هل ألام على اختياري لباسم؟ لِمتُ نفسي كثيرًا، لكنّ الأمل بوصول النهاية ساعَدني على التحمّل والصبر... سنوات لَم أحسب حسابها. قد يقول البعض إنّني نلتُ ما أستحقُّه وقد يكونون على حق، إلا أنّني دفعتُ الثمَن مِن شبابي، وأعتقدُ أنّ ما مِن عقاب أشدّ مِن خسارة العمر.
لم أكن فقيرة بل مِن عائلة متوسّطة الدّخل، شأن العديد مِن معارفنا وأقاربنا، إلا أنّني لطالما شعرتُ بأنّني أستحقّ أفضل مِن ذلك بكثير. مِن أين جاءَت لي تلك الأفكار؟ لستُ متأكّدة، ربمّا مِن القصص التي قرأتُها أو سمعتُها عن الفتيات العاديّات لا بل الفقيرات اللواتي صادفَن رجلاً غنيًّا غيّرَ حياتهنّ. كبرتُ وأنا أتحضّر لِما هو آتٍ وكأنّه مؤكّد ومحتوم، وأخذتُ أتعلّم أسس حسن التصرّف في المجتمعات الراقية لأندمج بها بسهولة لاحقًا.
كان أهلي يُمازحوني بشأن تصرّفاتي التي وصفوها بالمتعالية، طالبين منّي إبقاء رجليّ على أرض الواقع. فبنظرهم، لن أصبَحَ يومًا أكثر ممّا أنا عليه، أي إنسانة عاديّة تعيش حياة عاديّة. وهذا ما كنتُ أمقتُه فوق كلّ شيء. لِذا عمِلتُ جهدي لإبعاد عنّي كلّ مَن كان بلا طموح والتقرّب مِن الحالمين مثلي، ولِما لا، المُقتدرين منهم.
حين دخلتُ الجامعة، لفَتَ شاب نظري مِن دون أن أعلم لماذا، ففارس لم يكن مِن الذين أهواهم، أي غنيًّا أو إبن عائلة مرموقة. إلا أنّه كان يُؤثّر عليّ بشكل كبير. فحين كان يتوقّف للتكلّم معي، كان قلبي يدقّ بسرعة، وأجدُ صعوبة بإيجاد الأجوبة على أسئلته، حتى السهلة منها. كان مِن الواضح أنّني، وللأسف، مُغرمة به. وعلِمتُ لاحقًا أنّه شعَرَ بالشيء نفسه تجاهي.
وهكذا وضعتُ أحلامي جانبًا باسم الحب الذي لا يعرف الثراء أو الفقر، الجمال أو القبح. بنيتُ وفارس أحلامًا بسيطة مفادها التخرّج ومِن ثمّ إيجاد عمل جيّد ولاحقًا الزواج لتأسيس عائلة. عرّفتُه إلى أهلي الذين أحبّوه ورأوا فيه نهاية أحلامي المستحيلة.
للحقيقة، كنتُ سعيدة مع فارس، لأنّه كان يُحبّني صدقًا ويهتمّ بآرائي وأمنياتي، إلا أنّ شيئًا جاء ليُعكّر صفو علاقتنا الجميلة. شيء أو بالأحرى شخص تحت إسم باسم.
لم يكن باسم شابًّا على الإطلاق، بل كان عمره قد تخطّى الستّين، أي أنّ أربعين سنة كانت تفصلُنا. وبالرّغم مِن ذلك، كان الرجل يتمتّع بكاريسما قويّة جدًّا يدعمُها حساب هائل في المصرف.
تعرّفتُ إلى باسم في المشفى حين رافقتُ والدتي لتجري فحوصات مخبريّة. وأثناء تواجدي في قاعة الإنتظار، رأيتُ طبيبًا يطلّ مِن الباب وكأنّه يُفتّش عن أحد ما. لكن عندما رآني جالسة لوحدي، سألَني بكلّ لطف إن كنتُ بحاجة إلى مساعدة. إبتسَمتُ له شاكرة وأخبرتُه عن سبب وجودي في المشفى. رحَل الطبيب ليعود بعد دقائق وبيدَيه فنجنَا قهوة: "لدَيّ بضع دقائق قبل بدء سلسلة عمليّات... نهار طويل ومُتعِب، لِذا اسمحي لي بالتمتّع، ولو قليلاً، برفقة صبيّة جميلة ورقيقة مثلكِ". أخذتُ منه فنجان القهوة بعد أن شعرتُ أنّ ذلك الرجل هو تمامًا كما تصوّرتُ أن يكون زوج المستقبل، بسبب لياقته وطريقة مشيه وحركاته وطبعًا مكانته كجرّاح. مقارنة به، بدا فارس ولدًا لا قيمة له.
