الرجل الآخر...

لحظة وقعَت عينايَ على دنيا، إبنة جيراننا الجدد، علِمتُ أنّ تلك الصبيّة الحسناء ستلعبُ دورًا مُهمًّا في حياتي. لكنّني كنتُ بعيدًا كلّ البُعد عن تصوّر ما سيحدثُ لي ولأهلي بسببها.

كنتُ آنذاك شابًّا مُراهقًا يتحضّر لِدخول الجامعة بحماس. كان حلمي أن أصبحَ طبيبًا ماهرًا وأنقذُ حياة العديدين، أو على الأقل أُريحُهم مِن أوجاعهم. لِذا انصبَبتُ على الدراسة في سنتي المدرسيّة الأخيرة. وبفعل ذلك، قضيتُ مُعظم وقتي في غرفتي... التي تطلّ مُباشرة على غرفة نوم جارتي الجميلة التي كان سنّها يُقاربُ سنّي. هي الأخرى كانت تجلسُ خلف مكتبها للدّرس، فتلاقَت عيوننا ذات يوم وضحكنا لتشابه الموقف. كنتُ حتى ذلك الحين قد اكتفَيتُ بالنظر إليها خلسة وهي مارّة في الشارع أو إن التقَينا في الدكّان. لكن صارَ لدَينا همّ مُشترك وهو النجاح في المدرسة وبالتالي مواضيع نتكلّم عنها. رحتُ إلى الشبّاك وألقَيتُ التحيّة عليها، وهي ابتسمَت لي مُظهرة صفّ أسنان شبيه باللؤلؤ. ذابَ قلبي مِن كثرة الإعجاب وتجرّأتُ على التكلّم معها، فسألتُها مئة سؤال قبل أن تغيب عنّي مَن أسمَيتُها "فتاة أحلامي". علِمتُ منها أنّ اسمها دنيا وأنّها إبنة وحيدة على شابَّين وأنّها أصغر منّي بسنة.

في الأيّام التالية تكرَّرَ السيناريو نفسه، إلى أن حصلتُ أخيرًا على رقم هاتفها وبتنا نتكلّم على راحتنا عبر الهاتف. سرحتُ بأفكاري في ما يخصّها، إلا أنّني عدتُ وركّزتُ على أهدافي، مُقنعًا نفسي أنّ نجاحي في المدرسة ولاحقًا في الجامعة سيُقرّبني أكثر ممّا صمَّمتُ عليه: الزواج مِن دنيا. فلقد شعرتُ أنّها حقًّا الفتاة المثاليّة لي وأنّها ستكون زوجتي وأمّ أولادي.

بعد فترة، قرّرتُ ودنيا أن نخرج سرّيًّا سويًّا، فكنتُ أشعرُ بحاجة ماسّة لرؤيتها عن قرب والإمساك بِيَدها لأشعر بحرارتها. وهكذا تقابلنا في المجمّع التجاريّ وكنتُ أسعَد شابّ في الدنيا!

أجرَيتُ امتحاناتي ونجحتُ بتفوّق، وجاءَت الفرصة الصيفيّة التي سمحَت لي بالتركيز على حبيبتي. فقضَينا أيّامًا جميلة لن أنساها بحياتي. تسجَّلتُ في كلّيّة العلوم ووعدتُ حبيبتي بأنّها ستصبح يومًا زوجة طبيب يُحبُّه الناس. لكن بعد ذلك، تغيّر كلّ شيء، ليس بسرعة بل بشكل بطيء ومُستتِر. كان يجدرُ بي الحسبان بأنّ الحياة لا تجري كما نُخطّط لها، لكنّني كنتُ في سنّ حيث نؤمِن بأنّ الدنيا مثاليّة. واعتقدتُ أنّ دنيا أيضًا مثاليّة.

وإنّ كنتُ اليوم قد أخفقتُ بأن أكون طبيبًا، فالذنب يقَع على حبيبتي وعلى أناس آخرين. فقد انشغلتُ أوّلاً بمعرفة سبب التغيّرات التي أصابَت دنيا حيالي، ولاحقًا في التقصّي عن الأمر، وبعد ذلك باستيعاب ما حصل.

