمة. وبينما كنتُ جالسة مع باقي النساء وأبكي معهنّ، سمعتُ أمّ الفقيدة تقول: "لم يكن مِن المفروض بها أن تستقلّ تلك الطائرة، إلا أنّ ابنتي أسدَت لزميلتها معروفًا... لا أعرف إسم المجرمة وأرجو ألا تكون موجودة اليوم بيننا، وإلا ستكون وقاحة كبيرة منها أن تأتي إلى مأتم التي قتلَتها".
تجمَّدَت الدّماء في عروقي لدى سماعي ذلك، وصلَّيتُ ألا يعرف أحد أنّني التي تتكّلم عنها السيّدة. ولحسن حظّي لم يُفضَح أمري وخرجتُ بعد دقائق بصمت لأكمل البكاء على سجيّتي.
الأيّام والأسابيع التي تلَت كانت رهيبة. قدّمتُ استقالتي، ومكثتُ في البيت رافضة رؤية أحد، بمَن فيهم خطيبي. فبنظري كان هو الآخر مذنبًا، فلولا إصراره على وجودي في احتفاله، لمَا ماتَت المسكينة. للحقيقة، كنتُ أتمنّى فعلاً أن أكون التي صعدَت إلى الطائرة في ذلك اليوم، حتى لو عنى ذلك موتي، فعلى الأقل لم يكن ضميري ليوجعني هكذا.
وصَفَ لي الطبيب حبوبًا مهدّئة وبتُّ أقضي وقتي نائمة. وحتى أثناء نومي، كنتُ أرى وجه المضيفة المبتسم وهي تتمنّى لي قضاء وقت ممتع مع خطيبي.
لم يملّ علاء وبقيَ يُحاول مخاطبتي إلى أن قبلتُ أخيرًا التكلّم معه هاتفيًّا. أعرَبَ لي عن أسفه الشديد للذي حصَلَ، لكنّه بقيَ يقول لي إنّه ممتنّ لأنّني أنا التي عشت. إلا أنّني كرهتُ خطيبي إلى درجة عدَم القدرة على رؤيته. كنتُ أعلم أنّني أظلمُه هكذا، لكنّ الأمر لم يكن بيدَي. فسَخنا خطوبتنا وارتحتُ كثيرًا لأنّ وجود علاء في حياتي كان سيُذكّرني دائمًا بالفاجعة. أمّا هو، فسافَرَ بعيدًا.
بعد حوالي السنة، إستطعتُ أخيرًا العودة إلى حياة شبه طبيعيّة، وبحثتُ عن عمل غير مضيفة طيران، ووجدتُ وظيفة في معهد خاص لتدريب مضيفات المطاعم، والأمر كان مشابهًا تقريبًا للذي كنتُ أفعلُه.
مرَّت حوالي العشر سنوات على الحادثة، حين وقعَت عَينايَ على مقال في الصحيفة يتحدّث عن رجل أعمال ناجح عادَ مِن المهجر ليستثمر في بلده. إستطعتُ التعرّف إلى صورة علاء، بالرّغم مِن أنّه بدا لي أكبر مِن سنّه وكان قد فقَدَ الكثير مِن وزنه. إبتسمتُ لبرهة وتمنَّيتُ له في قلبي التوفيق، ووضعتُ الصّحيفة جانبًا ونسيتُ الأمر.
لكنّني لم أتوقّع أبدًا أن أرى خطيبي السابق واقفًا أمامي على باب المعهد وبيَده باقة ورد. لم يقل شيئًا ووقَفنا ننظر إلى بعضنا بصمت. ثمّ قال:
ـ كنتُ أنانيًّا... لم أفهم شعوركِ بالذنب، ولم أستوعب أنّني سأكون مَن يُذكّركِ بما حدَثَ بمجرّد وجودي. لكنّني أعود وأقول لكِ إنّني أحبّكِ ولم أنَسَكِ يومًا. وبعد أن مرَّت السنوات، كل ما أريدُه منكِ هو صداقتكِ. هل تقبلين طلَبي المتواضع؟
قبلتُ طبعًا، إلا أنّني لم أعرف في ذلك النهار أنّني سأحبّ علاء مِن جديد. حسبتُ أنّنا سنبقى أصدقاء فقط، لكنّ حبّي القديم له تغلّبَ على أي شيء آخر. وبعد سنة على لقائنا، تزوّجنا أخيرًا، وأستطيع الجزم أنّني حقًّا سعيدة معه ومع ولدَيّ.
يحصل طبعًا أنّ أفكّر بالمضيفة المسكينة، إلا أنّني فهمتُ أخيرًا أنّ ذلك كان قدَرها... وقدَري، وما مِن شيء يستطيع تغيير ما كُتِبَ لنا.
حاورتها بولا جهشان