أُدرِكُ فظاعة ما قلتُه للتوّ، لكنّها الحقيقة، على الأقل في نظري.
بعد أن تبادَلنا أحاديث عامّة وطبيّة، طلَبَ منّي باسم رقم هاتفي، هذا إن لم أكن مُرتبطة. كذبتُ عليه وأكّدتُ له أنّني حرّة وقابلة للتعرّف إليه أكثر. أخبرَني الجرّاح أنّه مطلّق منذ سنوات عديدة، وله أربعة أولاد متزوّجين، وأنّه يشعر بالوحدة بعد أن بلَغَ نقطة في حياته إعتبَرَها مفصليّة إذ أنّه أنجَزَ ما كان يحلمُ به، ووصَلَ إلى مركز رئيس الجرّاحين، وجمَعَ ما يكفي مِن مال للعَيش برخاء طوال حياته. وكل ما ينقصُه، هو إيجاد رفيقة دربه ليتقاسم معها كلّ مقتنياته.
كانت تلك الجملة كافية لنسيان فارس والصعوبات التي كانت تنتظرُني معه، فأعطَيتُ باسم رقم هاتفي بكلّ سرور.
بالطبع أخفَيتُ عن خطيبي لقائي بالجرّاح، ومكالماتنا الهاتفيّة العديدة وحتى لقاءاتنا التي جرَت بكلّ سرّيّة. وبالطبع تبخّر حبّي لفارس ليحلّ محلّه إفتتان بباسم وثروته، خاصّة بعدما رافقتُه إلى الفيلا ورأيتُ المكان الذي لطالما حلِمتُ أن أسكن فيه.
وعلى مرّ الأيّام، باتَ مِن الضروريّ ترك فارس لأتمكّن مِن الإرتباط مِن باسم الذي كان قد نفَذَ صبره ويُريد الزواج منّي بأسرع وقت. كنتُ حتى ذلك الحين قد فسّرتُ له تأخّري بإعطائه ردًّا، بأنّني أريد التأكّد مِن شعوري تجاهه، فالزواج مسألة جدّيّة بامتياز ولا يجب التسرّع بها.
وأخبَرتُ فارس بأنّني أودّ فسخ علاقتنا، لكنّني لم أقل له أنّ السبب هو إيجادي لآخر، بل لأنّني لم أعد أحبّه. حزِنَ خطيبي كثيرًا وحاوَلَ بشتّى الطرق تغيير رأيي، لكن طبعًا مِن دون نتيجة، لأنّني كنتُ مصمّمة على مستقبل أردتُه منذ صغري. أسِفَ أهلي للخبر واحترموا قراري. لكن كَم كانت مفاجأتهم كبيرة حين أخبرتُهم بعد أيّام قليلة أنّني أنوي الزواج مِن رجل آخر!
هزّت أمّي رأسها قائلة: "هو غنيّ، أليس كذلك؟ يا إبنتي، فارس شاب ممتاز ومستقبله واعد. يُحبّكِ كثيرًا وكنتما سعيدَين سويًّا... لا تدمّري ما لدَيكِ مِن أجل الثروة والجاه. الحبّ هو أثمَن كنز ولا يُمكن شراؤه بمال الدنيا. فكّري جيّدًا قبل اتّخاذ قراركِ."
إلا أنّني بقيتُ مصرّة حتى حين عارَض الجميع عندما علِموا كم سنّه. فقد كان مِن الواضح أنّ علاقة مبنيّة مِن جهّة على الطمع بالمال، ومِن جهّة أخرى على استعادة شباب ضائع، لا يُمكنُ لها أن تنجح. ولإسكات صرخات عائلتي، قلتُ لهم إنّني سأتزوّج مع أو بدون إذنهم فمِن الأفضل لهم أن يُوافقوا.
وبعد شهر بالتمام، أقامَ لي باسم فرحًا شبيهًا بقصص ألف ليلة وليلة، وكنتُ كالأميرة بفستاني الأبيض الذي كلَّفَ وحده ما قد أُجنيه في سنة. بارَكَ لي الحضور ورأيتُ بصيص فخر في عَينَي أمّي.
عشتُ سعيدة حوالي السنة، بعدما جلتُ وزوجي بلدانًا عديدة ورأيتُ أكثر مما كنتُ أريدُ رؤيته، وبعدما اشترى لي الحلى والفساتين والأحذية الرائعة.
صحيح أنّ باسم أحبّني لكن ليس كما تصوّرتُ، فكنتُ بالنسبة له ضمانة لأيّام شيخوخته. إضافة إلى ذلك، لم أقَع في حبّه لأرى فيه ما يُفرح قلبي ويُعطيني دافعًا للتغلّب على فارق السنّ. فالحقيقة أنّ لا شيء كان يجمعُنا ببعضنا، لا مِن ناحية الأذواق أو طريقة التفكير. فكنّا نتشاجرُ دائمًا بسبب أمور تافهة، ربمّا لأنّنا لم نكن نملكُ ما نقوله لبعضنا.
