يوم رأيتُ ما تفعله تلك المرأة وكيف أنّ الجميع كان مُتعلّقًا بكلّ كلمة تخرجُ مِن فمها، شعرتُ بأنّني أريدُ أن أكون مثلها. فالحقيقة أنّني لَم أستطع إكمال دراستي بسبب أوضاع أهلي المادّيّة. وسرعان ما تزوّجتُ مِن ذلك الوغد الذي أساءَ مُعاملتي جسديًّا ومعنويًّا وتركَني أربّي ولدَينا لوحدي.
وجدتُ عملاً يُؤمّن لنا بالكاد الطعام وشيئًا مِن أقساط مدرسة إبني وابنتي وليس أكثر. تمنَّيتُ لو حياتي كانت مُختلفة، على الأقل مِن حيث شخصيّتي التي عمِلَ أهلي وزوجي على تحطيمها لأكون أكثر طاعة.
ما أعجبَني عند تلك البصّارة كان أوّلاً القوّة التي تمتلكُها على زوّارها، فهي بالنسبة لهم تكشفُ ما هو غائب ويتحضَّرُ لهم. بالطبع لَم أكن أصدّقُ تلك التفاهات، فكيف لأحد أن يرى المُستقبل في تفل القهوة؟ فحتى لو أنّ لأيّ إنسان القدرة على ذلك، فلن يحتاج إلى البنّ أو الماء أو أيّ شيء آخر لذلك، بل يكتفي بالنظر إلى الماثل أمامه وحسب.
كنتُ قد نسيتُ أمر البصّارة حين استقبلتُ في داري المُتواضع سامية، إحدى قريباتي القادمة مِن السفر. لَم تأتِ لوحدها بل مع أخت زوجها. قدّمتُ لهما القهوة وبدأنا نتبادل الأخبار. لكن بعد انتهائنا مِن شرب القهوة، قالَت لي قريبتي:
ـ هل تُحسنين قراءة الفنجان؟ لطالما وجدتُكِ غامضة.
ـ أنا؟ لا طبعًا... وذلك الغموض الذي تتكلّمين عنه ليس سوى إنشغالي الدائم بالمشاكل اليوميّة. أنتِ تعرفين كيف هي أوضاعي.
ـ لا... لا... أشعرُ بأنّكِ مُختلفة... سأقلبُ فنجاني لتنظري فيه، نظرة واحدة أرجوكِ!
لَم أشأ كَسف ضيفتَيّ، لِذا أخذتُ نفَسًا عميقًا ورسمتُ على وجهي نظرة جدّيّة كما رأيتُ البصّارة تفعل، وتناولتُ الفنجان بيَد ووضعتُ الثانية على صدغي. سكتُّ لبضع ثواني ثمّ قلتُ لسامية:
ـ أرى طريقًا بعيدة (فهي كانت ستعودُ حتمًا إلى الخارج حيث تسكن) ومُكالمة هاتفيّة مُهمّة. سيزورُكِ العديد مِن الناس في المُستقبل القريب، لكن احترسي مِن إحدى صديقاتكِ فهي تحسدُكِ وتضمرُ لكِ الشرّ.
ثمّ جاءَ دور أخت زوج سامية. كنتُ قد لاحظتُ أنّها لا تلبسُ خاتم زواج وأنّها حزينة حتى عندما تضحك. فقلتُ لها:
ـ أرى حزنًا لدَيكِ... رجل سبّب لكِ ذلك الحزن... أجل، رجل أحببتِه. الصورة ليست واضحة تمامًا لدَيّ.
ـ هل هو يُحبّني أو بالأحرى هل أحبَّني يومًا؟
أسفتُ مِن أجل المسكينة وقرّرتُ إفراح قلبها قليلاً:
ـ أرى أنّه أحبَّكِ فعلاً إلا أنّ الظروف كانت أقوى منه.
توقّفتُ عن الكلام لأنّني لَم أعد قادرة على تأليف المزيد. شكرَتني السيّدتان ورحلتا.
تفاجأتُ كثيرًا بِسامية آتية إليّ في اليوم التالي مع ثلاث نساء بِغرَض معرفة مستقبلهنّ. أخذتُ قريبتي جانبًا وقلتُ لها:
ـ سامية... أنا لا أجيدُ فعلاً قراءة الفنجان، وما قلتُه لكِ البارحة ولتلك الآنسة لَم يكن سوى كذبات أصفُها بالبريئة.
ـ هـ هـ هـ... أعلمُ ذلك يا حبيبتي، لكنّني أُريدُكِ أن تكسبي بعض المال، فحالتكِ المادّيّة ليست جيّدة.
ـ لكنّ ذلك يعني أنّني سأنصبُ على الناس! لا أستطيع فعل ذلك!
ـ لا بل ستُفرحين قلبهنّ قليلاً وتُعطيهنّ بعض الأمل. إعتبري نفسكِ طبيبة نفسيّة. هيّا فهنّ بانتظاركِ.
