كانت الخالة سعاد امرأة عجوزًا، ولا أتذكّر أنّني عرفتُها غير كذلك حتى حين كنتُ فتاة صغيرة، فهي لَم تتغيّر وكأنّها وُلِدَت مُسنّة. هكذا هم بعض الناس، ربمّا لأنّهم عاشوا حياةً صعبة منذ طفولتهم أو أنّهم ورثوا جينات سيّئة مِن أهلهم.
كنتُ أحبُّ دخول دكّانها المليء بالروائح المُختلفة مِن توابل وصابون وخبز ساخن، وانطبَعَ ذلك المزيج في ذاكرتي حتى اليوم. كنّا نُحبّها جميعًا، أي أولاد الحَي، لأنّها كانت سيّدة كريمة تفرّقُ علينا السكاكر مجّانًا وتنظرُ إلينا بحنين لا تملكه سوى اللواتي لَم تُنجِبنَ. فالمسكينة لَم تكن جميلة كفاية لتُعجِبَ رجلاً، وهي رضخَت لواقعها أخيرًا وقبِلَت به حتى صارَت تكره الجنس الخشن وتقسو على زبائنها الذكور.
لَم أرَ الخالة سعاد طيلة فترة دراستي الجامعيّة، لأنّني عشتُ تلك الفترة عند جدّتي في العاصمة ولَم أعُد إلى بيت أهلي إلا بعد نَيل شهادتي وقراري بفَتح صيدليّة في بلدتنا، إذ أنّ أهلها كانوا يقصدون المدينة المُجاورة لشراء أدويتهم. في اليوم الذي تلا عودتي، توجّهتُ على الفور إلى دكّان الخالة سعاد، وكَم كانت مُفاجأتي كبيرة حين وجدتُها مُلقاة في إحدى الزوايا وفي حالة يُرثى لها. كانت المسكينة قد تقدّمَت كثيرًا في العمر بالرغم مِن مرور سنوات قليلة، وبالكاد تتحرّك. حين رأَتني قالَت لي:
ـ أهلاً بكِ يا صغيرتي... لقد سمعتُ أنّكِ أصبحتِ صيدلانيّة وستستقرّين عندنا... خيار صائب.
ـ ما بكِ يا خالة؟ أراكِ مُتعَبة للغاية!
ـ لا عليكِ... خذي سكاكر مِن العلبة هناك... كما في ما مضى.
وابتسمَت العجوز بائنةً نيرة مجّردة مِن الإسنان. أخذتُ بعض السكاكر وشكرتُها وعرضتُ عليها أخذها إلى بيتها، لكنّها رفضَت بقوّة لا بل صرَخت:
ـ لا! لا! أُريدُ البقاء هنا!
في اللحظة نفسها دخَلَ شابٌ وسيم صَرَخَ بي:
ـ نجوىّ كَم أنّني مسرور برؤيتكِ!
ـ ماجد؟!؟ لقد عُدتَ أنتَ الآخر؟
ـ أجل... بعد أكثر مِن خمس عشرة سنة... وأهتمُّ شخصيًّا بخالتي سعاد فلقد ماتَت والدتي وسبقَها أبي، وها نحن نعيشُ سويًّا الآن.
ـ خالتكَ مريضة، هل رآها طبيب؟
ـ إنّها بغاية العناد، فلقد حاولتُ كثيرًا معها وهي تُفضّل البقاء في الدكّان.
ـ سأصفُ لها بعض المقوّيات ريثما أٌقنعُها بِعرض نفسها على أخصّائيّ.
ـ لطالما كنتِ فتاة جميلة يا نجوى... أتذكُرين حين كنّا نلعب سويًّا؟
ـ أجل... أشكرُكَ على الإطراء.
