كنتُ قد ركَنتُ درّاجتي الجديدة في المكان المُعتاد، أي أمام مدخل المبنى، وكَم كانت خَيبتي كبيرة حين لَم أجِدها في الصباح! إنتابَني غضبٌ شديدٌ، فكنتُ قد استثمَرتُ مبلغًا كبيرًا فيها، وها هي بأيدي سارقين يَسطون على أرزاق الناس بدلاً مِن شراء ما يُريدونه مِن عرَق جبينهم!
قصَدتُ القسم وقدّمتُ بلاغًا، لكنّني لَم أُصدِّق الشرطيّ حين قال لي إنّهم سيفعلون ما بوسعهم لإيجادها. عدتُ إلى البيت حزينًا على درّاجتي العزيزة.
وكما توقّعتُ، لَم تجِد الشرطة السارق وأنا استسلمتُ للأمر الواقع. وبما أنّني لَم أعُد أملكُ ما يكفي لِشراء درّاجة أخرى، صرتُ أذهَب إلى الجامعة مع هبة التي كانت تمرُّ عليّ في طريقها. أعترفُ أنّ الأوقات التي قضَيناها في سيّارتها كانت مُفيدة للغاية، لأنّنا استطعنا تبادل أحاديث كثيرة، فحتى ذلك الحين، كنّا نجلسُ سويًّا دائمة برفقة أحد ما، أي أهلي أو أهلها أو رفاقنا في الجامعة، حفاظًا على سمعة حبيبتي.
وسرعان ما نسيتُ أمر الدرّاجة وكلّ درّاجات الدنيا، وقرّرتُ شراء سيّارة حالما أجدُ عملاً وأبدأ بِجني المال، وبعد ذلك طبعًا أُباشرُ وهبة التخطيط للزواج. كنّا نعلَم أنّ انتظارنا سيطول، لكن لِما العجلة؟ فالحياة كانت أمامنا، خاصّة بعدما انزاحَ عنّي شبَح الموت.
مرَّت سنة بكاملها حين علِمتُ أخيرًا شيئًا عن درّاجتي المسروقة. فلقد تلقَّيتُ إتّصالاً مِن القسم يدعوني للذهاب إليهم، وحالما تواجدتُ مع الشرطي الذي أخَذَ بلاغي وسجَّلَ الشكوى، قالَ لي:
ـ لدَيّ خبران: الواحد جيّد والثاني سيّئ.
ـ ما هذا اللغز؟ إبدأ بالجيّد، مِن فضلكَ.
ـ حسنًا... فلقد وجدنا درّاجتكَ.
ـ حقًّا؟!؟ لقد نسيتُ أمرها مِن قلّة إيماني بإيجادها يومًا. أين هي؟ فلقد اشتقتُ إلى ركوبها!
ـ هذا هو الخبَر الثاني... إنّها مُحطّمة كليًّا.
ـ مُحطّمة؟!؟ وهل ذلك السارق اللعين هو أيضًا شرّير؟ ألَم يكفِه أنّه أخَذَها منّي، فهو أرادَ أيضًا تدميرها؟!؟
ـ ليس تمامًا سيّدي... فهي تحطّمَت مِن جرّاء حادث كبير.
ـ إذًا عليه دفع ثمنها لي! أين هو؟!؟
ـ لقد ماتَ... مِن جرّاء الحادث!
سكتُّ أمام هَول الخبَر، فصحيح أنّ السرقة أمرٌ مُعيب ويُعاقِبُ عليه القانون، إلا أنّ تلك الفعلة لا تستحقُّ الموت. تابعتُ:
ـ يا إلهي... المسكين... هو لدَيه حتمًا أهل وأصدقاء يبكونَه الآن.
ـ أبوه في الردهة إن كنتَ تُريدُ منه تعويضًا.
ـ تعويض؟ لا... فالدرّاجة لا شيء مُقارنةً بِخسارة روح. أشكرُكَ.
تركتُ مكتب الشرطيّ ومرَرتُ أمام رجل حزين لأقصى درجة يُمسكُ رأسه بين يدَيه، واستنتجتُ طبعًا أنّه والد مَن سرَقَ درّاجتي. جلستُ بالقرب منه وقلتُ له:
ـ أنا آسف لِخسارتكَ يا عمّ... أرجو أن يرحمه الله.