فعلتُ كما قالَت لي سامية، أي أنّني رأيتُ في فنجان ضيفاتي أمورًا سعيدة كانت ستحصلُ لهنّ وقبضتُ مبلغًا صغيرًا مِن المال.
لَم أتوقّع ما حصَلَ لاحقًا، أي أنّ بيتي صارَ يمتلئ يوميًّا بمَن أراد الاطمئنان على حياته القادمة، لكنّني أدركتُ حاجة الإنسان إلى أن يقول له أحدٌ إنّ هناك مخرجًا لِمشاكله الصحّيّة والمادّيّة والعاطفيّة. أظنّ أنّ أكثر مِن نصف الذين قصَدوني لَم يكونوا يؤمنون بصدق كلامي، لكنّهم أحبّوا سماعه وكأنّ ذلك يُريحهم مِن توتّرهم.
تحسّنَ مستوى عَيشنا وصرتُ قادرة على تغيير أثاث البيت وشراء الألبسة الجميلة لي ولولدَيّ. وهما كانا يعلمان مِن أين يأتي المال ويقبلان بِصمت ما أفعله، لكنّهما كانا يخجلان بي بعدما سخِرَ منهما بعض الأولاد عندما نادوهما "أولاد البصّارة" أو "الساحرة". حزنتُ للأمر، لكنّني نسيتُه بسرعة فما كنتُ أقومُ به كان مِن أجلهما.
سرّ نجاحي في التبصير كان قدرتي على مُلاحظة التفاصيل عند الناس، والاستماع إلى الذي لَم يكونوا يقولونَه جهرًا بل بواسطة حركات بسيطة بِجسمهم أو نظرات عابرة. كلّ ذلك كان يدلُّني على المنحى الذي عليّ أخذه بكلامي. فإذا بدأتُ بموضوع المال ولَم أرَ ردّة فعل لدى أحدهم، كنتُ أنتقل إلى الأمور العاطفيّة، فما يهمّ فعلاً الإنسان؟ المال والحبّ والصحّة. وكلّ شيء مُتعلَق بهذه الأمور الثلاث.
كان قد مضى على امتهاني التبصير حوالي السنتَين، حين طُلِبَ منّي أن أعمَلَ مساءً بصّارة في أحد المقاهي. خصّصوا لي ثلاث أيّام في الأسبوع وأخذوا لي المواعيد، وصرتُ أستقبلُ الزبائن إلى طاولة موضوعة في إحدى الزوايا حيث عُرِضَت صورة كبيرة لي مع وعود جريئة بقراءة المُستقبل. في البدء خجلتُ قليلاً، ثمّ تعوّدتُ الأمر، خاصّة بعدما بدأ المال يتدفّق عليّ. وفي ذلك المكان بالذات تعرّفتُ إلى تلك التي غيّرَت مجرى حياتي.
كان اسمها ميرفَت وكانت وصديقاتها مِن روّاد ذلك المقهى. كان مِن الواضح أنّها ثريّة وذات شخصيّة قويّة، الأمر الذي صعَّبَ مهامي. فهي جاءَت إليّ مِن دون خاتم زواج ولَم أرَ بِصحبتها أيّ زوج. لِذا اعتبرتُها عزباء وكلّمتُها على هذا الأساس. وعلى مرّ زياراتها إلى طاولتي، صرتُ أعدُها بالحبّ والسعادة مع رجل وسيم يُحبُّها كثيرًا، وأنّ عليها الوثوق بحبّه والمضيّ بعلاقة معه لأنّه نصفها الآخر. وجدتُ لدَيها تردّدًا لعَيش تلك العلاقة، فقمتُ بتشجيعها ظانةً أنّها ستتزوّج أخيرًا إذ كانت في الأربعين مِن عمرها. نيّتي كانت سليمة، صدّقوني، فكنتُ فعلاً أحبّ أن تجد كلّ امرأة الحبّ الحقيقيّ بعدما ذقتُ الأمرَّين مع زوجي السابق.
ما لَم أكن أعلمه هو أنّ ميرفَت مُتزوّجة ولها عشيق يصغرها سنًّا، ولا يرى فيها إلاّ وسيلة لِكسب الهدايا والمال. وكانت تلك المرأة قد تشجّعَت كثيرًا على تَرك زوجها لتعيش قصّة حبّها في العلَن، ومَن يدري ربّما الزواج مِن حبيبها، وذلك مِن جرّاء كلامي وتأكيداتي. أعلمُ أنّني لستُ مسؤولة مُباشرةً عمّا يحصل لزبائني، فالإنسان العاقل والمؤمِن لا يُصدّقُ الهراء الذي أتلفّظُ به، لكن التلويح بالسعادة للناس بالرغم مِن ظروفهم قد يكون لعبة خطرة.