واحمرَّ وجهي، فقد كنتُ مُغرمة بماجد عندما كنّا صغارًا لكنّه لَم يُبدِ أيّ إعجاب بي آنذاك، وها هو يُغازلُني وينظرُ إليّ بإمعان. ودّعتُ الخالة سعاد وعدتُ إلى البيت لأجلبَ لها فيتامينات موجودة في حقيبتي التي لَم أُفرِغها بعد.
وعدَتني صاحبة الدكّان بأخذ المقوّيات، فارتاحَ بالي عليها قليلاً وبدأتُ أُعدُّ المحّل الذي اشتراه لي والديّ بعدما باعَ قطعة أرض لأحوّله إلى صيدليّة، وأطبّقُ ما تعلّمتُه في الجامعة ويستفيد مِن ذلك أهالي البلدة. كنتُ سعيدة للغاية لعودتي فأنا لَم أحبّ العاصمة وضوضاءها وتلوّثها.
ساعدَني ماجد كثيرًا لوضع الرفوف والأدوية في الصيدليّة، وأتى بصديق له للإعتناء بالكهرباء والمياه وصِرتُ أخيرًا جاهزة لاستقبال الزبائن. في تلك الفترة بالذات، وجدتُ أنّ حياتي كانت كما تصوّرتُها دائمًا، الأمر الذي زادَني حماسًا وإقدامًا.
علاقتي بماجد أصبحَت أقوى، وعلِمتُ منه أنّه لطالما كان مُعجبًا بي لكنّه لم يجرؤ على التقرّب منّي في ما مضى خوفًا مِن ألا أكون أُشاطرُه مشاعره، فطمأنتُه وقرّرنا أنّ الوقت حان لنعيش فعلاً قصّة حبّ جميلة قد تتحوّل إلى إنشاء عائلة صغيرة. الشيء الوحيد الذي كان يُقلقني هو أنّ ذلك الشاب لَم يدخل الجامعة وليس لدَيه وظيفة ثابتة بل يقومُ ببعض الأعمال الصغيرة. لَم أرِد أن يشعر يومًا بالفرق بالعلم والمهنة بيننا فيؤثّر ذلك على معنويّاته، ففي آخر المطاف كان إبن بلدة، أيّ أنّ كرامته كرجل كانت مُهمّة. إلا أنّه لَم يرَ مانعًا لوضعنا، بل هو شجّعَني على المضيّ بمشروعي مِن دون أن أشعر بذنب ما. على كلّ الأحوال، كان ماجد إنسانًا عاقلاً وما هو أهمّ، مُحبًّا للغاية. يكفي كيف كان يهتمّ بخالته ودكّانها ويبقى معها طوال الوقت ليُساعدها في بَيع بضاعتها، فالمسكينة بالكاد كانت قادرة على النهوض مِن زاويتها.
لَم تُسَرّ الخالة سعاد بعلاقتي بماجد، فهي أبدَت امتعاضها يوم رحتُ أزورُها في الدكّان:
ـ ماجد ليس مُناسبًا لكِ يا نجوى... بإمكانكِ إيجاد رجل أفضل.
ـ إنّه رائع بالفعل... أعلَمُ ما تقصدينه لكنّ الوضع يُناسبنا، لا تخافي.
ـ أنتِ بمثابة إبنة لي وأُريدُ سعادتكِ.
ـ لقد وعدَني ماجد بأنّه لن يترككِ حين نتزوّج وسيظلّ يُساعدكِ في المحلّ، لن يتغيّر شيء عليكِ. أُريدُكِ أن تتركي مكانكِ وتذهبي إلى بيتكِ، أرجوكِ... إفعلي ذلك مِن أجلي، فسأصبحُ قريبتكِ بعد وقت!
ـ أنا بأفضل حال هنا، صدّقيني... إهتميّ بنفسكِ يا صغيرتي، فحياتكِ أمامكِ وأنا حياتي على وشك الإنتهاء.