ـ شكرًا يا بُنَي... مَن تكون؟
ـ أنا... يا إلهي، كيف أقولُ لكَ مَن أنا؟ حسنًا... أنا صاحب الدرّاجة التي...
ـ أجل، أجل. وتريدُ ثمنها؟
ـ لا! أبدًا! بل جئتُ إليكَ مُعزّيًا. فأنا الآخر كدتُ أن أموتَ بسبب درّاجة.
وأخبرتُه بالحادث وظروفه وكلّ ما سبقَه وتلاه. نظَرَ إليّ الأب باستغراب ثمّ صَرَخَ بي:
ـ إذًا كان يجدرُ بكَ أن تموتَ بدلاً مِن إبني!
ـ كيف ذلك؟ هو الذي كان يقودُها!
ـ تعال نتكلّم في مكان آخر. أعرفُ مقهى حيث بإمكاننا الجلوس لوحدنا، فما سأقولُه لكَ بغاية الأهميّة.
رحنا إلى المكان المذكور وكنتُ قلِقًا، فكلّ شيء في ذلك الرجل كان يدلُّ على جدّيّة مُطلقة، وندمتُ قليلاً على إطلاعه على هويّتي. جلَسنا في زاوية المقهى وطلَبنا القهوة ثمّ قال لي الأب بعد أن ابتعَدَ النادل:
ـ صحيح أنّ ابني سارق، لكنّنا عائلة مُحترمة. أنا وزوجتي أستاذَي جامعة وباحثان. إلا أنّنا أنجَبنا إبننا بعد سنوات عديدة مِن المُحاولة، فهو تدلَّعَ كثيرًا واعتادَ على نَيل مراده مهما كلّفَ ألأمر. وحين كنّا نرفضُ له طلبًا، كان يحصلُ عليه بالقوّة أو الإحتيال. وبدأ إبننا بالسرقة، ليس بسبب العوَز بل لأنّه قرَّرَ نَيل كلّ ما طلبَته نفسه. وآخر ما أرادَه كانت درّاجة ناريّة، وبالطبع رفضنا إذ خِفنا عليه أن يموت.
ـ يا إلهي... وهو مات في آخِر المطاف! لكن ما دخلي أنا؟!؟
ـ إسمَع، أنا رجل مُثقَّف وأعرفُ الكثير عن أمور لا تتصوّرها موجودة. سأُعطيكَ تفسيري عمّا جرى ويجري لكَ وحرٌّ أنتَ بتصديقي أم لا.
ـ تفضّل.
ـ إحساسكَ بموتكَ في سنّ العشرين كان صحيحًا. لا أعرفُ لماذا وكيف استطعتَ معرفة ذلك، إلا أنّ موتكَ كان مُقرّرًا بالفعل في ذلك الوقت.
ـ لكنّني لَم أمُت.
ـ صحيح ذلك يا بُنَي... فلقد قرَّرَ الله اعطاءكَ فرصةً ثانية، ربّما لأنّكَ إنسان جيّد أم بسبب خطيبتكَ... ما إسمها؟
ـ هبة.
ـ أجل، فأنتَ قلتَ لي في القسم إنّها وقفَت بِجانبكَ وأحبَّتكَ، مع أنّها ظنَّت أنّكَ مريض وعلى وشَك الموت.
ـ صحيح ذلك.
ـ أو ربمّا لأنّكَ ستلعَب يومًا دورًا مهمًّا ليس لكَ بل لِغيركَ. إبقِ ذلك في ذهنكَ دائمًا.
ـ حسنًا، لن أنسى ذلك. لكن ماذا عن إبنكَ؟
ـ بعد حادثكَ، أنتَ لَم تتّعِظ بل رحتَ تشتري درّاجة ثانية، وبذلك أعَدتَ ساريًا ما كان مُقرّرًا لكَ، أعني بذلك موتكَ.
ـ تابع مِن فضلك.
ـ لكنّ إبني سرَقَ منكَ الدرّاجة وماتَ... ماتَ عنكَ. أنا لا أُلقي عليكَ اللوم، فولَدي سبّبَ لِنفسه الموت وليس أنتَ.