 


فقد صارَت دنيا كثيرة الانشغال، أوّلاً عبر الهاتف إذ أنّ خطّها كان إمّا مشغولاً أو مقفولاً، ولَم تكن تردّ عليّ إلا بعد أن أفتحَ شبّاك غرفتي وأُنادي لها أو أرمي على الزجاج حجرة صغيرة. لقاءاتنا أيضًا شحَّت، فكانت لها أعذار دائمة تمنعُها مِن رؤيتي. سألتُها عن كلّ تلك الأمور لكنّها بقيَت تقولُ لي إنّ لا شيئًا تغيّرَ في قلبها في ما يخصّني، وتحجّجَت بصعوبة سنتها المدرسيّة الأخيرة. عرضتُ عليها أن أُساعدها في درسها لكنّها رفضَت بتهذيب، مُضيفة أنّ لدَيها أستاذًا يأتي يوميًّا تقريبًا لمُساعدتها. أستاذ؟!؟ لِما لَم تُخبرني بالأمر قبل ذلك؟ فكنّا نتشارك كلّ تفاصيل يومنا وحياتنا. هل يُعقَل أنّ لوجود ذلك المُعلّم الخاص دخلاً بتحوّل حبيبتي؟ لستُ أغارُ بالفطرة، إلا أنّ المنطق دفعَني إلى أخذ الموضوع بعَين الاعتبار، إذ أنّه العنصر الوحيد الجديد الذي طرأ على حياة دنيا. سألتُها أين كان يُدرّسها ذلك الشخص، فلَم أرَه قط مِن شبّاك غرفتي أو شبّاك غرفة أهلي التي كانت أيضًا تطلّ على ذلك الجانب مِن مبناها، فأجابَتني أنّها تتلقّى الدروس على طاولة غرفة السفرة، أي في مكان لا أستطيع رؤيته. وحين سألتُها عن اسمه واختصاصه وسنّه، أقفلَت دنيا الخطّ في وجهي قائلة:

 

- أنتَ لا تثقُ بي! يا إلهي... لقد خابَ ظنّي بكَ.

 

شعرتُ بالذنب وأدركتُ أنّني تمادَيتُ كثيرًا، ربمّا بسبب الضغط الذي كان موضوعًا على كتفيَّ بالنسبة لاختياري تخصّصي. فوالدايَ كانا أيضًا يحثّاني على النجاح، فهما، كسائر الأهل، يتمنّيان أن يصير ابنهما الوحيد طبيبًا. إعتذرتُ لاحقًا مِن حبيبتي ووعدتُها بالكفّ عن الشكّ بها بل الوثوق بها بصورة مُطلقة. سامحَتني دنيا ووعدَتني بقبلة مليئة بالشغف حين نتقابل. كَم أنّها رائعة! وكَم أنّني كنتُ مُجحِفًا بحقّها حين اتّهَمتُها بالمُدرِّس، بدلاً مِن دعمها لتنجَح هي الأخرى وتدخُل الجامعة لتحقيق أحلامها! عدتُ إلى درسي مُبتسمًا لكثرة الشوق للقُبلة الموعودة.