ركضتُ أقبّلها بقوّة وهي بكَت على كتفي. دخَلَ ماجد وسأَلَ ما الذي يجري، وطلَبَ مِن خالته عدَم إزعاجي لكنّني أكّدتُ له أنّها لَم تُزعجني بشيء بل فتحَت لي قلبها.
حدَّدنا موعد الزواج وكنتُ مُصرّة أن تحضر الخالة سعاد الحفل، لِذا أقنعتُها بأخذها إلى طبيب صديق وهي قبِلَت أخيرًا. وفي طريقنا إلى العيادة قالَت لي:
ـ لا أشكو مِن شيء، صدّقيني... مِن الأفضل أن نعود أدراجنا.
ـ لا بل سنُكمل طريقنا، وإلا غضبتُ منكِ، فلقد تركتُ الصيدليّة ليُديرها ماجد في غيابي مِن أجلكِ... كم يُحبُّكِ إبن أختكِ!
ـ هو لا يحبّ أحدًا... تمامًا كأمّه... فرخ أفعى، هذا ما هو، صدّقيني يا صغيرتي، فرخ أفعى!
وصلنا إلى العيادة وهي لا تزال تُحاول إقناعي بإعادتها إلى الدكّان إلا أنّني لَم أُجاريها. لكن حين خلعَت ملابسها ليفحصها الطبيب، أطلقتُ صرخة عالية: فقد كان جسدها مُغطّىً بالكدمات! حاولَت العجوز إستعادة ثيابها لكنّ الطبيب سألَها مُستاءً:
ـ مَن فعَلَ ذلك بكِ؟!؟
ـ لا أحد! أنا عجوز خرقاء وأصطدمُ بكلّ ما في طريقي، وأقَع عن السلالم باستمرار.
نظَرَ الطبيب إليّ قائلاً:
ـ هذه المرأة تتعرّض للضرب ومنذ فترة... علينا إخبار الشرطة بالأمر.
عندها بدأَت الخالة سعاد بالبكاء والصراخ:
ـ لا! لا! فهو وعَدَ بقتلي لو أخبرتُ أحدًا! أرجوكَ يا دكتور! أرجوكَ!
ـ مَن وعَدَ بقتلكِ؟!؟
سكتَت المسكينة وقالَت:
ـ منذ فترة، صارَ ماجد يتردّد إلى دكّاني ويعدُني بالإهتمام بي يومًا، فأنا لَم أتزوّج ولَم أنجِب طبعًا وأعجبَتني الفكرة، فالوحدة أمر مُخيف حين يبلغُ الإنسان الشيخوخة، فصرتُ آذنُ له بالمكوث في الدكّان لأستريح قليلاً في بيتي.
لكنّني لاحظتُ أخطاءً في المحاسبة آخر كلّ شهر، واستنتجتُ أنّ إبن أختي يسرقُني فواجهتُه بالأمر وهو صفعَني بقوّة، وهدّدَني بأذيّتي لو أخبرتُ أحدًا وأكَّدَ لي أنّه سيستولي على باب رزقي. ظننتُ أنّه يُبالغ بكلامه لكنّه كان بمُنتهى الجدّيّة، إذ أنّه صارَ يأخذ كلّ ما يُنتجه الدكّان لنفسه ويتركُ لي ما بالكاد يكفيني لآكل وأشرَب. بعد موت أختي، إنتقَلَ للعَيش بصورة دائمة في بيتي، وقرَّرَ في أحد الأيّام أنّ عليّ المكوث في الدكّان وعدَم العودة إلى مسكني. قاومتُه لكنّه بقيَ يضربُني باستمرار إلى أن تركتُ له البيت وصرتُ أعيش بين الكراتين في الدكّان.
إمتلأت عَينَاي بالدموع وقلتُ لها بصوت هادئ:
ـ لماذا لَم تقولي لأحد ما تمرّين به يا خالة؟
ـ صحيح أنّني عجوز ولَم يتبقّ لي الكثير مِن الوقت، إلا أنّني لستُ مُستعدّة للموت على يد ذلك السافل... إيّاكِ أن تتزوّجيه، أرجوكِ... فكلّ ما يهمّه هو الصيدليّة وما بإمكانها أن تدرّه عليه... وسيأتي يوم ويأخذها منكِ كما أخَذَ دكّاني... إنسان غير نافع وكسول!