ـ تفسيركَ صعب التصديق يا عمّ. ربّما أثَّرَت الكارثة في قدرتكَ على التحليل.
ـ لَم أنتهِ بعد!
ـ أنا آسف... تفضَّل.
ـ لَم اقُل لكَ بعد ما هو الأهم: أرادَ إبننا درّاجة ناريّة بمناسبة عيد ميلاده... العشرين.
ـ ماذا؟!؟
ـ أجل، لقد سمعتَني جيّدًا.
أصِبتُ بالذهول وبدأَت الأمور تتّضح لي شيئًا فشيئًا. وضَعَ الرجل يدَه على كتفي وقال:
ـ لو كنتُ مكانكَ فلَن أشتري درّاجة ناريّة مدى حياتي! مع أنّني مُتأكّد مِن أنّ إبني بِموته خلّصكَ مِن مصيركَ. خُذ بِنصيحتي، نصيحة أب مفجوع، وابتعِد عن تلك المركبات ولا تنسَ أنّ الخالق أعطاكَ ليس فقط فرصة بل اثنتَين.
قامَ الرجل مِن مكانه وخَرَج وهو يبكي، وبقيتُ جالسًا أفكّرُ بالذي دارَ بيننا. فانتابَني شعورٌ بأنّ ذلك الأب كان على حقّ، على الأقل بالنسبة لِمعظم تحليله. كَم كنتُ غبيًّا يوم اشترَيتُ درّاجتي الثانية! ألَم يكفِني أنّني لَم أمُت في الحادث ولَم أٌصَب بأيّ كِسر؟ كَم أنّ الإنسان يعتبِر الأمور وكأنّها تحصيل حاصل!
ركضتُ أُخبرُ كلّ ما جرى لِهبة وأخذنا نُحلِّل بِدورنا، واتّضَحَ لنا أنّ حياتنا مرسومة مُسبقًا، وتتغيّر أحداثها إمّا بإرادة إلهية أو بسبب ظروف تطرأ بين الحين والآخَر. وأخَذنا كلانا قرارًا واحدًا وهو أن نعيش حياتنا بمسؤوليّة وأن نُساعد الآخرين ونحبّهم، أي أن نُطبّق حرفيًّا تعاليم الله. وإن كان الخالق قد رسَمَ لي أو لِهبة قدَرًا عظيمًا، فسنسلُكه مهما كان الثمَن باهظًا.
تزوّجتُ مِن حبيبتي فور عثَرتُ على عمل، واستأجَرنا شقّة صغيرة وجميلة، وسرعان ما بدأَت هي الأخرى وظيفة جيّدة.
كنتُ أسعَد الرجال إلى حين تذكّرتُ ذلك الأب المفجوع، فعادَ الحزن إلى قلبي. لِذا رحتُ القسم وحصلتُ على رقم هاتفه، فكنتُ بحاجة إلى أخذ بركته، لا أدري لماذا.
زرِتُ الرجل وزوجته برفقة هبة وجلَسنا جميعًا في جوّ مِن المحبّة. شعرتُ بِفرَح كبير بعدما تأكّدتُ مِن أنّ الزوجَين لا يحملان أيّة ضغينة ضدّي، بل العكس. كان الأمر وكأنّني إبن ثانٍ لهما. طلبتُ الإذن مِن صاحبَي البيت بزيارتهما مُجدّدًا وهما قبِلا بِسرور. وفي طريق العودة، بكيتُ وهبة مِن كثرة تأثّرنا.
اليوم زوجتي الحبيبة حامل وننتظرُ بفارغ الصبر ولادة إبنتنا. نعرفُ جيّدًا كيف سنُربّيها، فكلّ شيء صارَ جليًّا بالنسبة لنا، وأشكرُ ربّي على نِعمَه وأنا مُستعدّ لِقبول أيّ شيء مِن جانبه، فهو الذي خلَقَني ويعرفُ تمامًا ما يُناسبُني. فليس مِن الضروريّ أن أصبَحَ يومًا رجُلاً مهمًّا وأُنقذُ البشريّة، يكفي أن أكون مؤمنًا ومُستقيمًا وأُحافظَ على عائلتي وأُربّي جيلًا صالحًا للمستقبل.
حاورته بولا جهشان