لكن بعد حوالي الثلاثة أشهر، رأيتُ خيال شخصَين في غرفة دنيا. كنتُ أعلَم أنّ جميع ذويها قصدوا بيتهم في القرية، وأنّها بقيَت لوحدها للدرس لامتحان نصف السنة. إذًا مَن الذي كان معها في غرفتها؟ لَم أرَ سوى خيالات إذ كانت الستائر مردودة، ولولا أن ضوء الغرفة كان مُضاءً لَما رأيتُ شيئًا. لكن، وكأنّهما قرآ أفكاري، أُطفِئ النور فجأة وبقيتُ أُحدّقُ في الظلام لدقائق، قبل أن يخطر ببالي الاتّصال بدنيا وسؤالها عن الأمر، لكنّها لَم تُجِب. إنتابَني غضب عارم، فركضتُ خارجًا ودخلتُ المبنى المُقابل وصعدتُ السلالم بسرعة فائقة. وصلتُ باب شقّة حبيبتي وبدأتُ أُخبّط على الباب كالمجنون. لَم يفتَح لي أحد، فعدتُ خائبًا إلى البيت. وسألَتني أمّي ما بي فاخترعتُ لها عذرًا أقنعَها. فهي لَم تكن تعلَم بأمر علاقتي بدنيا، لأنّني أردتُ الحفاظ على سمعة صبيّة تعيشُ قُبالتنا، فماذا لو افترَقنا لسبب أو لآخر؟ هل يجوزُ أن يتكلّم عنها الناس بالسّوء؟ لكنّ حبيبتي، على ما يبدو لَم تكن تسأل كثيرًا عن سمعتها فهي كانت تستقبل رجُلاً ليلاً في غرفتها!

في اليوم التالي، حين قبلَت دنيا أخيرًا الردّ على إتّصالي، قالَت لي بعد أن اتّهمتُها صارخًا بالخيانة، أنّ الشخص الذي كان في غرفتها لدقائق معدودة كان الأستاذ. هي نادَته بعد أن رأت فأرًا في خزانتها حين أرادَت جلب كتاب منها. لكنّه لَم يرَ شيئًا، وهي استنتجَت أنّها تأثّرَت بوجودها لوحدها معه في البيت وتراءى لها الأمر. هدِئتُ قليلاً ثمّ سألتُها لِما لَم تفتَح لي الباب، فأجابَت إنّني الذي اقترَحتُ ألا يعرفَ أحد بعلاقتنا. إقتنعتُ بتلك القصّة، ومرّة أخرى طلبتُ السماح منها بعد أن هدّدَتني بتركي إن كرّرتُ اتّهاماتي لها.

 


غضبتُ مِن نفسي لأنّني صرتُ كهؤلاء الرجال الذين يغارون على نسائهم مِن دون سبب، وشكرتُ ربّي أنّ حبيبتي إنسانة مُسامحة وإلا تركَتني على الفور. ووعدتُ نفسي بعدَم تكرار الأمر والتركيز فقط على حبّنا الجميل.

لكن بعد أقلّ مِن شهر على حادثة الأستاذ في غرفة دنيا، رأيتُ مشهدًا أثارَ ارتيابي: كانت حبيبتي واقفة عند شبّاكها وتتكلّم لوحدها. هي لَم ترَني إذ أنّني كنتُ في ظلمة غرفتي أعمَل على تغيير اللمبة التي احترقَت قبل دقائق. هل كانت دنيا تُكلّمُ نفسها أم شخصًا آخر؟ لكن مَن؟ فلَم يكن هناك مِن أحد سوايَ قبالتها. إقتربتُ مِن الشبّاك ونظرتُ إلى أيّ جهة كانت توجّه كلامها الخافِت، وامتلكَني شعور ممزوج بالغضب والخوف والاستنكار. ركضتُ كالمجنون إلى غرفة والدَيّ وفتحتُ الباب مِن دون أن أطرُق عليه ورأيتُ أبي يُرسلُ القبلات لحبيبتي! تمنَّيتُ مِن كلّ قلبي أن أكون أحلمُ، وأنّ ما أُشاهدُه ليس سوى كابوس مُزعج. لكنّه كان الواقع الذي لَم يخطرُ أبدًا ببالي. صرختُ بوالدي الذي استدارَ نحوي فجأة، وبدأ يُتمتمُ كلمات لَم أفهمها مِن كثرة ارتباكه. أمسكتُه مِن ذراعه وأبعَدتُه عن الشبّاك الذي أقفلتُه. مِن جانبها، إختفَت دنيا داخل غرفتها بعد أن رأتني. أجلستُ أبي على السرير، وهدّدتُه بجَلب أمّي مِن المطبخ وإخبارها بما يجري إن لَم يُفصح لي عن نوعيّة علاقته بدنيا. وهو قال لي بصوت يرتجف:

 

ـ أحبُّها يا بُنيّ... وهي أيضًا تُحبُّني! أجل، بالرّغم مِن فارق السنّ بيننا. لستُ فخورًا بنفسي، خاصّة تجاه أمّكَ، لكنّني لَم أستطِع مُقاومة سحرها وجمالها وشبابها. للحقيقة، أنوي الزواج منها... بالسرّ طبعًا كَي لا أُزعِل أمّكَ التي لَم تُخطئ بحقّي يومًا.

