"جميع الرجال متشابهون، لا يفكرون إلا بشيء واحد فقط". سمعت هذه الجملة مئات المرات خلال طفولتي. ردّدتها أمي على مر السنين لأن أبي تركنا ورحل مع امرأة أخرى. ومن الطبيعي أن أترعرع والكره والازدراء للرجال، يملأان قلبي.
توفيت والدتي عندما كنت في السادسة من عمري، والسبب في ذلك إدمانها على الكحول والحزن الشديد. ذهبت للعيش مع خالتي العزباء، هناك سمعت الجمل نفسها والتعليمات عن كيفية تجنّب مكر الرجال وعدم الوقوع في فخّهم الذي لا يرمي إلا لشيء واحد: الجنس. لم يخبرني أحد أن الرجال يستطيعون أن يحبوا وأن يعتنوا بالمرأة. مرّت السنين وأنا طبعاً بدون صديق، كما أن فكرة الزواج كانت غير مقبولة. لم أكن أريد أن يحصل لي ما حصل لأمي. فصببت جام اهتمامي على الدراسة وتحصيل أعلى المستويات العلمية. لم أكن مستعدة لأن أسمح لأي رجل أن يكون رئيسي أو يملي عليّ ما يجب فعله، فكلّهم بالنسبة إليّ شبيهين بالحيوانات يسعون وراء شهواتهم.
حصلت على شهادة الدكتوراه بامتياز مما أتاح لي فرص كثيرة للعمل. كانت خالتي فخورة جداً بي وتقول لي: "هيا، لقّنيهم درساً لن ينسوه، أريهم من أنت وماذا تستطيعين فعله". دخلت للعمل في شركة تجارية مهمة وحصلت على مركز مرموق. اخترت هذا العمل بالذات لأن صاحبة الشركة كانت تملك أكبر نسبة من الأسهم. بدأت العمل بحماس وجديّة وقررت أن أجعل من هذه الشركة أمبراطورية المرأة التي لا يقف أحدٌ أو شيء في طريقها.
وذات يوم، دخل المسؤول عن القسم القانوني في الشركة إلى مكتبي. رجل مسنّ وطيب، وقال لي:
- "كنت أراجع بعض الملفات ولفت نظري أمر لطيف. أنتِ ابنة صديق عزيز على قلبي، أسعد. كنا جدّ مقرّبين، فقد ارتدنا المدرسة نفسها ولاحقاً التقينا في الجامعة نفسها. أرجوك، انقلي إليه تحياتي الحارة."
- "لو كنت أعلم أين هو، لفعلت. لا أدري حتى إن كان حياً أو ميتاً."
- "ماذا تقصدين؟"
- "صديقك العزيز تركنا أنا وأمي منذ سنين طويلة من أجل امرأة أخرى. لم أسمع منه أو عنه شيء منذ ذلك الحين."
- "هذا مستحيل! أعرف أسعد جيداً! هو رجل ذو مبادىء، لن يفعل أمر كهذا أبداً. لقد تعرفت على والدتك قبل حتى أن تولدي، ورأيت كم كان يحبها. الكل كان يقول أن حبّهما مثالي."
- "الناس تتغيّر. كفى الآن الحديث عنه، أرجوك. دعني وشأني. أنا هنا لأعمل لا لأتحدث عن حياتي الخاصة."
رحل الرجل وبقيت أفكر بما قاله لي. أيُعقل أن يكون أبي قد أحبّ أمي يوماً؟ ولماذا توقف عن حبّها وتركها؟ ولماذا لم تروِ لي أمي هذا الجزء من القصة؟
عندما عدت إلى المنزل سألت خالتي عن الموضوع.
- "لا تصدّقيه يا صغيرتي، هذا لم يكن حباً، كانا متزوّجين حديثاً وكان فرحاً بها ليس أكثر. سأريك صور الزفاف وسترين أن هذا طبيعي بين كل رجل وزوجته في البداية."
- "لديك صور أمي وأبي؟"
- "طبعاً، فأمك لم تشأ تركهم لديها في البيت."
بدأ قلبي يخفق، فقد نسيت كلياً ملامح أبي، فقد كنت في الخامسة من عمري عندما رحل. كل ما أذكره عنه أنه كان يحملني على ظهره كما الحصان، ويركض بي في البيت. كنت أضحك كثيراً عندما يفعل هذا وكنت سعيدة. نعم، آنذاك كنت سعيدة.
جلبت خالتي الألبومات وجلسنا ننظر إلى الصور. كانت دموعي تملأ عينيّ فرحاً وحزناً في الوقت نفسه: فرحاً لأن أبي كان يحب أمي وحزناً لأن شيئاً ما حصل لهذا الحب. عشت دون أب لسنين طويلة، مع أم تعاني انهياراً عصبياً لجأت إلى الكحول لتنسى حزنها، ثم مع خالة تكره الرجال أكثر من أمي. أين الحقيقة في كل ذلك؟
ذات ليلة وفيما كنت أستعدّ لأنام، أخذت قراراً مهماً. عليّ أن أبحث عن أبي وأسأله لماذا فعل بنا ما فعله ولماذا تخلّى عن عائلته بهذه السهولة. في اليوم التالي، قصدت مكتب الأستاذ رشدي، المسؤول القانوني في الشركة، وقلت له:
- "أنا آسفة لردّة فعلي بالأمس، لم أعتد أن أتكلّم عن حياتي الخاصة مع أحد. أعذرني وقل لي ما الذي يجب أن أفعله لأجد أبي. هناك مسائل عالقة بيننا وما حصل لي عندما كنت صغيرة يؤثر سلباً على حياتي اليوم. أرجوك ساعدني."
- "أتركي الأمر لي."
مرّ نحو شهر على زيارتي للأستاذ رشدي حين اتصل بي:
- "وجدت من تبحثين عنه، أنا في مكتبي، تعالي."
وصلت إلى مكتبه خلال ثوانٍ قليلة:
- "هيا قل لي ماذا وجدت!"
- "على هذه الورقة ستجدين عنوانه، عنوان عمله ورقم هاتفه. خذيها واجلسي وحدك لتقرري ما يجب فعله. بعد أن تجديه ستتغير أمور كثيرة في حياتك. فكّري بالأمر. هل أنت مستعدة لسماع الحقيقة أم لا؟"
أخذت الورقة وخرجت. ذهبت إلى منتزه قرب الشركة وجلست على مقعد وأخذت نفس عميق وفتحت الورقة.
يتبع غداً في الجزء الثاني