أخذتُ الخالة سعاد إلى منزل أهلي لتبقى معنا ريثما أتصرّف، فإن علِمَ ماجد بأنّ أمره قد كُشِفَ قد يُقرّر التخلّص مِن خالته. ثمّ رحتُ الصيدليّة حيث كان ماجد بانتظاري وقلتُ له:
ـ ها هو تقرير الطبيب بعد معاينته لكدمات الخالة سعاد... ولقد أقنعتُه بعدَم تقديم شكوى ضدّكَ لضربكَ المُستمرّ لها، شرط أن تترك البلدة بأسرع وقت.
ـ هل فقدتِ عقلكِ؟ إنّها عجوز خرِفة! إنّها تكذب! تصدّقينها في حين نحن على وشك الزواج؟!؟ أيّ حبّ هذا؟
ـ أقولُ لكَ إنّ عليكَ ترك البلدة بأسرع وقت. إذهب واجمَع امتعتكَ وارحَل! وإلا مصيركَ هو السجن!
ـ تُهدّديني؟!؟ سأريكِ...
ـ لن تريني شيئًا أيّها الجبان! فوحده الجبان يعتدي على العجائز ويسلبهنّ أملاكهنّ! إن فكّرتَ ولو تفكيرًا بأذيّة أحد منّا، فستندم ندمًا سيُلاحقكَ حتى آخر أيّامكَ! فلقد اتّفقتُ مع الطبيب على أن يُسرِع بتقديم شكوى ضدّكَ لو حصَلَ أيّ مكروه للخالة ولي... أيّ مكروه، حتى لو بدا سببه طبيعيًّا! مصيرُكَ بين يدَيَّ يا سافل! هل أحبَبتَني حقًّا أم أنّ كلّ ما أرَدتَه كان الإستفادة مِن مهنتي؟
ـ للحقيقة، لطالما وجدتُكِ قبيحة وغليظة... أنا أحبُّكِ؟!؟ دعيني أضحكَ! ربمّا مِن الأفضل عليّ أنّ أرحَل، فقضاء باقي حياتي معكِ، حتى مع ما سأُجنيه مِن الصيدليّة، كان سيكون كابوسًا لا يُحتمَل! الوداع!
لَم يؤذِني كلام ماجد لي، فلو كان صادرًا عن إنسان غيره لأُصبتُ بالإحباط، بل اعتبرتُ ذلك إطراءً لي.
رحَلَ ماجد مِن البلدة ولَم يعُد، وعملتُ بمساعدة الطبيب على تحسين صحّة الخالة ونجَحنا بذلك، فهي صارَت تأكل وتشرب بطريقة صحّيّة بعد أن غابَ شبَح إبن اختها عنها، وعادَت إلى بيتها.
عاشَت الخالة سعاد حتى حضَرت فعلاً زفافي لكن مِن شاب خلوق ومُحبّ يعمل كصيدليّ أيضًا، وعشنا في البلدة ورُزِقنا بولدَين جميلَين.
وحتى اليوم، حين أمرُّ بالقرب مِن دكّان الخالة سعاد الذي بقيَ مُقفلاً بعد موتها، أتذكّر أيّام الطفولة وكيف شاءَ القدَر أن أعود إلى البلدة لأنقذ عجوزًا مسكينة مِن مخالب مُفترِس، وأُمكّنُها مِن العَيش بكرامة للسنوات التي كانت مُتبّقيّة لها.
هل أحداث حياتنا مُرتبطة ببعضها؟ بالطبع! فالصدف البحتة لا تُنقذُ حياة ولا تردَع جانيًا.
حاورتها بولا جهشان