قامَت ميرفَت بِتَرك زوجها الذي حرَمَها طبعًا مِن المال وطلّقَها بسرعة فائقة. هي لَم تأبه للأمر فقد كان عشيقها، حسب اعتقادها، يُحبُّها أكثر مِن أيّ شيء فالتجأَت إليه وعاشَت معه لِفترة في شقّته الضيّقة قبل أن يطردَها، حين علِمَ أنّه لن يعود قادرًا على الاستفادة منها وبعد أن باعَت ميرفَت مجوهراتها لإرضائه. وهكذا وجدَت نفسها بلا أيّ شيء، لِذا جاءَت إليّ مُهدّدةً:
ـ لقد دمَّرتِ حياتي!
ـ لَم أقل لكِ أن تتركي زوجكِ يا سيّدة مرفَت... لَم أكن أعلمُ حتى أنّكِ مُتزوّجة.
ـ أليس مِن أبسط الأمور أن تعرف بصّارة أنّ زبونتها مُتزوّجة أم لا؟!؟
ـ وهل صدّقتِ أنّني قادرة على معرفة الغائب؟ لا أحد سوى ربّنا قادر على ذلك.
ـ لقد غششتِني وخرَبتِ كلّ ما بنَيتُه! ستندمين على ذلك!
حزنتُ لِما حصَلَ لِميرفَت وشعرتُ بالذنب، لكنّني لَم آخذ تهديدها على محمل الجدّ. ولكن أوّل شيء حصَلَ لي هو طردي مِن المقهى مِن دون تفسير. لَم يخطر ببالي أن تكون ميرفَت وراء ذلك، بل ظننتُ أنّ المالك لَم يعد يُريد بصّارة في محلّه. لكن عندما تعرّضتُ لذلك الاعتداء الوحشيّ علِمتُ مَن وراءَه.
ذات يوم وفي ساعة مُتأخّرة، كنتُ عائدة مِن عمَلي الذي، لحسن حظّي، لَم أتركه مِن أجل التبصير، لِذا لَم أرَ الرجل الذي قدِمَ مِن ورائي ووضَعَ يدَه على فمي وجرَّني إلى أحد الأزقّة المُظلمة. هناك أبرحَني ضربًا، وخلتُ صدقًا أنّني سأموتُ تحت يدَيه. لكثرة ألَمي، لَم أتمكّن مِن الصراخ أو طلَب النجدة، لكنّه لَم يقتلني بل تركَني أرضًا قائلاً: "مع تحيّات السيّدة ميرفَت". بدأتُ بالبكاء بِصمت، ثمّ جرَرتُ نفسي إلى الشارع الأساسيّ المُضاء حيث ساعدَني أحدٌ كان مارًا مِن هناك وأوصلَني إلى البيت. لَم أشأ الذهاب إلى المشفى لكثرة خجَلي ومِن خوفي على ولدَيّ، فلَم أكن أعلَم إن كان الرجل قد آذاهما أيضًا. لكنّهما كانا بخير والحمد لله.
خلال فترة نقاهتي فكّرتُ مليًّا بما حدَثَ لي، وسألتُ نفسي إن كنتُ قد أذَيتُ أحدًا آخرًا عن غير قصد. فلقد أوهمتُ الكثيرين بأنّ الحياة تفتحُ ذراعَيها لهم، وشجّعتُهم على فعل ما يلزم لنَيل السعادة. لكن إلى أيّ مدى كان هؤلاء قد وصلوا للحصول على مُبتغاهم؟
طلبتُ السماح مِن الله لأنّني ضلَّلتُ الناس ومنعتُهم، بشكل غير مُباشر، مِن الوثوق به وبحكمته. ففي آخر المطاف، الحياة هي سلسلة دروس يُريدُها لنا خالقنا لنتعلّم منها حتى نتفوّق على أنفسنا وعلى تعلّقنا بالمادّة التي هي فانية في آخر المطاف. صحيح أنّ الحبّ هو مهمّ، لكن ما هو أهمّ هو تخطّي رغباتنا البشريّة للتركيز على الروحانيّات التي تُطهّر نفوسنا. تعلّمتُ كلّ ذلك مِن خلال أوجاعي وكدماتي التي سبّبَتها لي ميرفَت، وأنا اليوم مُدينة لها.
لقد توقّفتُ طبعًا عن مُزاولة التبصير، وركّزتُ على ولدَيَّ وعمَلي البسيط الذي صرتُ أقومُ به بِفرَح واقتناع أكبر. وصارَت للّقمة التي أضعُها في فَمي طعمًا ألذّ فهي بركة مِن الله.
أيّها القرّاء، لا تُصدّقوا الذين يُلوّحون لكم بالسعادة فأنتم الذين تصنعونَها. ولا تصدّقوا مَن يقولُ لكم أنّ لدَيكم أعداء ومُبغضين، فالكره يُدمّرُ نفسكم ويشغلُ بالكم عمّا هو أهمّ: إنّ الحياة هي سلسلة لحظات جميلة وأخرى أليمة، وعلينا أخذ العبَر منها كلّها لنكون أناسًا أفضل وجديرين بتلك الهبة الثمينة.
حاورتها بولا جهشان