 

ـ كَم أنا فخورٌ بكَ يا أبي! تنوي اتّخاذ زوجة ثانية لكَ بالسرّ، وبالرغم مِن تفاني أمّي لكَ مدى حياتها! ليكن بعلمكَ أنّني على علاقة أيضًا بدنيا، وننوي الزواج وهي تُحبُّني أنا الآخر... أو هكذا تقول.

 

ـ ماذا؟!؟

 

ـ سؤال يا أبي... هل كنتَ عندها في الغرفة يوم غادَرَ أهلها إلى القرية؟

 

ـ أجل... هي دعَتني... ولقد... أعني أنّنا...

 

ـ كفى! لَم أطلُب التفاصيل منكَ! إسمَع، سنقطع كلانا علاقتنا بدنيا، فمِن الواضح أنّها تتلاعب بنا نحن الإثنين، ولا أدري ما غايتها مِن تلك اللعبة. أم أنّكَ تصرفُ عليها؟

 

ـ أجل... وأجلبُ لها الهدايا... فكيف لي أن أُغري فتاة بسنّها لولا ذلك؟ لكنّني لا أنوي قطع علاقتي بها أبدًا. أنا أحبُّها!

 

ـ بل ستفعل، وإلا أخبرتُ أمّي الحقيقة وقطعتُ أنا علاقتي بكَ. سنستغني عنكَ ونُكمِلُ حياتنا مِن دونكَ، وستبقى لفترة قصيرة حتمًا، مع صبيّة لا تُحبُّكَ بل تستغلُّكَ إلى حين تجِدُ رجُلاً غيركَ. أنا مُتأكّد مِن أنّكَ تمرّ بمرحلة مِن حياتكَ، تشعر فيها بالحاجة إلى إغراء الصبايا لتثبتَ لنفسكَ أنّكَ لا تزال جذّابًا. لا تُدمِّر عائلتكَ يا أبي مِن أجل نزوة.

 

لَم يسمَع والدي منّي، بل تزوّجَ مِن دنيا بعدما فسختُ علاقتي بها ونعتُّها بشتّى النعوت. علِمَت والدتي بالأمر، فطلبَت الطلاق ولبّى أبي بسرعة طلبَها. مِن جهّتي رسبتُ في امتحان الجامعة لكثرة امتعاضي مِن الذي حصَلَ لي ولأمّي، ورحتُ أجِدُ عملاً لنعيش بكرامة. كان والدي بفعلته قد غيَّرَ حياتنا إلى الأبد.

وبعد سنتَين، حاوَلَ والدي العودة إلينا، بعدما تخلَّت عنه دنيا وراحَت مع غيره أكثر شبابًا وثراءً. نعم، كنتُ على حقّ في تصوّري. رفضَت والدتي استرجاعه، وأنا وقفتُ إلى جانبها في قرارها وعاشَ أبي لوحده في شقّة صغيرة.

هل أحبَّتني دنيا ولو لفترة، مع أنّها لَم تجنِ شيئًا مِن علاقتها بي. ربمّا لا يجدرُ بي التفكير بالأمر على الإطلاق، فخيانتها لي مع أبي كافية للإجابة على سؤالي. يا للمخلوقة البشعة! كيف لي أن أثِق بامرأة بعد ذلك؟ كيف لي أن أؤمِن بكلمة "أُحبُّكَ" لو سمعتُها مُجدّدًا؟ إنّها لمعضلة حقيقيّة!

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button