حياتنا الجنسيّة كانت مملّة، أي خالية مِن العاطفة مِن كلا الجانبَين، وتمنَّيتُ أن أحمل ليكون لدَيّ ما أتوق اليه. إلا أنّني لم أُنجب، ليس بسببي بل لأنّ باسم كان يشكو مِن خطب ظهَرَ لدَيه مؤخّرًا.
عندها صبَبتُ إهتمامي على اللقاءات الإجتماعيّة التي تمرّنتُ عليها منذ سنوات طويلة، وبرَعتُ فيها. فكنتُ أقيمُ حفلات كبيرة في الفيلا قرب المسبح وكان جميع المدعوّين مذهولين بي. لكن فور انتهاء الحفل، كنتُ أعودُ إلى حياة لا طعم ولا معنى لها. لم أكن تعيسة، لكنّني لم أكن سعيدة.
وبعد حوالي الخمس سنوات على زواجي، خطَرَ ببالي أن أتّصل بفارس. كنتُ أودّ أن أسترجع، ولو لبضع دقائق، ذلك الشعور الدافئ الذي كنتُ أشعرُ به وأنا برفقته. شعور كان فعلاً لا يُقدَّر بأيّ مال.
عندما سمِعَ فارس صوتي، سكَتَ مطوّلاً ثمّ سألَني ماذا أريد. كانت نبرة صوته قاسية، وفهمتُ طبعًا مدى استيائه لتركي له. أخبرتُه أنّني أفكّر به دائمًا وأنّه لم يُبارح عقلي وقلبي، لكنّه قاطَعني قائلاً:
ـ أرجوكِ، لا لزوم لهذا الكلام. صحيح أنّني حزِنتُ وغضبتُ حين بعتِني، صحيح أنّني قضيتُ سنوات قد أصفُها باليائسة، إلا أنّني استعدَتُ سعادتي وهنائي بعدما تعرّفتُ إلى صبيّة جميلة ولطيفة سأتزوّجُها في الربيع القادم. يعني ذلك أنّ عليكِ عدَم الإتصال بي مجدّدًا.
شعرتُ وكأنّ العالم بأسره ينغلقُ عليّ، ففارس كان مركب نجاتي الذي خلتُه سينتظرُ إلى الأبد وينقذُني حين أصرخُ له. كنتُ، مرّة أخرى، مُخطئة بحساباتي، وسألتُ نفسي إن كنتُ يومًا على حقّ بأي شيء.
بعد مكالمتي مع فارس، إستسلَمتُ للحياة التي اخترتُها، وبدأَت السنوات تمرّ مِن دون طعم أو لون. قضَيتُ وقتي مع كلّ الناس إلا باسم الذي كان في البدء منشغلاً بعمليّاته ومِن ثمّ باصحابه في النادي. ولم أكن أرى زوجي إلا في المساء قبل النوم، أي لدقائق قليلة.
كبرَ باسم وبدأ يمرض كسائر الناس بالرّغم مِن كونه طبيبًا، ورأيتُ بعَينَيّ حقيقة فارق السنّ بيننا. فحين صارَ في الثمانين مِن عمره، كنتُ لا أزال في الأربعين، أي في أجمل مرحلة مِن حياتي.
بالطبع تمنّيتُ أن يموت زوجي، ليس لأنّني أكرهُه، بل لأنّني سئمتُ مِن وجوده غير المُجدي في حياتي. فأمواله كلّها لم تنفع ولن تنفع بشيء، بل كانت سرابًا لاحَ في الأفق غرَضه سحبي مِن ذراعَي حبيبي الوحيد. كان طبعًا بإمكاني مقاومة الإغراء، لكنّ نفسي كانت منذ البداية ستُباع لمَن يملك الأكثر.
لستُ إنسانة كريهة أو شرّيرة أو حتى طمّاعة، فحبّي للمال والجاه مصدره، كما علمتُ لاحقًا، شعوري بعدَم الأمان وبحثي لِما قد يُزيلُ قلقًا دفينًا في داخلي. صحيح أنّني لم أعد أخشى الغد بسبب أموالنا، لكنّني أخشى أن يعيش زوجي حتى أصبحَ أنا بدوري عجوزًا. فالأعمار بِيَد الله والحياة أحيانًا تتلاعبُ بنا بسخرية.
علِمتُ أنّ فارس لدَيه شابَّان رائعَان وأنّه لا يزال يُحبّ زوجته كثيرًا. آه... لو يحصل أن يتركها، سأركضُ لأرتمي في أحضانه. لكنّ ذلك لن يحصل، ففي هذه القصّة الكلّ وجَدَ سعادته إلا أنا... إلا أنا.
حاورتها بولا جهشان